199

मेरे कागज़... मेरा जीवन (भाग एक)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

शैलियों

من مكتب سنترال الجيزة أرسلت برقية إلى أخي الأكبر في مديرية التحرير، طلبت مكالمة تليفونية «ترنك» إلى عماتي في كفر طحلة: «بابا مات، خلوا حد يفتح المقبرة، العربية حتوصل عندكم الساعة اتناشر الضهر، قبل صلاة الجمعة والدفن على طول بعد الصلاة ما فيش صوان اللي عاوز يعزي يبعت تلغراف.» •••

هبط قلبي مع هبوط النعش من بيتنا محمولا فوق الأكتاف منها كتفاي، كان أبي يهبط هذه السلالم كل يوم فوق قدميه، الآن يهبط داخل الصندوق المغلق، قلبي تحت ضلوعي مثل قطعة حجر، يغوص في القاع، يثقل مع كل درجة يهبط فيها النعش، خرج الصندوق إلى الشارع داخله أبي، رأيته يغادر بيتنا للمرة الأخيرة.

داخل عربة الموتى السوداء جلست، الصندوق إلى جواري لا يزال فيه أبي، أستأنس بوجوده وأعلم أنه ميت، أريد أن أستبقيه إلى جواري أطول فترة ممكنة، إلا أن الرحلة كانت ساعة واحدة، عند الجسر رأيت رجالا كثيرين واقفين، من كفر طحلة وطحلة والقرى المجاورة، كان المنادي قد طاف يعلن خبر الوفاة وموعد الجنازة والصلاة في الجامع.

عند المقبرة هبطت تحت الأرض مع أبي الملفوف بالحرير الأبيض، أردت أن أقص الكفن كما فعلت مع أمي، همست عمتي فاطمة في أذني: «ما حدش هنا بيسرق الكفن يا ضكطورة.» خرجت من المقبرة وحدي بدون أبي، أبحث بين الوجوه عن وجهه، الهواء البارد يلفحني من كل جانب.

طابور طويل من آل السعداوي يتقدمهم أحد الأقرباء «الحاج محمد» كان أبي يسميه «مسيلمة الكذاب»، استولى على نصيب أبي من الأرض، سافر إلى الحجاز ليمسح ذنوبه، عاد يحمل لقب الحاج، يقترف من الذنوب ما يشاء، ثم يزور قبر الرسول ويمسح ذنوبه، يلف رأسه بعمامة كبيرة، في يده مسبحة صفراء، يبسمل ويحوقل بأسماء الله التسعة والتسعين، فوق جبهته زبيبة سوداء علامة التقوى والسجود الطويل، عيناه ضيقتان تلمعان كعيني الصقر، حاجبان كثيفان فوق أنفه كالنتوء في صخرة، شاربه الأسود طرفاه مبرومان إلى أعلى فوق الصدغين المدببين. - السيد بيه السعداوي لازم ينعمل له صوان كبير أوي يا ضكطورة عشان الناس تيجي تعزي من مصر وبنها وكل بلاد الدنيا! - اسمع يا حاج محمد، الصوان والحاجات دي كلها مظاهر فارغة، وبابا قال لما أموت مش عاوز صوان، والمصاريف أولى بيها إخواتي البنات. - لا يمكن يا ضكطورة! ده السيد بيه السعداوي على سن ورمح! لا يمكن يموت فطيس كده! - طيب يا حاج محمد اعمل أنت الصوان ومعاك فلوس الأرض بتاعة السيد بيه السعداوي!

كان أبي ينتمي إلى جيل ثورة 19، جيل يشعر بذاته الجديدة، يريد تأكيدها والظهور على مسرح الأحداث، كان يؤمن بالله والرسول، انتقل عن طريق التعليم إلى الطبقة الوسطى، عرف فساد الحكم الملكي والاحتلال البريطاني، الهوة الساحقة بين الفقراء والأغنياء، يقرأ القرآن مثل ما يقرأ المعري والمنفلوطي، يميل إلى الصوفية، يحلم بتحرير الوطن، يحب الأدب والشعر، يراوده حلم طفولي أن يكون كاتبا كبيرا أو شاعرا مرموقا مثل حافظ وشوقي، إلا أن الحكومة قضت عليه، أفنى عمره داخل الوظيفة، عاش حياته يعاني الإحباط، لا يجد العزاء إلا في قراءة القرآن، يرتفع عن متع الحياة الزائلة، يقاوم الشهوات بسعادة وحزن، يشتهي لذة الدنيا ويشتهي سعادة الآخرة، يضحي باللذة من أجل السعادة، اختيار مؤلم يمنحه بعض الراحة.

كان أبي يشعر بالتفرد، يمشي بقامته الفارعة شامخا قوي الجسم قوي الروح، يكبح جماح نفسه، يتغلب على الشيطان، يرى نفسه محشورا داخل الأتوبيس، قطعة من السردين، واقف في الطابور أمام المخبز، يشعر بالمهانة، يعيش في ظل حكومة تقتل كل تفرد، يعود إلى البيت محبطا مرهقا، القرآن يعيد إليه السلوى، الحزن نوع من العبادة، يركع ويسجد لله، يعشق امتهان النفس أمام الله، الله هو اليقين ما عداه قابل للشك.

لم يكن موت أبي مثل أمي، أربعة شهور ونصف تفصل الحدثين، لم تمت أمي إلا في حضوري، انتظرتني حتى أعود إلى البيت، لم تسلم روحها إلا ويدها ممسكة يدي، كالعصا تتكئ عليها لتغادر الدنيا، كانت تتكئ على ذراعي حين نمشي على شاطئ الترعة، طال بها المرض وهي راقدة في الفراش، من شدة الألم توسلت إلي أن أنهي حياتها، لم أملك شجاعة قتلها، لم يرتفع حبي لها إلى هذه الدرجة، كنت أحب نفسي أكثر، أشفق على نفسي من تأنيب الضمير.

كانت أحملها بين ذراعي كالطفلة، أطعمها في فمها بيدي، أدلك ظهرها ببودرة التلك، أغير فراشها المبلل، أضع وعاء البول تحت ردفيها، أراها عارية وأنا أحممها، لا يخدش عريها حيائي، جسدها يشبه جسدي، يحملها جسدي كأننا جسد واحد، ضاع الوجع من جسدي حين ماتت أمي، تلاشى جسدها المريض داخل جسدي، نهضت واقفة أفرد قامتي عن آخرها، أفرد ذراعي وأملأ صدري بالهواء.

موت أبي كان مختلفا، مات أبي في غيابي، انتهز فرصة غيابي في حفل الأوبرج ومات، أراد أن يموت وحده دون أن يمسك بيدي، مات فجأة، قبل أن يموت كان في المقهى مع أصدقائه يلعب الطاولة، ضحك معهم كثيرا على المقارف في وزارة المعارف، اشترى من الفاكهة في ميدان الجيزة ثلاثة كيلو برتقال بصرة، كيس آخر ملأه بالموز المغربي أبو نقطة، حمل الكيسين بين ذراعيه وعاد بخطوته الواسعة يدب فوق الأرض، كانت شهيته للحياة مفتوحة، خلع ملابسه وارتدى البيجاما والروب دي شامبر، جلس يقرأ في كتاب الجاحظ عن جوهر الحياة، نهض إلى الحمام ليغتسل قبل أن ينام، خرج من الحمام، فوق الطرقة بين الحمام وغرفة النوم سقط كالشجرة تسقط وهي واقفة.

अज्ञात पृष्ठ