لا تكاد الآن تدخل دكانا أو مطعما أو بيتا إلا وجدت فيه زينة عيد الميلاد أشكالا وألوانا؛ وقد ذهبت عصرا مع الأستاذ «خ» إلى مطعم بعيد في مكان جميل هادئ منعزل لنشرب الشاي في ذلك الفردوس الأرضي! فكان المطعم مزدان النوافذ بكرات ملونة؛ مزدان الجدران والموائد بالألوان الفاقعة ... وذلك يثير سؤالا كبيرا عن الذوق الأمريكي في وجوه كثيرة، فلا شك في ميل الأمريكيين إلى الألوان الصارخة التي هي من علامات الذوق البدائي، أفيكون إذا لوجود الزنوج بينهم أثر في تشكيل أذواقهم؟ إنك ترى هذه الزخارف الزاعقة في ألوانها، وتسمع موسيقى الجاز التي هي في صميمها موسيقى زنجية، وتشهد الرقص الذي يرقصه كثيرون من الشبان الأمريكيين وهو قريب جدا من الرقص الزنجي، ثم تجد الألوان الصارخة في ثيابهم؛ فأربطة الرقبة فاقعة غريبة التلوين والرسوم، والجوارب تميل إلى الألوان العالية؛ فهي شديدة اللون الأحمر أو اللون الأزرق ... إلخ، وأقراط النساء فيها نزوع ملحوظ نحو الفن البدائي ... أفلا يجوز - كما قلت - أن يكون هذا كله نتيجة وجود الزنوج؟ قد يكون، وقد يكون ذلك نتيجة تفرعت عن مبدأ أعم وهو أن الأمريكيين شعب لا يضع على نفسه الضواغط النفسية، ولا يقيد نفسه بالحواجز بغير موجب ولا داع؛ هو شعب في نفسه انطلاق في التعبير، فإن كان من طبيعة النفس إذا تركت على سجيتها أن تحب هذه الألوان التي لا تزمت فيها، ففيم التحفظ والتكلف وردع الطبائع باللجم والشكائم؟!
الإثنين 21 ديسمبر
قصدت هذا الصباح إلى متحف الفن، فكان أول ما لقيت فيه بهوه الأوسط؛ وهناك وقفت مشدوها أمام هذه العظمة وهذا الجلال، لو كنت تركت لخيالي أن يصور لنفسه بهوا يبلغ من الجلال أقصاه، لما استطاع الخيال أن يتصور شيئا يذكر بالقياس إلى هذا الواقع الذي أراه الآن وألمسه: هذه العمد الرخامية السوداء، وهذه الأرض الرخامية السوداء، وهذه النافورة في الوسط وفي أعلاها تمثال صغير أسود، والماء منبثق يتلألأ بأضواء ملقاة عليه من مصادر لا تراها ...
وقفت لحظة أفكر لنفسي ماذا أرى من أجزاء المتحف؟ وكيف أرى؟ وسرعان ما صممت ألا أكون جشعا؛ لأن ذلك قد يقتضي أن أنظر بالعين إلى أشياء كثيرة دون أن أعي شيئا، والأفضل أن أتخير القليل، ثم أتقن النظر إلى ما أتخيره، وأخذت لنفسي فن القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ في أمريكا أولا، وفي إنجلترا ثانيا، وفي فرنسا ثالثا ... إذا كان المتحف ونظامه يتيح لي هذا التقسيم.
كان الفن الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر أميل إلى تصوير أشخاص، استرعى نظري من بينها صور رسمها «ستيوارت» ... ولاحظت مما رأيت من صور أن الفن الأمريكي قد أخذ في نهاية القرن يميل تدريجا نحو رسم الطبيعة بدل الأشخاص، كصورة «منظر أمريكي» للفنان «إنس»، وكالصور الكثيرة التي رسمها فنانهم العظيم «هومر» عن البحر وما يتصل به؛ ومن أجمل ما رأيته ل «هومر» صورة وقفت أمامها مدة طويلة من شدة إعجابي بها، وهي صورة بطتين طائرتين: إحداهما في وضع معتدل، والأخرى في وضع مقلوب.
