تربعا على الرمال تحت سفح المقطم. وحل همام عقدة المنديل الأحمر المخطط فكشف عن خبز وطعمية وكراث، وراحا يأكلان، وينظران بين حين وآخر نحو أغنامهما، التي هام بعضها على وجهه، وقعد البعض ليجتر في راحة وسلام. لم يكن ثمة ما يميز بين الشقيقين في الملامح والقسمات، غير أن نظرة الصائد المتجلية في عيني قدري أضفت على سحنته حدة ميزته بطابع خاص. وعاد قدري يقول، وهو يطحن الطعام المحتشد في فيه: لو كان هذا الخلاء لنا دون شريك لرعينا أغنامنا مرتاحي البال.
فقال همام باسما: ولكن هذا الخلاء مقصد الرعاة من العطوف وكفر الزغاري والحسينية، ومن الحكمة أن نصادقهم فنتقي شرهم.
فضحك قدري ضحكة هازئة انطلقت من فيه مع فتات من طعامه وقال: هذه الحواري عندها جواب واحد لمن ينشد صداقتها؛ هو الصفعات. - لكن ... - لا لكن يا ابن أبي، إني أعرف طريقة واحدة، وهي أن أجذب الرجل من جلبابه وأنطحه في جبينه فينقلب على وجهه أو على قفاه. - لذلك لا نكاد نحصي أعداءنا. - ومن كلفك بإحصائهم؟!
وتابع همام جديا أوغل في الابتعاد فراح يصفر له حتى توقف ودار عائدا في صمت الحكيم. وانتقى عودا من الكراث ومسحه بأصابعه فدفعه في فيه متلذذا، ثم قال وهو يتمطق: لذلك تجدنا وحدنا، ويمضي الوقت الطويل دون أن نتكلم. - وما حاجتك إلى الكلام وأنت تغني طوال الوقت؟!
فنظر همام إليه بثقة وقال: يخيل إلي أنك تضيق بهذه الوحدة أحيانا. - سأجد دائما عللا للضيق، الوحدة أو غيرها.
وساد صمت وضح فيه التمطق. ولاحت عن بعد جماعة عائدة من الجبل نحو العطوف، تسير على غناء منشد كالحادي والآخرون يرددون ...
فقال همام: هذه الناحية من الخلاء امتداد لحينا، ولو ذهبنا شمالا أو جنوبا فأغلب الظن أننا لن نعود.
فضحك قدري ضحكة مجلجلة وقال: ستجد في الشمال وفي الجنوب أناسا يودون قتلي، ولكنك لن تجد واحدا يجرؤ على منازلتي.
فقال همام وهو ينظر نحو الأغنام: لا يمكن إنكار شجاعتك، ولكن لا تنس أننا نعيش بفضل اسم جدنا وسمعة عمنا المخيفة على رغم ما بيننا وبينه من خصام.
فعقد قدري ما بين حاجبيه احتجاجا، ولكنه لم يجهر بمعارضته. واتجه بصره نحو البيت الكبير الذي لاح عن بعد في الغروب هيكلا ضخما مطموس المعالم، وقال: هذا البيت! لم أشهد له مثيلا، في خلاء يكتنفه من جميع النواحي، وعلى مقربة من حوار وأزقة اشتهرت بالجبروت والمشاكسة. صاحبه جبار بلا جدال، هذا الجد الذي لم ير أحفاده وهم على بعد أذرع منه!
अज्ञात पृष्ठ