فضحك الأب قائلا: عم جواد يحبك، ماذا قال لك في الاستراحة؟ - دعاني إلى زيارته في بيته. - ما أسرع أن تحب، ولكنك صبي بطيء التعلم.
فقال معتذرا: لدي عمر كامل للنجارة، ولكن يهمني الآن أن أزور المقاهي جميعا.
وتلمسا طريقهما إلى الدهليز فترامت إليهما من بيت ياسمينة ضجة مخمورة، وصوت يغني: يا بو الطاقية الشبيكة قل مين شغلها لك، شبكت قلبي إلهي ينشغل بالك. فهمس رفاعة في أذن أبيه: ليست وحيدة كما ظننت.
فتنهد الأب قائلا: ما أكثر ما ضيعت من عمر في الخلوات!
وراحا يرقيان في السلم على مهل وحذر، وإذا برفاعة يقول: أبي، سأزور عم جواد الشاعر .
47
طرق رفاعة باب جواد الشاعر بالربع الثالث بحي جبل. وكان يتصاعد من الحوش سباب حاد تتبادله نسوة ممن اجتمعن للغسل والطهي؛ فأطل من فوق درابزين الطرقة المستديرة المشرفة على فناء الربع. وكانت المعركة الأساسية تدور بين امرأتين، وقفت أولاهما وراء طشت غسيل تلوح بيدين مغطاتين برغوة الصابون، ووقفت الأخرى عند مدخل الدهليز مشمرة عن ساعديها ترد السب بأفظع منه وترقص وسطها استهزاء. أما النساء الأخريات فانقسمن إلى فرقتين، وتلاطمت الأصوات حتى تجاوبت جدران الربع بالشتائم المقذعة والقذف العاهر. وسرعان ما جفل مما يرى ويسمع فتحول عن موقفه إلى باب الشاعر متقززا. حتى النساء، حتى القطط، ودعك من الفتوات. في كل يد مخلب وفي كل لسان سم، وفي القلوب الخوف والضغائن. أما الهواء النقي ففي خلاء المقطم أو في البيت الكبير حيث ينعم الواقف بالسلام وحده! وفتح الباب عن وجه الضرير المستطلع، فحياه، فابتسمت أسارير الرجل، وأوسع له وهو يقول: أهلا بابن أخي.
وتلقى رفاعة أول ما دخل شذى بخور نافذ كأنه أنفاس ملاك. ومضى وراء الرجل إلى حجرة صغيرة مربعة، اصطفت بأضلاعها الشلت، وانبسطت فوق أرضها حصيرة مزركشة، وبدا جوها خلف خصاص النوافذ المغلقة في سمرة الأصيل، وقد زين سقفها حول الفانوس المدلى بصور العصافير والحمام. تربع الشاعر على شلتة فجلس رفاعة إلى جانبه، وقال الرجل: كنا نعد القهوة.
ونادى زوجته فجاءت امرأة حاملة صينية القهوة فقال جواد: تعالي يا أم بخاطرها، هذا رفاعة ابن عم شافعي.
فجلست المرأة إلى جانب زوجها من الناحية الأخرى، وراحت تصب القهوة في الفناجيل وهي تقول: أهلا بك يا بني.
अज्ञात पृष्ठ