بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد لا يخطأ في اللفظ للملكة اللسانية الراسخة فيه، وأما في المعاني فلم يقل أحد بعصمة جنانه، كما قالوا بعصمة لسانه، بل هو خلاف ما صرح به أئمة العربية، ألا تراهم كيف خطأوا أبا قيس بن رفاعة في قوله: منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والشيب لأنه لم يحسن التقسيم في البيت. وقد اعترض ابن هشام في المغنى على ذكره المرد بعد قوله: ما طر شاربه، إذ الذي لم ينبت شاربه أمرد، فكأنه قال: منا الأمرد، ومنا المرد، ثم قال: «والبيت عندي فاسد التقسيم بغير هذا، ألا ترى أن العانسين، وهم الذين لم يتزوجوا، لا يناسبون بقية الأقسام، وإنما العرب محميون عن الخطأ في الألفاظ دون المعاني» انتهى. وقد حاول بعض شراحه تصويب ما في البيت بتقدير أن أصله: منا العانسون والمتزوجون ومنا المرد والشيب، وذكروا فيه أوجهًا أخرى لا تخلو من مثل هذا التكلف. وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: «وليس الأعرابي بقدوة إلا في الجر والنصب والرفع وفي الأسماء، وأما غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب» . والنصوص على ذلك كثيرة لا تختلف إلا في المبنى فلا حاجة لذكرها، وقد بحثنا فيما وصل إلينا من هذه الأوهام، وتفحصنا أسبابها، فرأيناها ترجع إلى الأقسام الآتية: القسم الأول فمن أسباب الوهم في المعاني جهل الشاعر بما يذكره لبعده عنه، فتراه يأتي به على غير حقيقته، ويضعه في غير موضعه، أو يبهم في وصفه فلا يدنيه منك ولا يبعده، كالحضري الذي لم يسبق له التبدي، والبدوي الذي لم يتحضر، فإنهما قلما يستطيع أحدهما أن يذكر ما عند الآخر فيصيب فيه، أو يصفه فيحسن الإفصاح عنه لأنه إنما يذكر ما لم يعرفه، ولم يره إلا بسمعه. حكى صاحب الأغاني عن الكميت أنه قال: لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت: إني قد قلت قصيدة عارضت فيها قصيدتك: (ما بال عينك منها الماء ينسكب) فقلت: هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب؟ حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك: أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجئ به، ولا تقع بعيدًا عنه، بل تقع قريبًا. قلت له: أوتدري لم ذلك؟ قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئًا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئًا وصف لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت. انتهى. ويروى: أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه. قلنا: وقد رأيت كيف لم يغنه وصف الجدتين شيئًا، فوقع فيما أحتاج إلى الاعتذار منه. وليت شعري أين عزبتا عنه لما نظم قصيدته: (أبت هذه النفس إلا ادكارًا) فقال فيها: إذا ما الهجارس غنيها ... يجاوبن بالفوات الوبارا وقال: كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا فكانتا تخبرانه بأن الوبار لا تسكن الفلوات، وبأن أسلم ما هجت غفارًا قط فتنجيانه من انتقاد نصيب. ومثل هذا الحضري في وصفه ما لم يره من أمور البادية، كمثل ذلك البدوي الذي سمع بأن الرقاق والفستق من مأكول الحضر، وأراد وصف جارية بالتبدي فقال: دسنية لم تأكل المرفقا ... ولم تذق من البقول الفستقا وعذره أنه لم يعرف الفستق، وإنما سمع به فظنه من البقول، وهو ثمر شجرة. قال شارح القاموس: «وتمحل بعضهم فقال: إنما هو النقول بالنون قال الصاغاتي: ولكن الرواية بالباء لا غير» انتهى. ولا ندري ما الذي كان يأتينا به في الرقاق لو اتسع له المجال في البيت. ولو أنا قدرنا عكس هذه الحالة وأرينا هذا الأعرابي الرقاق والفستق قبل أن نخبره بهما لكان حقًا علينا أن نعذره كما عذرناه أولًا إذا رأيناه يعدل عن حقيقتهما إلى ما يصوره ظنه فيهما كما وقع للعرب في وقعة أليس لما استولوا على ما في معسكر الفرس، فجعل من لم ير الرقاق منهم يقول: ما هذه الرقاع البيض على ما حكاه ابن الأثير في الكامل.

