وفي ذات يوم قرأ صاحبنا في الصحف إعلانا من الجامعة تطلب فيه إلى الشباب أن يستبقوا إلى بعثتين من بعثاتها في فرنسا، إحداهما لدرس التاريخ، والأخرى لدرس الجغرافيا، ولم يكد يفرغ من قراءة هذا الإعلان حتى استقر في نفسه أنه صاحب إحدى هاتين البعثتين، وأنه سيعبر البحر إلى باريس لدرس التاريخ في السوربون، وإذا هو يكتب إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد هذا الكتاب:
دولتلو أفندم رئيس الجامعة المصرية
أرفع إلى دولتكم وإلى مجلس إدارة الجامعة، أني قرأت في الصحف إعلان الجامعة، أنها سترسل طالبين إلى أوروبا لدرس التاريخ وتقويم البلدان، وأنا شديد الحرص على أن أكون أحد هذين الطالبين، وعلى أن توجهني الجامعة إلى فرنسا لدرس التاريخ، واعتقادي أن الجامعة إنما تجعل مقياسها في اختيار الطلبة الكفاءة الحقيقية، وعلى ذلك أتشرف بأن أؤكد لدولتكم ولمجلس الإدارة أن الجامعة قد جعلتني - فيما أعتقد - كفئا لخدمتها بما علمتني من علم نافع، وما أدبتني به من أدب مفيد.
وأنا على يقين أن الجامعة ستستفيد مني كثيرا إن قبلتني خادما لها، وهي لن تجني مني إلا ثمر غرسها الطيب في مصر وفي أوروبا.
نعم، إن الشروط التي تشترطها الجامعة في طلبة الإرساليات ينقصني بعضها، فإني لم أحصل على الشهادة الثانوية، كما أنني مكفوف البصر. ولكني أعتقد أن نقصان هذين الشرطين لا يضرني شيئا، فأما الشرط الأول: فلا يضرني نقصانه؛ لأن ما سمعته في الجامعة من العلم، وما أديته فيها من الامتحان، وما أحرزته من الدرجات العظمى في جميع العلوم التي امتحنت فيها، وهي علوم الجامعة كلها إلا الآداب الأجنبية، وما تشرفت به في إثر ذلك من رضا مجلس الإدارة عني، وثناء الأساتذة غائبهم وحاضرهم على كل ذلك، يقوم مقام الشهادة الثانوية، ويزيد عليها من غير شك ولا ريب، ولا سيما أني شارع في تعلم الفرنسية حتى إني لأفهم بها غير قليل، وقد أتممت منها مقدارا يمكنني من دخول الجامعة في فرنسا بعد أشهر أقضيها هناك. ويضاف إلى ذلك أني أتممت في الجامعة درس تاريخ الشرق القديم، ونلت فيه الدرجة العظمى، ودرس تاريخ الإسلام، ونلت فيه أعظم درجة نالها طالب في الجامعة، ليس بيني وبين النهاية إلا درجة واحدة. وأتممت درس اللغات القديمة السامية، ونلت فيها الدرجة العظمى أيضا، وتلك مزية لم تجتمع لأحد من الطلبة المصريين في مصر، ولست أريد أن أتمدح بهذا، وإنما أريد أن أتحدث بفضل الجامعة علي، وأن هذا الفضل يجعلني أكثر الناس كفاءة لدرس التاريخ وخدمة الجامعة فيه.
أما الشرط الثاني: وهو فقدان البصر فليس يمنعني أن أسمع دروس الأساتذة ولا أن أؤديها، أي ليس يمنعني أن أكون طالبا وأستاذا، وإذا كان قضاء الله قد قضى علي هذه البلية فقد عوضنى منها خيرا، وأنا أجل المجلس عن أن يتخذ بلية كهذه عقبة تحول بيني وبين ما أريد من الخير لنفسي وللجامعة.
حقا إن الجامعة إذا قبلت هذا الطلب فستضطر إلى أن تزيد في نفقتي ما يمكنني من الاستعانة بمن يكون معي في فرنسا، ولعمري لئن فعلت ذلك، فليس بضائر لها، بل هو يدل على كرم نفس وعلى تضحية في معونة من يحتاج إلى الإعانة والتعضيد. على أني مستعد لأن تسترد الجامعة مني بعد عودتي من أوروبا ما أنفقته علي زيادة على النفقات العادية تأخذه من مرتبي أقساطا، وما أظن الجامعة تكره أن تتفضل علي بهذا القرض الجميل.
لذلك كله أرفع إلى دولتكم وإلى مجلس الإدارة هذا الطلب راجيا أن تتفضلوا بقبوله، ولكم الشكر الجميل والثناء المحمود.
طه حسين
طالب بالجامعة المصرية
अज्ञात पृष्ठ