मेरे कागज़... मेरा जीवन (भाग एक)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
शैलियों
تتوقف ستي الحاجة عن الكلام وتضحك فجأة، وينتفض جسدها الطويل الضامر داخل الجلباب الأسود شهقات مكتومة متقطعة كالنسيج، تشد طرف الطرحة وتخفي فمها وأنفها تحاول أن تحبس الضحك حتى تختنق وتطفر الدموع من عينيها تمسحها بطرف طرحتها السوداء. •••
لم أكن أعرف في طفولتي إن كانت جدتي تضحك أم تبكي، أغلب الظن أنها كانت تضحك، عيناها بعد أن تمسحها تلمعان فجأة، يكسوهما بريق غريب، يعودها الضحك حتى تختنق مرة أخرى، تخفي فمها وأنفها بالطرحة السوداء، وتقول: «اللهم اجعله خير يا رب.»
تضحك من جديد وعيناها تغرقان في الدموع.
اسمي الرباعي في السجلات الرسمية: «نوال السيد حبش السعداوي»، سقط اسم «حبش» من شهادة ميلادي وشهاداتي المدرسية وبطاقتي الشخصية حتى نسيته تماما، لكنه ظل موجودا في سجلات السجون أو وزارة الداخلية، لم أكن أعرف ذلك حتى عام 1981م، حين أصبحت السجينة رقم 1536 في سجن النساء بالقناطر، وأنا في الخمسين من العمر، سألني الضابط فجأة عن اسمي الرباعي، فلم أذكر اسم حبش، بادرني الضباط بالاسم، أخرجه من دفتر قديم عتيق، كأنما يخرجه من القبر معه جثة جدي حبش الذي مات قبل أن أولد، وجثة أبيه السعداوي الرجل الغريب المجهول الذي انحفر اسمه فوق جسدي منذ ولدت، وفوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار على مدى أربعين عاما من عمري.
على مكتبي المظروف الأبيض عليه اسمي ولقبي: الدكتورة الأستاذة بجامعة ديوك، من هو «ديوك»؟ كان رجلا من أصحاب الملايين في أمريكا الشمالية، لحظة الموت اكتشف فجأة أنه لن يأخذ ماله إلى القبر، لاحت له الفكرة قبل أن يلفظ النفس الأخيرة أن يحفر اسمه فوق جدار أو تمثال، ويدفع من أجل ذلك كل ماله، لم يشأ أن يأخذ اسمه معه إلى العدم.
لكن اسم أمي ذهب معها إلى العدم، لم تكن تملك شيئا، أطفالها التسعة وأنا منهم كانوا من أملاك زوجها بحسب القانون وشرع الله، ولم أحمل اسم أمي، دفن اسمها مع جسمها في القبر، واندثرت في التاريخ.
منذ أمسكت القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أود لو شطب اسم جدي وأضع مكانه اسم «زينب»، وهي التي علمتني الحروف: «أ، ب، ج، د» حتى «ه، و، ي»، تمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: «ن و ل»، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال ... يا نوال.
صوتها يناديني، فأنفلت من يد أبي، أجري إليها لتحملني فوق صدرها، الشمس ساطعة في سناء ديرهام الزرقاء، يسمونها هنا «كارولينا بلو»، تشبه زرقة السماء في قريتي «كفر طحلة» بدلتا النيل، رائحة الهواء تشبه نسمة القاهرة في الليل، لحظات الماضي تذوب في الحاضر، كلاهما لحظة واحدة ممدودة منذ أن ولدت، طفلة تحبو وتمشي فوق الأرض، جسمي يذكر رائحة التراب، ملمس الأرض فوق البحار آلاف الأميال، واجتازت المحيط الأطلسي حتى مدينة ديرهام، مضت الأعوام، أكثر من نصف قرن، لكن الرائحة تملأ أنفي، والضوء القوي يجعلني أغمض عيني، وصوت أمي يغزوني من جميع مسام جسدي، ومعه أشعة الشمس، أترك نفسي لطغيان هذا الضوء وهذا الصوت وهذه الرائحة.
يحملني الثلاثة معا إلى طفولتي الأولى حين كنت أجري مثل الفراشة بين المساحات الممدودة من الخضرة تحت سماء زرقاء، ثم تهبط الشمس وراء الأفق، تهبط برفق، السماء تشتعل بألوان حمراء برتقالية، كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة، يزول اللونان الأحمر والبرتقالي، تصبح السحب رمادية، الهواء يبرد فوق ذراعي وساقي العارية، الأرض لا تزال تحتفظ بأثر قدمي فوق التراب، أرتعش بالبرد مع مجيء الظلام، لكن الأرض لا تزال دافئة تحت قدمي، جسمي يشعر بالتعب فأغمض عيني وأتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عيني، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم المدبب، حملتها الحمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول، في بيت العريس رقدت فوق الحصيرة تنكمش داخل جلبابها الجديد المزركش ببقع الدم، جاء العريس ناداها بصوت غليظ: قومي يا بت حضري العشا، تأخرت في النهوض، فانهالت عليها العصا الخيزران التي يقود بها حمارته. «قومي يا بت قامت قيامتك.»
كان هذا هو التقليد في القرية، لا بد للعريس أن يضرب عروسه ليلة الدخلة قبل أي شيء آخر، لتذوق طعم العصا قبل أن تذوق طعامه، لتعرف أن الله فوق وهو تحت، ليس هناك إلا الضرب إن لم تسمع الكلام.
अज्ञात पृष्ठ