واتجه علي نحو موقع الجريمة وهو يصر على أسنانه مغمغما: يا جبناء!
فمضوا خلفه، ثم جلسوا جميعا على ركبهم في هيئة نصف دائرة وراحوا يتحسسون الأرض مفتشين.
وبغتة صرخ كريم كالملدوغ: هنا!
وتشمم يده وهو يقول: إن هذا هو دمه!
وفي الوقت ذاته صاح زكي: وهذا الموضع الهش مدفنه.
وتجمعوا حوله وأخذوا يزيلون الرمال براحاتهم. لم يكن في الأرض من هو أتعس منهم، لضياع العزيز، ولموقف العجز الذي وقفوه عند مصرعه. واعترت كريم لحظة جنون فقال في بلاهة: لعلنا نجده حيا!
فقال علي بازدراء ويداه لا تكفان عن العمل: اسمعوا أوهام الجبناء!
وامتلأت خياشيمهم برائحة التراب والدم. وترامى من ناحية الجبل عواء. وهتف علي بإشفاق: تمهلوا، فهذا جسده.
فانخلعت قلوبهم، ورقت أيديهم، وتلمسوا أطراف ثوبه بجزع، ثم ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وتعاونوا على استخلاص الجثة من الرمال وقاموا بها في رفق، وكان صياح الديكة يترامى من الحارات والأزقة. وحث البعض على الإسراع، ولكن لفتهم علي إلى وجوب ردم الحفرة، فخلع كريم جلبابه وفرشه على الأرض فطرحوا الجثة عليه، وتعاونوا مرة أخرى على ردم الحفرة. وخلع حسين جلبابه فغطى به الجثة ثم حملوها، وساروا نحو باب النصر. وأخذ الظلام يخف فوق الجبل ويشف عن السحاب، وتساقط الندى فوق الجباه والدموع. وكان حسين يدلهم على طريق مقبرته حتى بلغوها. وانهمكوا في فتح القبر صامتين، والضياء ينتشر رويدا، حتى تراءى للأعين الجثمان المسجى، وأيديهم الملطخة بالدم، وأعينهم المحمرة من البكاء. وحملوا الجثة وهبطوا بها إلى جوف القبر. وقفوا حولها خاشعين وهم يضغطون جفونهم ليزيلوا الدموع التي تحول دون رؤيتها. وهمس كريم والعبرات تخنقه: كانت حياتك حلما قصيرا، لكنها ملأت قلوبنا بالحب والنقاء. وما كنا نتصور أن تغادرنا بهذه السرعة فضلا عن أن تقتل بيد أحد من الناس؛ أحد من أبناء حارتنا الجاحدة التي داويتها وأحببتها؛ حارتنا التي أبت إلا أن تقتل الحب والرحمة والشفاء ممثلة في شخصك فقضت على نفسها باللعنة حتى آخر الزمن.
وتساءل زكي منتحبا: لماذا يذهب الطيبون؟! لماذا يبقى المجرمون؟!
अज्ञात पृष्ठ