1 / 1

ومن طريف ما يروى عن ناهض بن ثومة، وكان بدويًا جافًا، أنه نزل حلب وشهد في ضاحيتها عرسًا، فلما رأى احتشاد الناس ظنهم في أحد العيدين، ثم تذكر أنه خرج من البادية في صفر وقد مضى العيدان، ولما رأى العروس بين السماطين ظنه أمير البلد في يوم جلوسه للناس. ثم وصف ما رآه في العرس على ما تصوره، فقال عن الموائد: «فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملًا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقًا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا فظننتها ثيابًا، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصًا، وذلك أني رأيت نسجًا متلاحمًا لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعًا، وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه» . وقال عن العود: «وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودًا فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريبًا؟ فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزير، قلت: فالأعلى، قال: البم، فقلت: آمنت بالله أولًا، وبك ثانيًا، وبالبربط ثالثًا، وبالبم رابعًا» انتهى. ومن قبيل بيت الفستق قول عمر بن أحمر الباهلي يصف امرأة بالغرارة: لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متخدد يريد أنها غرة لا تعرف نسج اليرندج، ولم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانًا ويتبين أحيانًا. قالوا: ولم يعرف الشاعر أن اليرندج: جلد أسود تعمل منه الخفاف، فظنه مما ينسج. والتمس بعضهم له مخرجًا فقال: أراد بالنسج هنا: المعالجة والعمل. وقال آخر: بل أراد أنها لغرتها وقلة تجاربها ظنت أن اليرندج منسوج. قلنا: ولا نخال النصوص اللغوية تساعد على الأول. أما الثاني فكما قال أبو هلال في الصناعتين: إن ألفاظ البيت لا تدل عليه. (ومن قبيله) قول رؤبة: بل بلد ملء الفجاج قتمهْ ... لا يشتري كتانه وجهرمه وجهرم: قرية بفارس تنسب إليها الثياب والبسط قال أبو عمرو والأصمعي: فظن رؤبة أنها ثياب، ورد عليهما علي بن حمزة البصري في التنبيهات: بأنه أراد كتانة وجهرمية، فقطع ياء النسب، كما قال العجاج: يكاد يدري القيقبان المسرجا والقيقب: خشب تنحت منه السروج، فنسب السرج إليه فقال القيقباني ثم قطع ياء النسب. وقد استشهد الوزير البطليوسي بهذا البيت في شرح ديوان امرئ القيسي، فذهب فيه مذهب أبي عمرو والأصمعي حيث قال: «وغلط في الجهرم ظن أنها ثياب وهو بلد بفارس» (ومن قبيله) قول الراعي يصف امرأة تدهن بالمسك: تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج فجعل المسك من القصب، وهو المعي، وكأنه لما سمع أنه من دابة ظنها تعتلف الكافور فيتحول في أمعائها إلى مسك ويجتنى منها. وخطأه أبو حنيفة الدينوي في كتاب النبات في قوله يصف إبلًا: لها فأرة ذفراء كل عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه فقال: «ظن أنه يفتق به، وكان الراعي أعرابيًا قحًا، والمسك لا يفتق بالكافور» ولكن علي بن حمزة البصري رد عليه في التنبيهات بقوله: «أما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح، ولم يقل الراعي كما فتق المسك بالكافور، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك. وجعل الراعي أعرابيًا قحًا، ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه قد غلط، وخطأه في شيء لم يقله، اللهم إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون قد غلط هو في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحالة أسوأ حالًا منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله، ولا رائحة أنم من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة» انتهى. (ومن قبيله) قول رؤبة: هل يعصمني حلف سختيتُ ... أو فضة أو ذهب كبريت

