بعد هذا ساد صمت. كان الرجال السيخ الطوال الملتحون واقفين في مجموعة حول رءوس خيولهم، يرمقون فلوري بنظرة لا تنم عن استحسان. بدا واضحا تماما أن فيرال قد مل من المحادثة ويريد الهروب. أما فلوري فلم يشعر قط في حياته أنه غير مرغوب فيه تماما إلى هذه الدرجة، أو أنه عجوز ورث الهيئة إلى هذا الحد. لاحظ أن مهر فيرال كان عربيا جميلا، أنثى فرس، بعنق أشم وذيل مقوس في نعومة الريش؛ كائن أبيض كالحليب بديع، يقدر بعدة آلاف من الروبيات. كان فيرال قد هز اللجام بالفعل ليستدير، شاعرا كما يبدو أنه قد تحدث بما يكفي هذا الصباح.
قال فلوري: «لديك فرسة رائعة.» «لا بأس بها، أفضل من الحيوانات البورمية الهجينة تلك. لقد جئت لممارسة رياضة التقاط أوتاد الخيام. فلا جدوى من ضرب كرة البولو في هذه الحثالة.» ثم نادى وهو يدور بمهره مبتعدا: «يا هيرا سينج!»
ناول الجندي الذي كان يمسك المهر الأكمت اللجام لزميله، وجرى إلى بقعة على بعد أربعين ياردة، وثبت في الأرض وتدا رفيعا من خشب البقس. لم يعر فيرال فلوري اهتمامه مرة أخرى، وإنما رفع حربته ووازن نفسه مستهدفا الوتد، فيما تراجع الهنديان بفرسيهما بعيدا عن الطريق ووقفا يشاهدان بتدبر. لكز فيرال جانبي المهرة بركبتيه بحركة بالكاد محسوسة، فوثبت متقدمة مثل القذيفة من المنجنيق. بسلاسة كأنه قنطور، انحنى الشاب النحيل المنتصب القامة على السرج، وأنزل حربته وغرسها في الوتد من دون خطأ. تمتم أحد الهنود قائلا بصوت أجش: «أحسنت!» رفع فيرال حربته وراءه بالطريقة التقليدية، ثم دار بفرسه وناول الوتد المطعون للجندي.
قصد فيرال الوتد مرتين أخريين، وأصابه في كل مرة. وقد تم ذلك برشاقة منقطعة النظير وبوقار غير عادي. كانت مجموعة الرجال بأسرها، الرجل الإنجليزي والهنود، منتبهة إلى عملية إصابة الوتد كما لو كانت طقسا دينيا. وقف فلوري يشاهد، متجاهلا؛ إذ كان وجه فيرال واحدا من تلك الوجوه التي صممت خصوصا لتجاهل الغرباء غير المرحب بهم. لكن بصرف النظر عن حقيقة أنه قد عومل بازدراء، فهو غير قادر على انتزاع نفسه والابتعاد؛ فقد ملأه فيرال بطريقة ما بشعور بشع بالدونية. وبينما هو يحاول التفكير في ذريعة ما لتجديد الحوار، رأى إليزابيث في لباس أزرق فاتح، حين ارتفع ببصره إلى جانب التل، وهي تخرج من بوابة عمها. لا بد أنها قد رأت وخز الوتد لثالث مرة. انتفض قلبه بشكل مؤلم. فقد خطرت له فكرة، إحدى تلك الأفكار الطائشة التي دائما ما تؤدي إلى متاعب. فنادى فيرال، الذي كان على بعد بضع ياردات منه، وأشار بعصاه: «هل هذان الاثنان مدربان على ذلك؟»
نظر فيرال من فوق كتفه متجهما؛ إذ كان قد توقع أن ينصرف فلوري بعد تجاهله. «ماذا؟»
أعاد فلوري قوله: «هل يستطيع الاثنان الآخران أن يفعلا ذلك؟» «الكستنائي لا بأس به. لكنه ينطلق إذا سمحت له.» «هلا سمحت لي بمحاولة التقاط الوتد؟»
قال فيرال بفظاظة شديدة: «حسنا، لكن لا تكثر من شد اللجام حتى تؤذي الشكيمة فمه .»
جاء جندي بالمهر، وتظاهر فلوري بأنه يتفحص سلسلة الشكيمة. لكنه كان في الواقع يتلكأ إلى أن تصير إليزابيث على بعد ثلاثين أو أربعين ياردة. عقد العزم على إصابة الوتد في نفس اللحظة التي تمر فيها بالضبط (وهو الأمر السهل تماما على صهوة الأمهار البورمية الصغيرة، شريطة أن يركضا مباشرة)، ثم يذهب إليها ومعه الوتد على رأس الحربة. كانت تلك الحركة المناسبة يقينا. لم يردها أن تظن أن ذلك الفتى الصغير متورد الوجه هو الشخص الوحيد الذي يستطيع امتطاء الخيل. كان يرتدي سروالا قصيرا، وهو ما لم يكن مريحا في ركوب الخيل، لكنه كان يعلم أنه، مثل أي شخص تقريبا، يبدو في أحسن صورة على صهوة الخيل.
راحت إليزابيث تقترب؛ فصعد فلوري إلى السرج، وأخذ الحربة من الهندي ولوح بها محييا إليزابيث. لكنها لم تحر ردا. ربما انتابها الخجل في حضور فيرال. كانت تنظر بعيدا، في اتجاه الجبانة، وقد توردت وجنتاها.
قال فلوري للرجل الهندي باللغة الهندية: «هيا!» ثم لكز جانبي الحصان بركبتيه.
अज्ञात पृष्ठ