إنني حين ألاحظ ملاحظة عن الأمريكيين مما يكون مخالفا لرأي الناس عنهم، ثم أجد هذه الملاحظة بعينها قد وردت على لسان زائر آخر، أشعر باطمئنان على صدق حكمي ... ألم ألاحظ مرارا أنني أرى اختلاط الرجال بالنساء في الحياة الاجتماعية هنا محدود، وفي نطاق ضيق وعلى كثير من التحفظ؟ قلت ذلك وأنا متردد؛ لأنه يناقض ما يقال عن الأمريكيين من اختلاط بين الجنسين لا يقف عند حد مشروع ... لكني وجدت اليوم أن كاتبة فرنسية قد أصدرت كتابا عن زيارتها لأمريكا، وهي «سيمون دي بوفوار»، والكتاب عنوانه «أمريكا يوما بعد يوم»، ومن ملاحظاتها «أن العلاقة بين الرجال والنساء عسيرة في أمريكا؛ فالرجال يوصدون دون أنفسهم أبواب نواديهم، وكذلك يفعل النساء في نواديهن، ويخيل إلي أن الإخفاق الجنسي مما يميز الأمريكي والأمريكية؛ فكانت النتيجة أن بردت العاطفة في نسائهم، وقلت الخبرة في رجالهم؛ ولهذا تراهم كثيرا ما يلجئون إلى الشراب وسيلة لتحطيم الحواجز والموانع النفسية التي تحول بين الجنسين ...»
الإثنين 14 ديسمبر
حضرت في المساء اجتماع الندوة الفلسفية في منزل الدكتور «ف»؛ حيث ألقى الدكتور «ب» أستاذ الأدب الألماني كلمة يلخص بها قصة للكاتب الأوروبي «هرمان هس»، وهو كاتب لا يزال حيا بلغ الآن عامه الثمانين، والقصة من جزأين في أصلها الألماني، وعنوانها في الترجمة الإنجليزية «ماجستر لودي» - والعنوان الأصلي معناه الحرفي هو «لعبة الخرز» ... وملخص القصة أن جماعة في دير يفكرون تفكيرا نظريا، وقد جعلوا موضوع بحثهم هو الأصول المشتركة بين الموسيقى والرياضة، ثم الأصول المشتركة بين العلوم كلها، كما جعلوا لغة البحث رموزا رياضية، لكنهم على شدة ما بلغوا من أعماق عميقة في أبحاثهم تلك، كانوا مقطوعي الصلة بالعالم الخارجي العملي الواقعي؛ وجاءهم ذات يوم رجل من هذا العالم، فكانت الهوة السحيقة التي تفصل وجهة نظره عن وجهات أنظارهم - أي تفصل بين أوضاع الحياة العملية عن التفكير النظري - مدعاة إلى رئيس الجماعة أن يخرج من ديره إلى العالم الصاخب، واختار لنفسه مهنة التعليم حرفة، فتولى بالتربية طفلا هو ابن الرجل الذي كان قد زار الدير ... وحدث يوما أن خرج الأستاذ وتلميذه الصغير حتى جاء إلى بحيرة مثلوجة، واستطاع الطفل الناشئ أن يعود فينجو؛ أما الأستاذ الذي تعمق الأبحاث النظرية إلى أغوارها فقد غرق ومات.
ودارت مناقشات طويلة عميقة بين الحاضرين حول الفكرة الرئيسية التي أدار عليها الكاتب قصته، وهي الموازنة بين البحث النظري والحياة العملية، أين يلتقيان وأين يفترقان؟
ويشاء الله ألا يتم هذا الاجتماع العلمي الثقافي الذي كان ينبغي أن يخلو من ترهات الإنسان وتفاهاته، بغير هفوة من أحد الحاضرين أثارت ثائرتي على الرغم من ضبطي لأعصابي وإمساكي لزمام نفسي؛ فلست أرى كيف أدى الحديث إلى الإسلام، وهنا سألني من الحاضرين سائل: أتعدون قصة ألف ليلة وليلة بما فيها من شهوات جنسية قصيدة الإسلام الكبرى؟ ... فجلست لحظة صامتا أنظر إليه وأقبض على زمام نفسي، وأستجمع أطراف تفكيري الذي أذهله مثل هذا السؤال من أستاذ جامعي المفروض فيه علو الثقافة واتساع المعرفة ورقة الذوق؛ ثم قلت:
الشهوة الجنسية في ألف ليلة وليلة - يا سيدي الأستاذ - هي أحلام الشباب المراهق في أي بلد من بلاد العالم؛ ألف ليلة وليلة مجموعة من القصص فيها تصوير للنفس الإنسانية في وجه من وجوهها، وقل فيها بعد ذلك ما شئت من نقد أدبي يرفعها أو يخفضها؛ لكن ما دخل الإسلام في ذلك؟
ولست أدري ماذا قال هذا الأستاذ مما أثار انفعالي، وجعلني أقول له: يجب أن تعلم أن الإسلام قد ظهر بعد المسيحية بسبعة قرون، وقد ظهر في نفس المكان الذي ظهرت فيه المسيحية - أعني الشرق الأوسط - وإذا فهو تحسين وتطور وتقدم وليس هو بالنكسة والتأخر.
وهنا تدخل الأستاذ - الذي قرأ البحث - ليعين زميله، فقال كلاما بدأه بقوله: «إن الثقافة الأوروبية مسيحية ...» فقاطعته قائلا: هذا خطأ؛ نعم هي عبارة تكررونها آلاف المرات، وخطؤها واضح؛ فالثقافة الأوروبية وثنية في صميمها وليست هي بالمسيحية في شيء؛ الثقافة الأوروبية الحاضرة قائمة على ثقافة النهضة، وهذه الأخيرة قد أقيمت من حيث الأدب والفن على اليونان، ثم أقيمت إلى جانب ذلك على العلم الذي هو قبل كل شيء اهتمام بالطبيعة لا بالإيمان الديني.
فقال: ألا يمكن القول إن المسيحية طابع التفكير الغربي؟ قلت له: خطأ أيضا؛ لأن المسيحية ليست إنتاجكم، بل هي إنتاج الشرق الأوسط انتقل إليكم، وعلى أحسن الفروض بعد ذلك، أخذتم الإنتاج وترجمتموه وقبلتموه، وحتى على هذا الفرض، فالكتاب إنما يدل على كاتبه لا على مترجمه أو قارئه؛ فنحن أهل الشرق الأوسط بمثابة من أنتج كتابا ثم أرسله إليكم ... ومع ذلك فليس الفرض صحيحا؛ لأنكم لم تقبلوا المسيحية في الواقع، بل تظاهرتم بقبولها، وما زلتم تتظاهرون بقبولها؛ فالمسيحية حب وسلام، وأوروبا من بين بقاع العالم كله أكثر أجزاء الأرض قتالا داخل حدودها وخارج حدودها على السواء ...
على أنني بعد ذلك كله أحب أن أنبهك إلى ما لم تكن عالما به، وهو أن الإسلام والمسيحية لا يختلفان إلا في نقطة جوهرية واحدة، هي التثليث المسيحي الذي جعله الإسلام توحيدا ...
अज्ञात पृष्ठ