1 / 2

قال ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما: ظن رؤبة أن الكبريت ذهب. وفي العقد: سمع بالكبريت أنه أحمر فظن أنه ذهب. وفي شفاء الغليل: «وذكره رؤبة في شعره بمعنى الذهب، وخطئ فيه لأن العرب القدماء يخطئون في المعاني دون الألفاظ» . قلنا: ولا يخرج ما في اللسان عن ذلك، ولكنه ذكر تفسير الكبريت بالذهب الأحمر في قول لبعضهم، وهو كما لا يخفى يناقض ما اعترض به هؤلاء الأئمة، فلعله حدث بعد نظم البيت وبنى على ما فيه وثوقًا من قائله بالشاعر وليحقق. (ومن قبيله) قول أبي ذؤيب في وصف الدرة: فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج قالوا: والدرة لا تكون في الماء العذب، وإنما تكون في الماء الملح، كذا في اللسان والعقد والوساطة وما يجوز للشاعر في الضرورة وغيرها وذكر أبو هلال في الصناعتين: أن من يحتج له يرى أن مراده ماء الدرة، وقد وقفت في شرح السيرافي على كتاب سيبويه على تفصيل لذلك بما نصه: «قال الأصمعي: هذا غلط، وذلك أنه ظن أن اللؤلؤ يخرج من الماء العذب لبعده عن مواضع اللؤلؤ، ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج: أي يسكن مرة ويهيج أخرى بالريح أو زيادة الماء. وذكر بعض أهل اللغة: أن هذا صحيح، وأن الأصمعي هو الغالط، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب، وهو من هذيل، ومساكنهم جبال مكة المطلة على البحر ومواضع اللؤلؤ، وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها وجعله فراقًا، إذ كان أعلى المياه ما كان فراقًا. وقوله: يدوم الفرات، أي يسكن. ويموج، أي يضطرب. إنما أراد في الناظر مرة، ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة» انتهى. (ومن ذلك) قول لبيد: ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل أي لو يقوم الفيل أو صاحبه في هذا المقام لزل وتنحى، ولم يثبت مثل ثباتي، ولا معنى لذكر الفيال هنا، ولكنه لما سمع بعظم خلق الفيل وشدة أيده، ظن أن لسائسه مثل قوته فأخطأ. (ومنه) قول الآخر: وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجادي والعنبر الورد أنشده السيوطي في المزهر، ونقل عن القالي في أماليه أنه قال: «غلط الأعرابي لأن العنبر الجيد لا يوصف إلا بالشهبة» . قلنا: البيت وارد في الأمالي، وهو من أبيات أولها: (سقى دمنتين ليس لي بهما عهد) وليس في النسخة المطبوعة ما نقل في المزهر من الانتقاد، فلعل القالي ذكره في كتاب آخر له. (ومنه) قول خالد بن زهير: وقاسمها بالله جهدًا لأنتمُ ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها ظن السلوى العسل فقال نشورها، أي تجنيها من الخلية. قال الزجاج: أخطأ خالد إنما السلوى طائر، وتمحل الفارسي في الرد عليه بأن السلوى كل ما سلاك. وقيل للعسل: سلوى لأنه يسليك بحلاوته، وتأتيه عن غيره مما تلحقك فيه مؤونة الطبخ وغيره من أنواع الصناعة