قالت إليزابيث لما جاءها فلوري: «من ذانك الاثنان؟ يا لهما من كائنين عجيبين! كانا في الكنيسة يوم الأحد. أحدهما يكاد يكون أبيض. إنه ليس رجلا إنجليزيا بالطبع، أليس كذلك؟» «لا، إنهما من الأوروبيين الآسيويين؛ أبناء لآباء بيض وأمهات من أهل البلد. نطلق عليهما اسم الأصفرين على سبيل المداعبة.» «لكن ماذا يفعلان هنا؟ وأين يقيمان؟ وهل لديهما أي عمل؟» «إنهما يعيشان بطريقة أو بأخرى في البازار. وأعتقد أن فرانسيس يعمل كاتبا لدى مراب هندي، وصامويل لدى بعض المحامين. لكنهما قد يتضوران جوعا أحيانا لولا كرم أهل البلد.» «أهل البلد! هل تقصد أن تقول إنهما يتسولان من أهل البلد؟» «أعتقد هذا. إنه أمر سهل للغاية لمن يريد. فالبورميون لا يتركون أحدا يتضور جوعا.»
لم تكن إليزابيث قد سمعت بشيء من هذا القبيل من قبل قط. صدمها صدمة شديدة أن يكون هناك رجال بيض ولو جزئيا يعيشون في فقر بين «أهل البلد » حتى إنها توقفت فجأة في الممشى وتأجلت مباراة التنس بضع دقائق. «لكن كم هذا فظيع! أعني أنه نموذج سيئ! تكاد تكون مثل أن يعيش واحد منا هكذا. ألا يمكن فعل شيء لذينك الاثنين؟ نجمع لهما تبرعات ونرسلهما بعيدا عن هنا، أو شيء من هذا القبيل؟» «أخشى أن هذا لن يجدي كثيرا. أينما ذهبا سيكونان في نفس الوضع.» «لكن ألا يمكنهما الحصول على عمل مناسب؟» «أشك في ذلك؛ فالأوروبيون الآسيويون من ذلك النوع - الرجال الذين يترعرعون في البازار ولا يتلقون تعليما - يقضى عليهم منذ البداية؛ فالأوروبيون يرفضون أدنى تعامل معهم، كما يمنعون من دخول أدنى المصالح الحكومية. ليس بوسعهما سوى أن يتسولا، إلا إذا أقلعا عن أي ادعاء بأنهم أوروبيون. والواقع أن ذلك ليس مما قد يفعله أولئك المساكين. فإن نقطة الدم الأبيض هي الميزة الوحيدة لديهم. فرانسيس المسكين، لم ألقه قط دون أن يشرع في إخباري بشأن إصابته بطفح جلدي؛ حيث إن السكان الأصليين ليس من المفترض أن يعانوا من الطفح الجلدي. هراء بالطبع، لكن الناس تصدقه. وهكذا ضربة الشمس. إنهما يرتديان هاتين القبعتين الضخمتين ليذكرونا بأن لديهما جمجمتين أوروبيتين. وكأنه شعار نبالة أو شيء من هذا القبيل. شعار الدولة إذا جاز التعبير.»
لم يرق هذا إليزابيث؛ إذ شعرت أن فلوري كان، كدأبه، يكن شفقة خفية نحو الأوروبيين الآسيويين. كما أثار مظهر الرجلين بداخلها شعورا عجيبا بالكره. هنا كانت قد حددت نوعهما؛ فقد بدوا مثل الداجوز. مثل أولئك المكسيكيين والإيطاليين وغيرهم من الداجوز الذين يلعبون دور الشر في العديد من الأفلام. «لقد بدوا من الأشخاص شديدي الانحطاط، أليس كذلك؟ في غاية النحافة والهزال والتذلل؛ ولا يبدو على وجهيهما أي من سمات الأمانة؟ أظن أن هذين الرجلين الأوروبيين الآسيويين في غاية الانحطاط. فقد سمعت أن المولدين دائما ما يرثون الأسوأ في العرقين. هل ذلك صحيح؟» «لا أعلم إذا كان ذلك صحيحا. أغلب الأوروبيين الآسيويين ليسوا أشخاصا صالحين، ومن الصعب معرفة كيف كانوا سيصيرون صالحين في ظل الطريقة التي نشئوا بها. لكن سلوكنا تجاههم بغيض نوعا ما. فنحن دائما ما نتحدث عنهم كأن الأرض انشقت عنهم فجأة مثل الفطر، وكأن هذه العيوب طبيعة فيهم وقد جبلوا عليها. لكننا في النهاية مسئولون عن وجودهم.» «مسئولون عن وجودهم؟» «حسنا، أقصد أن كلهم لديهم آباء.» «أوه ... بالطبع يوجد ذلك ال... لكن مهما يكن من أمر، أنت لست مسئولا. أقصد وحده نوع وضيع جدا من الرجال قد ... آه ... تجمعه علاقة بنساء البلد، أليس كذلك؟» «أوه، بالتأكيد. لكن والدا ذينك الرجلين كانا رجلي دين في رتب كهنوتية، على ما أعتقد.»
