دفن همام في مقبرة تابعة للوقف بباب النصر. سار في جنازته قوم كثيرون من معارف أدهم، أكثرهم باعة من زملائه، وأقلهم زبائن ممن أسرتهم رقة أخلاقه وحسن معاملته. وفرض إدريس نفسه على الجنازة فاشترك في تشييعها، بل وقف يتقبل العزاء بصفته عم الفقيد. وسكت أدهم كارها، فسار في الجنازة كثيرون من الفتوات والبلطجية والبرمجية واللصوص وقطاع الطرق. وعند الدفن وقف إدريس فوق القبر يشجع أدهم بكلمات العزاء، والآخر صابر متصبر لا يجيب ودموعه تستبق على خديه. وروحت أميمة عن كربها باللطم والصوات والتمرغ في التراب. وعندما تفرق المشيعون، التفت أدهم إلى إدريس وقال بحنق: ألا يوجد حد لقسوتك؟!
فتظاهر إدريس بالدهشة وتساءل: عم تتحدث يا أخي المسكين؟
فقال أدهم بحدة: لم أتصورك على هذا القدر من القسوة على رغم سوء ظني بك، الموت نهاية كل حي، فما وجه الشماتة فيه؟!
فقال إدريس وهو يضرب كفا على كف: الحزن أخرجك عن أدبك، لكني مسامحك. - متى تقر بأنه لم تعد تربطنا صلة؟ - لترحمنا السماء، ألست أخي؟! هذه رابطة ليس في الإمكان فصمها. - إدريس! كفاك ما فعلت بي. - الحزن قبيح، ولكن كلينا مصاب، أنت فقدت همام وقدري وأنا فقدت هند، أصبح للجبلاوي العظيم حفيدة عاهرة وحفيد قاتل. وعلى أي حال فأنت خير حالا مني، إذ لك ذرية تعوضك عما فات. فتساءل أدهم في حسرة: أما زلت تحسدني؟
فقال إدريس متعجبا: إدريس يحسد أدهم؟!
فعلا صوت أدهم وهو يهدر: إذا لم يكن جزاؤك من جنس عملك فعلى الدنيا العفاء. - العفاء .. العفاء.
ومرت أيام كئيبة مفعمة بالأشجان. وقهر الحزن أميمة فساءت صحتها واعتصرها الضمور. وفي أعوام قلائل بلغ أدهم من الهرم ما لا يبلغ في عمر مديد. وبات الزوجان يعانيان الهزال والمرض. ويوما اشتدت عليهما وطأة المرض فركنا إلى الرقاد ، أميمة مع طفليها في الغرفة الداخلية، وأدهم في الغرفة الخارجية، غرفة قدري وهمام. ومضى النهار وجاء الليل فلم يشعلا مصباحا، وقنع أدهم بضوء القمر المنبعث من الفناء. وراح يغفو قليلا ويستيقظ قليلا في حال بين الوعي والذهول. وجاءه صوت إدريس من خارج الكوخ وهو يسأله متهكما: ألست في حاجة إلى خدمة؟
فانقبض صدره ولم يجبه. وكان يكره الساعة التي يغادر فيها الآخر كوخه؛ ليذهب إلى سهرته الليلية. وجاءه الصوت مرة أخرى وهو يقول: اشهدوا يا ناس على بري وعقوقه.
وذهب وهو يغني:
كنا تلاتة طلعنا الجبل نصطاد،
अज्ञात पृष्ठ