لوح الطبيب بيده متحمسا. كان دائما ما يقاطع المناقشة عند هذه النقطة، لأنه كان يجد أن حالة سيام توقفه. «يا صديقي، يا صديقي، لقد نسيت الشخصية الشرقية. كيف كنا سنتطور ببلادتنا وخرافتنا؟ لقد جلبتم القانون والنظام على الأقل. العدالة البريطانية التي لا تحيد وهيمنة السلام البريطاني.» «بل الطاعون البريطاني يا دكتور، الطاعون البريطاني هو المسمى المناسب. ولمن هذا السلام على أي حال؟ المرابي والمحامي. لا شك أننا نحافظ على السلام في الهند من أجل مصلحتنا، لكن ما الذي ينتهي إليه كل هذا القانون والنظام؟ المزيد من البنوك والمزيد من السجون، هذا خلاصة الأمر.»
هتف الطبيب: «يا لها من تلفيقات بشعة! أوليست السجون ضرورية؟ وهل السجون هي كل ما أتيتمونا به؟ تأمل بورما أيام ثيبو بما ساد فيها من قذارة وتعذيب وجهل، ثم انظر حولك. فلتطل من هذه الشرفة فقط، انظر إلى ذلك المستشفى، وإلى تلك المدرسة على اليمين وقسم الشرطة ذلك. انظر إلى نهضة التقدم الحديث!»
قال فلوري: «إنني لا أنكر بالتأكيد أننا نطور هذا البلد في نواح معينة. فلا يمكن ألا نفعل هذا. بل وقبل أن نفرغ من هذا سنقضي تماما على الثقافة القومية البورمية. لكننا لا نجعلهم متحضرين، وإنما ننفض غبارنا عليهم. إلى أين ستؤدي نهضة هذا التقدم الحديث، كما تدعوها؟ فقط إلى حظيرتنا القديمة للجرامافونات والقبعات المستديرة. يخطر لي أحيانا أنه خلال مائتي عام كل هذا - أشار بقدمه نحو الأفق - كل هذا سيختفي؛ الغابات والقرى والأديرة والمعابد كلها ستختفي. وبدلا منها ستقام فلل وردية تبعد كل منها عن الأخرى خمسين ياردة؛ في جميع أنحاء التلال، وعلى مرمى البصر، فيلا بعد الأخرى، فيها كلها جرامافونات تصدر نفس اللحن. ستمحى كل الغابات من على الأرض، وتفرم إلى لباب خشب لطباعة جريدة «نيوز أوف ذا وورلد»، أو تنشر لصنع صناديق الجرامافونات. بيد أن الأشجار تثأر لنفسها كما يقول الرجل العجوز في مسرحية «البطة البرية». لقد قرأت أعمال إبسن بالطبع، أليس كذلك؟» «لا للأسف، يا سيد فلوري! إنه عبقري جبار كما قال عنه برنارد شو كاتبكم الملهم. يسرني ذكر سيرته. لكن ما لا تراه يا صديقي أن حضارتكم في أسوأ حالاتها تظل خطوة إلى الأمام بالنسبة إلينا. فالجرامافونات والقبعات المستديرة و«نيوز أوف ذا وورلد»، كلها أشياء أفضل من بلادة الشرقيين الكريهة. أرى البريطانيين، وحتى أقلهم ذكاء، بمثابة، بمثابة - راح الطبيب يبحث عن عبارة، حتى وجد واحدة ربما من ستيفنسون - بمثابة حاملي الشعلة على طريق التقدم.» «لا أراهم كذلك. أراهم نوعا من القمل المغرور النظيف المعاصر. يتسللون في أنحاء العالم لبناء السجون. يبنون سجنا ويسمون هذا تقدما.» أضاف بشيء من الندم: فالطبيب لن يدرك التشبيه. «حقا إنك تكرر موضوع السجون يا صديقي! فلتعترف أن هناك كذلك إنجازات أخرى لأهل بلدك. فإنهم ينشئون الطرق ويروون الصحاري، ويقضون على المجاعات، ويبنون المدارس، ويقيمون المستشفيات، ويكافحون الطاعون والكوليرا والجذام والجدري والمرض التناسلي.»
قاطعه فلوري قائلا: «الذي جلبوه بأنفسهم.»
فرد عليه الطبيب، متحمسا لنسب هذا التميز لأهل بلده، وقال: «لا يا سيدي! لا يا سيدي، الهنود هم من أدخلوا المرض التناسلي في هذا البلد. الهنود يدخلون الأمراض، والإنجليز يداوونها. هذه هي الإجابة على كل تشاؤمك وتحريضك.» «حسنا يا دكتور، إننا لن نتفق أبدا. الواقع هو أنك تهوى كل هذه الأمور المتعلقة بالتقدم الحديث، بينما أميل أنا إلى رؤية الفساد في الأمر. أعتقد أن بورما في أيام ثيبو كانت ستناسبني أكثر. وكما قلت من قبل، لو كان لنا تأثير تحضري، فهذا فقط من أجل بسط سيطرتنا على نطاق أكبر. لو لم يكن الأمر مجديا لكنا تخلينا عنه سريعا.» «ليس هذا رأيك يا صديقي. إن كنت تستنكر الإمبراطورية البريطانية بحق، ما كنت ستتحدث في الأمر سرا هنا. كنت ستجاهر به فوق أسطح المنازل. فإنني أعرف شخصيتك أكثر مما تعرفها أنت نفسك يا سيد فلوري.» «معذرة يا دكتور؛ إنني لا أحبذ المجاهرة من فوق أسطح المنازل. فليس لدي الشجاعة. إنما «أنصح باتباع سبيل السلام على وضاعته»، مثل بليال العجوز في «الفردوس المفقود»، فهذا آمن سبيل. في هذا البلد، إما أن تكون واحدا من السادة البيض المبجلين أو تموت. وإنني لم أتحدث مع أحد بصدق سواك منذ خمسة عشر عاما. إن أحاديثي هنا بمثابة صمام أمان؛ طقس سري لعبادة الشيطان، إذا فهمت ما أعني.»
