الجزء الثالث
الفصل الأول
على باب الأزهر
كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدها أربعين عاما؛ لأنها طالت عليه من جميع أقطاره، كأنها الليل المظلم، قد تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال، فلم تدع للنور إليه منفذا، ولم يكن الفتى يضيق بالفقر ولا بقصر يده عما كان يريد، فقد كان ذلك شيئا مألوفا بالقياس إلى طلاب العلم في الأزهر الشريف.
وكان الفتى يرى من حوله عشرات ومئات يشقون كما يشقى، ويلقون مثل ما يلقى، وتقصر أيديهم عن أقصر ما كانوا يحبون، قد اطمأنوا إلى ذلك، وألفته نفوسهم، واستيقنوا أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للجد والكد والاجتهاد والتحصيل، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال.
وإنما كان يضيق أشد الضيق بهذا السأم الذي ملأ عليه حياته كلها، وأخذ عليه نفسه من جميع جوانبها.
حياة مطردة متشابهة لا يجد فيها جديد منذ يبدأ العام الدراسي إلى أن ينقضي: درس التوحيد بعد أن تصلى الفجر، ودرس الفقه بعد أن تشرق الشمس، ودرس في النحو بعد أن يرتفع الضحى، وبعد أن يصيب الفتى شيئا من طعام غليظ، ودرس في النحو أيضا بعد أن تصلى الظهر، ثم فراغ فارغ كثيف بعد ذلك يصيب فيه الفتى شيئا من طعام غليظ مرة أخرى. حتى إذا صليت المغرب راح إلى درس المنطق يسمعه من هذا الشيخ أو ذاك، وهو في كل هذه الدروس يسمع كلاما معادا وأحاديث لا تمس قلبه ولا ذوقه، ولا تغذو عقله، ولا تضيف إلى علمه علما جديدا، فقد تربت في نفسه تلك الملكة كما كان الأزهريون يقولون، وأصبح قادرا على أن يفهم ما يكرره الشيوخ من غير طائل.
وكان الفتى يفكر في أن أمامه ثمانية أعوام أخرى، سيعدها ثمانين عاما، كما عد الأعوام الأربعة التي سبقتها، وفي أن عليه أن يختلف إلى هذه الدروس كما تعود أن يفعل، وأن يعيد ويبدئ في هذا الكلام، الذي لا يسيغه ولا يجد فيه غناء.
وفي أثناء هذا كله ذكر اسم الجامعة، فوقع في نفسه أول الأمر موقع الغرابة الغريبة؛ لأنه لم يسمع هذه الكلمة من قبل، ولم يعرف إلا الجامع الذي كان ينفق فيه بياض النهار وشطرا من سواد الليل. فما عسى أن تكون الجامعة؟ وما عسى أن يكون الفرق بينها وبين جامعه ذاك أو جوامعه تلك الكثيرة التي كان يختلف فيها إلى شيوخه؟ فما أكثر ما كان بعض الشيوخ ينأون بدروسهم وطلابهم عن الأزهر، ويؤثرون أنفسهم بمسجد من هذه المساجد الكثيرة في الحي! وكان تنقل الفتى بين هذه المساجد يرفه عنه بعض الترفيه.
على أنه لم يلبث أن فهم كلمة الجامعة هذه فهما مقاربا، وعرف أنها مدرسة لا كالمدارس، وأحس أن مزيتها الكبرى عنده أن الدروس التي ستلقى فيها لن تشبه دروس الأزهر من قريب أو بعيد، وأن الطلاب الذين سيختلفون إليها لن يكونوا من المعممين وحدهم، بل سيكون فيهم المطربشون، وعسى أن يكونوا أكثر عددا من أصحاب العمائم؛ لأن هؤلاء لن يعدلوا بعلمهم الأزهري علما آخر، ولن يشغلوا أنفسهم بهذه القشور التي يضيع فيها أبناء المدارس - كما كانوا يسمونهم في تلك الأيام - أوقاتهم.
अज्ञात पृष्ठ