انتهى ولا يخفى ما فيه. القسم الثاني وكما أنهم يخطئون فيما لم يروه ويعهدوه، نراهم يخطئون أيضًا فيما نشأوا عليه، وألفوا رؤيته صباح مساء. ومأتي هؤلاء من تعرضهم لما عرفوا جملته، ولم يحيطوا بتفصيله، لأن المعرفة تتفاوت كثرةً وقلة بحسب ملابسة الأشياء ومجانبتها، فمن كان أشد علاقة بالشيء كان بالضرورة أخبر به وأبصر ممن ضعفت علاقته به، أو قصرت معرفته له على مجرد الألف والمشاهدة. ألا ترى أن قيم الغراس لا يجهل السيف، كما لا يجهله سائر العرب، ولكنا إذا اختبرناه فيه لا نصيب عنده من العلم به وبدقائق أجزائه ومختلف حالاته وصفاته ما نصيبه عند الطباع والصيقل. وكذلك صاحب الظلف أعرف بالشاة والعنز منه بالفرس والبعير، وصاحب الخيل أبصر بها من الملاح أو البزاز، وقس على ذلك سائر الأمور في الكثير الغالب ومن هذه الناحية تطرق الخطأ لرؤبة في قوله يصف فرسًا ويذكر قوائمه: بأربع لا يعتنفن العفقا ... يهوين شتى ويقعن وفقا فجعله يضبر، أي يجمع يديه ثم يثب فيقع مجموعة يداه، وهو عيب، لأن الجياد من الخيل لا تقع حوافرها معًا، إنما المستحب من الفرس أن يسبح بيديه. ولما قيل له: أخطأت يا أبا الجحاف جعلته مقيدًا يضبر، قال: أي بني لا علم لي بالخيل، ولكن أدنني من ذنب البعير أصفه كما يجب، قال الأصمعي: فأدني منه فلم يصنع شيئًا.

1 / 3

(ومثله) قول أبي النجم يصف فرسًا أجراه في الحلبة: يسبح أخراه ويطفو أوله قال الأصمعي: أخطأ في هذا لأنه إذا سبح أخراه كان حمار الكساح أسرع منه، وإنما يوصف الجواد بأنه تسبح أولاه وتلحق رجلاه، كذا في الأغاني. وفي العقد: أن اضطرب مؤخر الفرس قبيح، والوجه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السلمي. مر كلمح البرق ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره فما يمس الأرض منه حافره وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: «وكأن أبو النجم وصافًا للفرس وأخذ عليه في صفته يسبح أخراه ويطفو أوله» ثم ذكر قول الأصمعي ولم يزد، ولكن علي بن حمزة البصري نقل عنه في التنبيهات قولًا عن غير الأصمعي فيه تصويب لما في الرجز، فلعله ذكره في كتاب آخر غير الطبقات. وعزا على بن حمزة انتقاد الأصمعي إلى تعصبه على أبي النجم ومن يستقر كلامه في هذا الكتاب يجد عجبًا من تعصبه هو على الأصمعي ورده ما يقول بحق وبغير حق، وكان خيرًا له أن يعتذر هنا لأبي النجم اعتذار رؤبة لنفسه. (ومما) خطىء فيه أبو النجم ونبه عنه ابن قتيبة في طبقات الشعراء قوله في وصف الفرس: كأنها ميجنة القصار ولم يبين وجهه بسوى قوله: إن الميجنة لصاحب الأدم، أي الجلد، وأنها أيضًا التي يدق عليها الأدم من حجر وغيره، فإن كان يريد أنها لا تكون لقصار الثياب كما يؤخذ من كلامه وكلام أبي هلال في الصناعتين فليس بشيء لأنها تكون لكليهما، وإن كان الخطأ في تشبيه الفرس بها فربما ولكن لم يظهر لنا يظهر لنا وجهه (مما) أخطأ فيه أبو النجم أيضًا قوله في الإبل: وهي على عذب روى المنهل ... دحل أبي المرقال خير الأدحل من نحت عاد في الزمان الأول ففي الأغاني: «قال الأصمعي: الدحل لا تورده الإبل إنما تورد الركايا، وقد عيب بهذا وعيب بقوله في البيت الذي يليه: إن هذا الدحل من نحت عاد، قال: والدحلان لا تحفر ولا تنحت إنما هي خروق وشعاب في الأرض والجبال لا تصيبها الشمس فتبقى فيها المياه، وهي هوة في الأرض