نتاج الفن الأمريكي ليس مجموعا كله في مكان واحد من المتحف؛ فعليك أن تتعقبه بين مزيج من نتاج كثير مختلف الأصول، وأكثر ما تراه ممتزجا به هو نتاج الفن الإنجليزي؛ إذ ترى آيات من هذا الفن معروضة هناك، رسمها الفنانون «رينولدز» و«جينز بره» و«رومني» و«ريبرن» و«تيرنر» وغيرهم.
وطابع الفن الإنجليزي - كما هي الحال في الفن الأمريكي - في القرن التاسع عشر هو الصور الكبيرة لأشخاص من علية القوم حينئذ؛ وتعليل ذلك بالطبع هو أن القرن التاسع عشر كان عصر أرستقراطية تتركز اجتماعاتها في «الصالونات» لا في الطبيعة المكشوفة، والمنازل إبان تلك الفترة - أعني منازل الكبراء - كانت فسيحة الغرف عالية الجدران؛ ولما كان الفن دائما - أعني قبل عصرنا الحالي - خادما للطبقة الممتازة في المجتمع، فقد كان الشغل الشاغل لفناني ذلك العصر أن يصوروا أفراد تلك الطبقة لتوضع صورهم على جدران منازلهم؛ وإذا فقد كان حتما أن تكون الصور كبيرة متناسبة مع الغرف الفسيحة والجدران العالية ... لست أدعي أنني ذو ذوق ممتاز في التقدير الفني، لكنني على كل حال أثبت خبرتي، وهي أني قليل الإعجاب بالفن الذي يصور أشخاصا مهما يبلغ من الجودة والإتقان.
وانتقلت من مجموعة القرن التاسع عشر إلى مجموعة أخرى من الفن الحديث وما سبقه بقليل، فكان الانتقال مفاجئا والاختلاف بين المجموعتين بعيدا، وهنا أطلت الوقوف، وأمعنت النظر عند بعض الفنانين بغية أن أتشبع بخصائص الفن الجديد.
أطلت الوقوف جدا عند صور «بيكاسو» و«ماتيس» وكلاهما - كما هو معروف - من رواد الحركة الجديدة في التصوير، وحاولت أن أفهم وأن أقدر ما أراه ... والمفتاح في تقدير الفن الحديث هو ألا تسأل عن الصورة التي تنظر إليها: «صورة ماذا؟» خذ الصورة على أنها نهاية في ذاتها، هي صورة كما أن الشجرة شجرة، والنهر نهر، والقمر قمر؛ فليست الصورة تصور شيئا من وجهة النظر الحديثة في الفن، بل هي صورة بمعنى أنها تقدم للعين مزيجا متسقا متناغما من ألوان، فإن وجدت عينك في الصورة هذا الاتساق اللوني فهي جميلة، وإذا فالسؤال الرئيسي عن أي صورة حديثة هو: «هل يسرني أن أنظر إلى هذه الصورة؟» ... وإنه من لطيف ما يروى في هذا الصدد ما قاله «ماتيس» لسيدة وقفت تشهد صورة رسمها، والصورة لامرأة كما هو ظاهر، لكنها امرأة مرسومة على نحو بعيد عن واقع الحياة بعدا لا يستسيغه من لا يستسيغ الفن الحديث؛ فسألته السيدة متعجبة: كيف يمكن أن تقول إن هذه امرأة؟ فأجابها «ماتيس»: يا سيدتي ليست هذه امرأة، إنها صورة.
أقول إني أطلت الوقوف عند «بيكاسو» و«ماتيس»، وحاولت الفهم والتقدير أولا، فأعجبني كثير من نتاجهما؛ فلا يزال منطبعا في ذهني صورة لامرأة عارية الظهر تصفف شعرها، من رسم «ماتيس» وصورة «مأساة» من رسم «بيكاسو» ... لكن هناك صورا كنت أعجب عجبا لا ينقطع: ماذا فيها مما يجعلها فنا ممتازا؟ مثلا صورة «بيكاسو» لزوجته، وهي صورة يخيل إليك أن مبتدئا قد رسمها بالطباشير، وصورة «لبيكاسو» أيضا اسمها «عاشقان».
अज्ञात पृष्ठ