وعدت في المساء فالتقيت بالزميلة الفنانة، وحضرنا معا ملهاة سينمائية جميلة عنوانها «جنة القبطان»، ثم تعشينا في مطعم صيني، وهناك على مائدة العشاء دار بيننا حديث ثقافي طويل بلغنا به أعلى ما يمكن لمثلنا أن يبلغه من ارتفاع، وكان الموضوع هو هذا: هل يستطيع الفنان أن يقيد نفسه بقوانين المجتمع وأوضاعه؟
أما أنا فقد أخذت بوجهة النظر القائلة بأنه يستحيل على فنان أصيل أن يخضع لأي قانون غير ما يشرعه لنفسه من نظام، ومن ثم اتهامه عادة بالشذوذ أو بالجنون؛ فالفنان العظيم هو أولا وقبل كل شيء إنسان ذو خيال قوي يحطم قيود الزمان والمكان، فلا هو يرتبط بعصره، ولا هو يتقيد بتقاليد بلده وقومه، فإذا تخيل الفنان طريقة للعيش ولم يعش وفق خياله كان فنانا ناقص التكوين أو ضعيف العقيدة.
وأما زميلتي الفنانة فقد دافعت بقوة وبراعة وسعة اطلاع عن الفكرة القائلة إن الفنان العظيم لا بد له كسائر الناس من قيود، وضربت لذلك أمثلة كثيرة من الموسيقيين بصفة خاصة، ثم أمثلة أخرى من رجال الأدب؛ فملتن مثلا رجل متدين عميق الإيمان، ولم يمنع استسلامه للعقيدة الدينية من أن يكون شاعرا عظيما، لا بل إنه كان شاعرا عظيما بسبب عقيدته الدينية ... ثم قالت: إنهم صغار الفنانين هم الذين يتظاهرون بالخروج على كثير من الأوضاع والقواعد ليكملوا بهذا الشذوذ نقصا في شخصياتهم؛ وهنا أخذت تسوق أمثلة كثيرة من أدب «توماس مان» خصوصا قصته «موت في البندقية»؛ لأنها قصة عن فنان أعزب أبى أن يتزوج، وأخيرا طفحت به غريزته فمالت به إلى شذوذ حتى أحب غلاما في باريس.
ثم تحدثنا عن الفن الأمريكي وهل له خصائص تميزه من الفن الأوروبي، فوافقتني على أن الفن الأمريكي يساير المدارس الأوروبية خطوة خطوة ... لكن حديثي معها قد أظهرني على سعة اطلاع عجيبة؛ لأنها تعرف الشيء بتفصيلاته، ولا يكفيها المعلومات العامة كما هي الحال مع معظم مثقفينا في مصر؛ فلو قالت مثلا: إن الفن الفرنسي يتميز بكذا وكذا، راحت تسوق الأمثلة الجزئية من لوحات معينة وهكذا.
وسألتني عن رأيي في نيويورك، وكانت شوارع نيويورك عندئذ تتلألأ بأنوارها، خصوصا وأن زينة عيد الميلاد لا تزال قائمة بروعتها وفنها وجمالها على واجهات المباني الكبرى، فقلت لها: إن من يدرك الفرق بين الكلمتين الإنجليزيتين:
House
و
Home (وأقترح ترجمتها إلى العربية بكلمتي: «منزل» و«مسكن» على التوالي، على اعتبار أن الأول دار للنزول بغض النظر عن سكينة النفس أو عدم سكينتها، وأن الثاني دار تتوافر فيها سكينة النفس وطمأنينتها) يدرك الفرق بين نيويورك وسائر البلاد التي رأيتها؛ فنيويورك «منزل» جميل جدا رائع جدا، نظيف جدا، مصقول جدا، لكن كل شيء فيه يوحي بأن الإقامة هنا موقوتة مرهونة بظروف، وليست هي بالإقامة الدائمة التي تضرب فيها الأسرة بجذورها أجيالا متعاقبة.
إنني أستطيع أن أقول إن نيويورك - بل إن الولايات المتحدة كلها - قد ركزت روائع حياتها في ثلاثة شوارع، هي شوارع «برودواي» للسينمات والمسارح، و«الطريق الخامس» لكبريات المحلات التجارية، و«بارك آفينو» (أو «طريق البستان» إن شئت ترجمة عربية لهذا الاسم) لفنادق ومساكن الطبقة العليا ... ولكل شارع من هذه الثلاثة خصائصه، وأعتقد أن من يدرس بدقة هذه الشوارع الثلاثة فقد درس جانبا مهما من الحياة الأمريكية والذوق الأمريكي حين يبلغ أقصى مداه ... وليس لمثلي أن يقول شيئا عن «طريق البستان»؛ لأنه لن يتاح لي أن أدخل منزلا فيه أو فندقا من فنادقه، وليس الشارع هو ظاهر مبانيه، بل هو ما تحتويه تلك المباني ... لكني أقول عن شارع «برودواي» إنه لا يزيد على شوارع المسارح في المدن الأخرى إلا في الدرجة لا في النوع؛ فلافتات السينما كبيرة تعشي البصر بأضوائها الوهاجة، وحتى المتاجر والمطاعم في برودواي تساير هذا البريق المتوهج، والناس في هذا الشارع في زحام لا ينقطع، وأعقاب التذاكر تملأ الأرصفة ... وأما «الطريق الخامس» فهو مختلف عن أمثاله في النوع، فلا تستطيع مثلا أن تكبر بالخيال شارعا في مصر ثم تقول إن هذا هو «الطريق الخامس » بنيويورك؛ فليس هو بالمختلف عن ضريبه في القاهرة في أنه أوسع وأن عماراته أعلى ومحلاته التجارية أكبر ... لا، بل هنالك فرق في النوع أيضا، هنالك فرق في الروح، في الذوق البديع البادي في معروضات النوافذ التجارية، وفي جودة الأصناف المعروضة وغلاء أسعارها ... حتى الناس الذين تراهم سائرين في هذا الشارع ساعة الضحى هم - كما يخيل إلي - من صنف مختلف؛ إذ ترى كثيرات من سيدات بمعاطف الفراء يفحن بالعطور ... هن مختلفات عمن ترى في برودواي؛ لأنك ترى في برودواي أخلاطا من الناس.
الانتقال من شارع إلى شارع في نيويورك هو انتقال في المكان لا في الزمن ... ليس في نيويورك غزارة زمنية، ليس فيها رواسب الأيام والقرون، الانتقال بين الشوارع الثلاثة التي ذكرتها: طريق «البستان» و«الطريق الخامس» و«برودواي» - التي تمثل كما قلت جانبا هاما من نواحي الحياة الأمريكية - هو انتقال يدل في امتدادات الزمن على يوم واحد؛ فللطريق الخامس ساعات الضحى، ولبرودواي الساعات الأولى من المساء، ولطريق البستان الحفلات الساهرة التي تقضي ما بقي من الليل وراء ستر من الجدران.
अज्ञात पृष्ठ