تذكر روزا ماكفي، الفتاة الأوروبية الآسيوية التي غرر بها في ماندالاي عام 1913، وكيف كان يتسلل إلى المنزل في عربة يجرها الخيل مغلقة الدرف؛ وخصلات شعر روزا المعقوصة؛ وأمها البورمية العجوز الذابلة، وهي تقدم له الشاي في حجرة معيشة معتمة بها أصص سراخس وأريكة من الخوص. ثم ما كان، حين جافى روزا، وتلك الخطابات المتوسلة المريعة، المكتوبة على ورق رسائل معطر، التي امتنع عن فتحها في النهاية.
عادت إليزابيث إلى موضوع فرانسيس وصامويل بعد مباراة التنس. «هذان الأوروبيان الآسيويان ... هل لأي أحد هنا أي علاقة بهما؟ مثل أن يدعوهما إلى منازلهم أو ما إلى ذلك؟» «يا إلهي، لا. فهما منبوذان تماما. في الواقع ليس من المقبول تماما التحدث إليهما. فأغلبنا نقول لهما صباح الخير فحسب. إليس لا يفعل ذلك حتى.» «لكنك تحدثت معهما.» «حسنا، إنني أخرق القواعد من حين لآخر. أقصد أنك ربما لن تري سيدا أوروبيا يتحدث معهما. لكنني في الحقيقة، أحاول - أحيانا فقط، حين تواتيني الشجاعة - ألا أتصرف مثل مجتمع البوكا صاحب.»
كانت ملحوظة طائشة؛ إذ كانت تعلم جيدا في هذا الوقت معنى عبارة «بوكا صاحب»، وما يمثله. وقد جعلت ملحوظته الفرق بين وجهتي نظرهما أوضح قليلا. كانت النظرة التي رمقته بها شبه معادية، وقاسية قسوة غريبة؛ إذ كان وجهها يستطيع أن يبدو قاسيا أحيانا، رغم نضارته وبشرته الرقيقة كأوراق الزهور. كانت النظارة العصرية المصنوعة من صدفة السلحفاة تلك تعطيها مظهرا رزينا جدا. غريبة النظارات في قدرتها على التعبير؛ إذ تكاد تكون معبرة أكثر من العينين حقا.
لم يتأت له حتى هذا الوقت فهمهما ولا كسب ثقتها تماما. لكن لم تسؤ الأمور بينهما، ظاهريا على الأقل. كان يثير حنقها أحيانا، لكن لم يكن الانطباع الحسن الذي تركه في ذلك الصباح حين التقيا أول مرة قد انمحى بعد. لكن كان ثمة حقيقة غريبة ألا وهي أنها كانت بالكاد تلاحظ وحمته في هذا الوقت. وكانت تستمتع بالاستماع إليه وهو يتحدث في بعض الموضوعات. الرماية، على سبيل المثال؛ فقد بدت متحمسة للرماية وهو ما كان شيئا غير مألوف في الفتيات. وكذلك الخيل؛ لكنه كان أقل معرفة بالخيل. وكان قد استعد لاصطحابها في يوم للرماية، لاحقا، حين يستطيع التحضير لذلك. كان كلاهما يتطلعان لهذه الرحلة الاستكشافية بحماس بعض الشيء، وإن لم يكن لنفس الأسباب بالضبط.
الفصل الحادي عشر
سار فلوري وإليزابيث في طريق البازار. كان الوقت صباحا، لكن الهواء شديد الحرارة حتى إن السير فيه كان مثل الخوض في بحر متقد. مر بهما، صفوف من البورميين، قادمين من البازار، منتعلين صنادل تحك في الأرض، ومجموعات من أربع وخمس فتيات يحثثن السير متقاربات، بخطوات قصيرة سريعة، يثرثرن وشعورهن البراقة تلمع. على جانب الطريق، قبل أن تصل إلى السجن مباشرة، تناثرت أجزاء من معبد حجري، بعد أن حطمتها الجذور القوية لإحدى أشجار التين المجوسي وأسقطتها. وعلى مقربة التفت شجرة تين مجوسي أخرى حول نخلة، فاقتلعتها وثنتها للوراء في صراع استمر طوال عقد.
سار الاثنان ووصلا عند السجن، الذي كان مبنى ضخما مربعا، يمتد كل جانب منه مائتي ياردة، بجدران خرسانية بيضاء اللون ترتفع عشرين قدما. راح يتبختر على السور طاووس، كان هو الحيوان الأليف للسجن، وقد التفت أصابع قدميه للداخل. وجاء ستة مدانين، مطأطئو الرءوس، يجرون عربيتين ثقيلتين مكدستين بالتراب، تحت حراسة سجانين هنود. كانوا رجالا محكوما عليهم بعقوبات طويلة، أطرافهم ثقيلة، يرتدون ملابس موحدة من قماش أبيض خشن بأغطية رأس مخروطية الشكل وقفت منتصبة على رءوسهم الحليقة. أما وجوههم فقد مالت إلى اللون الرمادي، وبدت خانعة ومفلطحة بشكل غريب. وقد راح الحديد الذي يطوق سيقانهم يجلجل بصدى واضح. ومرت امرأة تحمل على رأسها سلة سمك جعل غرابان يحومان حولها وينقضان عليها، والسيدة تلوح بيد واحدة في غير اكتراث لإبعادهما.
अज्ञात पृष्ठ