في هذه اللحظة جاء من الخارج صوت نحيب بائس. كان ماتو العجوز، البواب الهندوسي الذي يحرس الكنيسة الأوروبية، واقفا في ضوء الشمس أسفل الشرفة. كان مخلوقا مسنا مصابا بالحمى، أقرب شبها إلى حشرة الجندب من الإنسان، تلفع بخرقة قذرة لا تزيد عن بضع بوصات مربعة. كان يقطن بالقرب من الكنيسة في كوخ مبني من صفائح الكيروسين المفرودة، من حيث كان يمضي مهرولا عند ظهور أحد الأوروبيين، ليحييه منحنيا ويشكو بعبارات ما حول مرتبه، الذي كان ثماني عشرة روبية شهريا. راح ماتو يرنو في مسكنة إلى الشرفة، وهو يدلك بيد جلد بطنه الشبيه بلونه بالوحل، وبيده الأخرى يؤدي حركة من يضع الطعام في فمه. تحسس الطبيب جيبه ورمى قطعة بأربعة آنات من فوق درابزين الشرفة. كان معروفا برقة قلبه، فكان كل الشحاذين في كياوكتادا يستهدفونه.
قال الطبيب، مشيرا إلى ماتو، الذي انحنى مثل الدودة وهو يتفوه بنحيب الامتنان: «انظر إلى تردي الشرق. انظر إلى ضعف أطرافه. إن ساقيه أنحف من ساعدي الرجل الإنجليزي. انظر إلى بؤسه وذله. انظر إلى جهله؛ جهل لا تراه في أوروبا إلا خارج دار المرضى العقليين. ذات مرة سألت ماتو عن عمره، فقال: «أعتقد يا سيدي أنني في العاشرة.» فكيف تدعي يا سيد فلوري أنكم لستم أسمى طبيعة من تلك المخلوقات؟»
قال فلوري وهو يلقي قطعة أخرى بأربع آنات من فوق السور: «مسكين ماتو العجوز، يبدو أن نهضة التقدم الحديث قد فاتته بطريقة ما. هيا يا ماتو، أنفقها على الشراب. لتنغمس في الفسق بقدر ما تستطيع. هذا كله يؤخر اليوتوبيا.» «حسنا يا سيد فلوري، أشعر أحيانا أن كل ما تقوله إنما هو لكي - ما هو التعبير؟ - تستدرجني. إنه حس الدعابة الإنجليزي. نحن الشرقيين لا نتمتع بحس دعابة، كما هو معروف.»
قال فلوري: «محظوظون. أما نحن فقد أهلكنا حس دعابتنا اللعين.» ثم تثاءب واضعا يديه خلف رأسه. كان ماتو قد ابتعد بخطوات متثاقلة بعد أن لفظ المزيد من الأصوات المعبرة عن الامتنان. «أعتقد أنه ينبغي أن أذهب قبل أن ترتفع الشمس اللعينة عاليا في الأفق. سيكون الحر بالغا هذا العام، أشعر به يتسلل إلى عظامي. حسنا يا دكتور، لقد طالت بنا المجادلة للغاية حتى إنني لم اسألك عن الأخبار. لقد وصلت من الغابة بالأمس فقط، وعلي أن أعود بعد غد. لا أعلم ما إذا كنت سأفعل. هل وقع أي شيء في كياوكتادا؟ أي فضائح؟»
بدت الجدية على الطبيب بغتة، وخلع نظارته، فصار وجهه شبيها بوجه كلب ريتريفر أسود، بعينيه السوداوين اللامعتين. أشاح ببصره، وتحدث بنبرة أكثر ترددا عن ذي قبل بقليل. «في الواقع، ثمة مسألة غير سارة على الإطلاق مقبلة يا صديقي. قد تثير ضحكك - فهي تبدو هينة - لكنني في مشكلة خطيرة. أو بالأحرى معرض لمشكلة. إنها مسألة سرية. أنتم الأوروبيون لن تعلموا بها أبدا مباشرة. في هذا المكان - أشار بيده في اتجاه البازار - تحاك باستمرار مؤامرات ودسائس لا تسمعون بها، لكنها تعني لنا الكثير.» «ماذا حدث إذن؟» «ثمة مكيدة تدبر ضدي، هذا ما في الأمر. مكيدة شديدة الخطورة الهدف منها تشويه سمعتي والقضاء على مستقبلي المهني. لن تفهم هذه الأشياء لأنك رجل إنجليزي. لقد أثرت عداوة رجل ربما لا تعرفه، يو بو كين، قاضي المركز. إنه من أخطر الرجال، والأذية التي يستطيع إلحاقها بي تفوق الحصر.» «يو بو كين؟ من هذا؟ ذكرني به.» «الرجل الضخم البدين ذو الأسنان الكثيرة. يقع منزله آخر الطريق، على بعد مائة ياردة.» «ذلك الوغد البدين؟ أعرفه جيدا.»
अज्ञात पृष्ठ