كذلك لا يبدأ الحب إلا من آخر الدنيا، فهو دائما على طرفها، ولو نصب ميزان الآخرة لعاشق من العشاق المتيمين ووضعت كرة الأرض بكنوزها وممالكها في كفة منه ثم وضع حبيبه في الكفة الأخرى، لرجحت هذه عنده؛ لأن فيها حبيبه وقلبه، وبقيت الأخرى. كأن لم يكن فيها شيء، وإن كان فيها المشرق والمغرب!
وأعجب من هذا أننا نجد من الزهاد والمتنسكين من يقطع دهره كله متعبدا منصرفا عن الدنيا إلى ما بعدها، جاعلا لسان حواسه الأرضية
1
دائما سماوي اللغة، ثم لا يجد مع هذا النسك وهذه الروحانية؟ من يقول: إنه كالملائكة على حين أن الكلمة الأولى التي يقولها العاشق في وصف حبيبه ساعة يمس قلبه: إنه ملك، وإنه من السماء، وإنه قانون من قوانين القدر، وإنه الوجود كله مختصرا في نفس إنسانية، والطبيعة كلها ممثلة في ذات لذات أخرى، وإنه مظهر من مظاهر التقديس لا تحيط به إلا معاني الجلال والعبادة فلا يزال القلب يركع أمامه ويسجد! •••
أتذكرين أيتها الحبيبة ما قلته لك ذات مرة وقد رأيت كلبك الصغير الجميل كأنه من تراميه عليك ومن معاني نظراته إليك - عاشق يريد أن تفهميه ... فقلت لك: إنني أراه يحبك بقوة أحسبها تحاول أن تقلبه إنسانا يحب ويعبد، فإن كان هذا في الحيوان ولم يزد على معنى الوفاء والأمانة شيئا، فليت شعري كيف تصنع هذه القوة في الإنسان، وهي فيه أمانة ثم رغبة زائدة عليها، ووفاء ثم غاية أعلى منه، وحب إنساني ذاهب إلى طرفه الإلهي، وشيء معلوم ثم شيء مجهول في المعلوم؟
إنها والله لن تدعه إنسانا أبدا ما دامت لا تدعه في نفسه. آه، آه! ما أرى الحب إلا قوة تخرج النفس وتشيعها في الوجود كله، أو تدخل الوجود كله إلى النفس وتدعه شائعا فيها، ولهذا فمهما يبلغ من سعة العالم فإنه لن يمتلئ عند المحب إلا بواحد فقط، هو الذي يحبه.
أعرف هذا منك أيتها العزيزة؛ لأني في هذا البعد أراك في كل مكان حتى لكأن هذا الوجود كله ورقة تصوير حساسة مصوبة بآلتها إلى قلبي تلتقط رسمك منه وتلقيه على كل شيء صرفت إليه عيني، وهذا - ولا ريب - معنى من معاني اللانهاية فلعل ناموس الحب لم يخلق إلا لتدرك منه الإنسانية ما يقرب لها فكرة ما لا ينتهي، فمادة الحبيب الممثلة في جسمه وتكوينه لا تفنى أبدا ولا تحصر أبدا. بل هي تنصب من عيني محبه على كل شيء وملء كل شيء.
الحبيب محدود بعاشقه فقط، وهذا مثال يقرب للعقل كيف يفهم الخلود الذي لا يفنى ولا ينتهي؛ لأنه أبدا ممتد مع الخالق الأزلي الذي لا ينتهي ولا يفنى. •••
عذرا أيتها الحبيبة، فمهما أكتب فلا يزال وراء الكلام ذلك المعنى الدقيق الذي لا يظهره الكلام، وذلك المعنى المعجز الذي هو بلاغة فوق البلاغة، ذلك المعنى الجميل الذي هو أنت ...!
صرخة ألم
अज्ञात पृष्ठ