69

इंसान कहाँ है

أين الإنسان

शैलियों

وأول ما صادفني بيت فيه جرار مملوءة عسلا مغطاة ظواهرها بأنواع الذباب المتكاثفة وهي تطن طنينا. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه ضربت مثلا لأحوالكم الاجتماعية، وأخلاقكم الحيوانية، فإن الرجل الفاضل يحيط به المذبذبون الذامون كما يحيط الذباب بجرار العسل، وما هي بضارة الجرار، ولا بناقصات العسل، ففي ذلك عبرة للمفكرين.

ثم انطلقنا إلى روضة خضراء كأنها مرج ابن عامر ببلاد الشام، فأبصرت عقربا صفراء كأنها تل كبير، نائمة في مزارع البرسيم وهي تأكله أكلا لما، وتطارد رجلا من الزارعين، فعجبت لعظمة جسمها، وكيف تأكل البرسيم وهو ليس لها بطعام. فقلت: ما هذا؟ فقال: ذلك الرجل العظيم يبذر في عقول الشبان الحكمة والموعظة الحسنة فيؤذيه أعداؤه الألداء، حسدا على فضيلته، وهو ناج إذا كان من المخلصين.

ثم انطلقنا، فرأيت رجلا معمما واقفا وقد أحاطت به طيور سود من كل حدب تنسل، وهي تتعاوون على انتزاع عمامته بمناقيرها، وهو ممسك بها، فلا هي عن رأسه رفعتها، ولا هو مفرط في حفظها. فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا مثل الرجل العظيم عندكم، يحيط به الأعداء الحاسدون لينتزعوا شرفه، فإذا ثبت على أخلاقه ومبادئه فإنه من الفائزين.

ثم هجم علي النوم. فقال: سأنصرف لشأني ومتى استيقظت حضرت لديك، فلما أن قمت من النوم ألفيتني بين مزارع نضرات، وحقول خضرات، ولا أنيس لي، والليل مرخ سدوله، متمط بصلبه، ناء بكلكله، والنجوم زاهرة، وبينهن نجمة مشرقة، صوب القطب الجنوبي، فاجتمع بنفسي ضدان؛ فرح بالجمال والأنوار، وخوف من وحدتي في الظلام، فما أسرع ما حضر صاحبي إلي، وسلم علي، وقال: إن حالك الساعة أشبه بحال الحكماء في الأمم المقهورة، يفرحون بما آتاهم الله من حكمته، وما شرفهم به من النظر في جماله وخلقته، ويخافون من جهال السواس الذي يبغضون الحكماء حسدا لهم على مرتبتهم، وما كان لهم أن يطفئوا أنوار المصلحين.

فلما أن أشرقت الغزالة، وطلع النهار، ركبنا ذات ألواح ودسر شراعية في بحر لجي، كأنها تسير من أرض المشارق إلى المغارب، وهي على الطراز الشرقي، تحمل قوما ذوي منظر جميل، فاستوقف نظري أن رأيت نملا يحيط بها من سائر جوانبها. فقلت: ما هذا التمثيل؟ قال: أما السفينة فالنجاة بالعلم، وأما الراكبون فهم العلماء، وأما النمل فهم رجال السياسة الصادقون، أولئك هم الذين يؤيدون العلماء المصلحين.

ثم رست بنا السفينة على جزيرة خضرة نضرة، فرأيت رجلا واقفا، وفوق الرءوس في جو السماء، طير أبيض كبير، مقدار جسم الإنسان، وقد نطق باسمه بلسان عربي مبين، فنادى ذلك الرجل عليه، فنزل إليه، فقبل الرجل جناحيه. فقلت: ما هذا؟ فقال: أما الرجل فمثال الحكماء والأنبياء، وأما الطير في جو السماء وما نطق باسم هذا الرجل، فمثال ذكره الحسن بين العالمين، وعموم علمه بين الشرقيين والغربيين ، والله لا يضيع أجر المحسنين، فإن كنت في شك من ذلك فاسأل عن قصص يوسف الصديق النبي، كيف عف عن الخنا، وصبر على السجن والأذى، وعلم الصعاليك المسجونين الأدب، ولم ينسلخ عن آدابه وفضله، وعفا عن إخوته الذين كانوا له حاسدين، فأوتي الملك والحكمة واليقين.

واسأل النبي محمدا

صلى الله عليه وسلم ، كيف صبر على أذى قريش، وكيف صفح عمن آذوه من الأقربين، وكيف أوتي الملك والشرف بين العالمين.

ثم مشينا قليلا فإذا رجل جالس على كرسي، قد كبرت عينه كأنما هي كرة مصور الجغرافيا في المدارس قدرا ورسما وهيئة، وما أدري كيف كان المنظر إذ ذاك، حسنا مقبولا لا مشوها مرذولا، وهو ينظر في السحاب، والشمس قد توارت بالحجاب، وقد صبغته بدمها المطلول، وعندمها المحلول، وكان السحاب قطعا سودا وبيضا وصفرا وحمرا، على نسبة اقترابه من الشمس وابتعاده عنها، والنسمات لاعبات بأغصان النخيل والأعناب، ولها غوير، وصفير، ونفحات مطربات، وترى الأوراق تتصافح، والأغصان تتعانق، فطورا تشب إلى العلا، وطورا تتدلى، وآونة تسكن النسمات، فتسكن الحركات، وتتقطع اللفتات، وسمعت الرجل يقول: «عجبا لجمالك، وواها لصنعك وبهائك، زوقت السحاب، ولونت السماء، فوحق بهائك، وبديع جمالك، لألونن قلوب الناس بالعلوم، أنت نظمت سماواتك، وزخرفت جناتك، ونصبت ميزانك، فلأنظمن العلوم، ولأزينن بها القلوب، ولأنصبن ميزانا عادلا، به يقوم الناس بالقسط والعدل، ولأرفعن به الفضيلة، ولأنزلن الرذيلة إلى سجين.»

وإذ ذاك، ظهر القمر ووضح نوره، والحشرات معنيات، في تلكم الخلوات، فنظر نظرة إليه، وقال: «هذا هو المجد الرفيع، والصنع البديع، ما للإنسان يبني، ويهدم الدهر بناءه، أعمار قصيرة، وأعمال كثيرة، تقضي عليها المهلكات، وتزيلها الموبقات، مجد داثر، وعمل بائر، وشرف فاتر، القمر عمل مجيد، ومجد قديم جديد، أين مجد الإنسان، إنما الجمال في السماوات، لا عز في الحياة الدنيا، إنما العز في البقاء، إنما حياتنا أشبه برسوم يقرؤها الصبيان، فإذا قرءوها أزالوها، إنما الحياة لعب ولهو وزينة، فلأصطفين من العمل ما يبقى نفعه، ويعظم وقعه، إننا نعلم في الأرض تمرينا على الفضيلة، فإذا استحققنا الشرف أوتيناه.

अज्ञात पृष्ठ