मेरे कागज़... मेरा जीवन (भाग एक)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
शैलियों
تتلفت حولها في دهشة، البيت جميل، الحديقة جميلة، الشمس ساطعة، تحمل لقب بروفيسير دكتر، لكن المنفى يظل هو المنفى.
أمامي النافذة مفتوحة على الشمس والخضرة الغزيرة، أشجار البلوط اكتست بالأوراق بعد عري الشتاء، أشجار الصنوبر بسيقانها الطويلة الرشيقة تهتز مع الهواء كراقصات الباليه، أشجار الأرز المثلثة الشكل تومض بدوائر الضوء كأشجار الكريسماس، وأشجار أخرى لا أعرفها تنبت في الغابات الأمريكية كالنباتات الشيطانية، تتوارى وراء السحب برءوسها السوداء وشعورها الطويلة، تذكرني بالغولة في حكايات جدتي والعفاريت، كنت أبحث عن العفاريت في قريتي وفي مدينتي القاهرة، كانت العفاريت تبحث عني، تحمل اسما آخر هو «زوار الفجر»، لا يظهرون إلا بعد منتصف الليل قبل طلوع الشفق الأحمر، يكون الناس غارقين في النوم العميق، أعمق مرحلة في النوم يسمونها «الموتة الصغرى»، تخلو تماما من الأحلام، إن كان هناك حلم فلا يمكن تذكره، في هذه الساعة يتحرك زوار الفجر، يدخلون البيوت على نحو عجيب، يدقون جرس الباب، إن لم يفتح أحد يفتحون القفل، يكسرونه بأداة مكتومة الصوت.
فوق مكتبي تتراكم أوراقي حياتي، بدأت أكتب سيرتي الذاتية منذ غادرت الوطن، التهديد بالموت جعل حياتي هامة تستحق الكتابة، حياتي تزداد قيمة بالاقتراب من الموت، لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة، لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية، لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية، لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام.
ألهذا السبب كانت الكتابة محرمة على النساء والعبيد؟!
أمضيت السنين الخمس الأخيرة بعيدا عن مصر، أربع سنوات منها عشتها في مدينة ديرهام، أستاذة زائرة في جامعة ديوك، أسير على القدمين من بيتي في سيلفان رود إلى الكامباس، أخترق الغابة الصغيرة بين سيقان الأشجار الباسقة، لا أسمع إلا صوت حذائي الكاوتش يلامس الأرض، تطقطق أوراق الشجر تحت قدمي، طائر أخضر يشبه عصفور الجنة يغرد فوق شجرة، حنين إلى صوت ابنتي تناديني في الصباح، الشمس ساطعة تذكرني بشمس القاهرة في الشتاء، زرقة السماء لم أر مثلها في العالم، الصفاء السماوي بلا دخان، لا ذرة تراب، زرقة مقطرة بلا شوائب لسماء ممدودة حتى شاطئ الأطلنطي، بلا جبال، بلا ثلوج ولا صقيع، فقط الشمس والسماء، وأشجار الأرز والصنوبر والبلوط، تتغير ألوانها في الخريف، تتفجر ألوان الطيف، مهرجانا من الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والرمادي، يحلق طائر غريب لم أره في أي بلد، ريشه أخضر وأزرق، قدماه حمراوان، الغابة ساكنة كالسماء، رهبة السكون المطلق، لا تتبدى أمامي إلا الطبيعة الأم، أكاد أرى وجه الإله رع، وأنا أحملق في قرص الشمس، كأنما رأسه سيطل من وراء هذه السحابة الشفافة، شعره طويل يشبه «نوت» إلهة السماء.
الصور تتزاحم في خيالي، لعبت دور الإلهة إيزيس ابنة نوت على خشبة المسرح، في المدرسة الابتدائية منذ خمسين عاما، بلمسة واحدة من يدي أعدت الحياة إلى زوجي الميت أوزوريس.
في ذاكرتي الطفولية صورتي وأنا أمشي على جسر النيل، أحملق في المياه تتحرك في موجات صغيرة، تلمع في ظلمة الليل كالأسماك الفضية، تنشق عن امرأة شعرها طويل، تخرج من الماء نصف عارية، تجلس فوق الجسر تمشط شعرها، تبتسم لي في حنان الأم، أجري مبتعدة عنها، أخاف أن تخطفني وتأكلني في قاع البحر.
كيف تحولت الإلهة الأنثى القادرة على منح الحياة بعد الموت إلى غولة تأكل الأطفال؟! سؤال لم يخطر لي على بال حتى بلغت الخامسة والعشرين من عمري، كنت طبيبة ناشئة في قريتي وسط دلتا النيل، أمسك كشافا صغيرا وأمشي في الليل، أبحث عن الغولة أو العفاريت بلغة جدتي. •••
رياح المحيط الأطلنطي تضرب هذه المدينة الصغيرة في جنوب أمريكا الشمالية، أمواج كالجبال تمسح الشواطئ المهجورة، صرخات الطيور البحرية، أكبر من النورس ترفرف، تحفظ توازنها فوق حافة الجرف الصخري، عواء الهيروكين القادمة من قلب الأطلنطي كعواء الذئاب أو نداء جنيات البحر.
ذكريات تروح وتجيء مع خطواتي داخل الغابة، تعود بي إلى الوطن ومدينة القاهرة، أرى أصدقائي وصديقاتي أحياء أمامي، يتحركون، لم يعودوا صورا في ذاكرتي أو أسماء في مفكرتي، أعدت إليهم الحياة كما فعلت إيزيس بزوجها، صديقي رجاء أسير معه على شاطئ النيل، أدرك وأنا أمشي أنه مات، مع ذلك أتأبط ذراعه قليلا في مشيته، كأنما له ساق أقصر من ساق، يضغط بقدمه اليمنى على الأرض في كل خطوة، هذه المشية كنت أراها عيبا، أصبحت الآن هي الشيء المميز له، حركة جذابة تميزه عن الرجال الآخرين، أتعرف عليه من بعيد بهذه المشية الخاصة والبدلة الرمادية المكوية، حذاؤه اللامع رغم الشوارع المتربة، في أيام العطلات يكون في كامل هندامه، لا يجلس على الدكك الحجرية بشط النيل، لا يقزقز الترمس ولا الفول الحراتي، هذه العيوب الصغيرة كانت تفسد صداقتنا؛ فأنا أحب الجلوس على النتوءات الصخرية داخل البحر، المطر فوق وجهي وشعري، وهو يفضل الجلوس على مقعد نظيف في الكازينو الأنيق الذي يطل من بعيد على البحر.
अज्ञात पृष्ठ