يضيق فمها ثم تتسع فيدخلها ماء السماء» . (ومما) أخطأ فيه الإبل أيضًا قوله يصف ورودها: جاءت تسامي في الرعيل الأول ... والظل عن أخفافها لم يفضل فقوله: والظل لم يفضل عن أخفافها يدل على أنها وردت الماء في الهاجرة. والعرب إنما تصف الورود غلسًا والماء بارد كقول الشاعر: فوردت قبل الصباح الفاتق وقول الآخر: فوردت قبل تبين الألوان وقول لبيد: إن من وردى تغليس النهل (ومما) خطأوا فيه أبا النجم قوله في وصف راعي الإبل: صلب العصا جاف عن التعزل قالوا: ولا يوصف الراعي بالصلابة على إبله. والعرب إذا أرادت وصفه قالت: (هو ضعيف العصا) كأنه لحسن رعايته لا يحتاج إلى شدة وغلظة كما قال الشاعر: ضعيف العصا بادى العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا صدى إبل أن تتبع الريح مرة ... يدعها ويخفى الصوت حتى تربعا إذا سرحت من مبرك نام خلفها ... بميثاء مبطان الضحى غير أروعا لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مأوى تبوأ مضجعا فهذا ما توصف به حذاق الرعاة. ومثله قول الراجز: إذا الركاب عرفت أبا مطر ... مشت رويدًا وأسفت في الشجر لأنها ألفت منه الرفق بها وتركها ترعى كما تشاء. وقيل: لم يرد أبو النجم بصلابة العصا شدته عليها، وإنما أراد وصفه بصلابة الظهر وقوة البدن، كما يقال: فلان صلب القناة. وقيل: بل أراد أنه صلب العصا على الحقيقة لأن الراعي إذا كان جلدًا صارمًا اختار عصاه من أصلب ما يقدر عليه، وإلا هلكت إبله وضاعت، وعبثت بها الوحوش والسابلة. وقد أطال على بن حمزة البصري في التنبيهات في الانتصار له بما لا يخرج عما ذكرناه وقد آن لنا أن ندع أبا النجم وننتقل إلى الملك الضليل لنرى كيف ضل في وصف فرسه فقال: فللسوط ألهوب وللساق درة ... وللزجر منه وقع أخرج مهذب

1 / 4

الألهوب والدرة: شدة الجرى: والأخرج، الظليم. والمهذب: السريع العدو. أراد امرؤ القيس أن يصف فرسه بالسرعة، فذكر أنه يضربه بالسوط فيلهب، ويركضه بساقه فيدر جريه، ويزجره فيقع الزجر منه موقعه من الظليم فيعدو عدوه. قالوا: ولو أستعين بهذه الأشياء على أخس حمار وأضعفه فعدا لم يستحق أن ينعت بالسرعة. ويقال: إن أول من عاب عليه هذا البيت امرأته أم جندب لما احتكم إليها هو وعلقمة ابن عبدة الفحل في أيهما أشعر؟ فقالت: سمعتك زجرت وضربت وحركت، وفرس ابن عبدة أجود من فرسك حيث يقول فيه: فأقبل يهوى ثانيًا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب فغلبت علقمة عليه، ولله در ابن المعتز فإنه ذكر السياط ولكنه احترس احتراسًا حسنًا فقال: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فقوله: ظالمين من أحسن ما يحترس به هنا. (ومما) أخذ على امرئ القيس قوله في وصف فرس أيضًا: لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر ومعنى الخظاة: المكتنزة، أراد لها متنان كثيرا اللحم كساعدي النمر البارك في الغلظ، وليس هذا مما تمدح به الجياد، وإنما المستحب في المتن والوجه التعريق كما قال طفيل: معرفة الألحى تلوح متونها وفي اللسان. «ويستحب من الفرس أن يكون معروق الخدين قال: قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب ويروى: معرقة الجنبين، وإذا عرى لحياها من اللحم فهو من علامات عتقها، وفرس معرق: إذا كان مضمرًا، يقال: عرق فرسك تعريقًا، أي أجره حتى يعرق ويضمر ويذهب رهل لحمه» انتهى. (وتبعه) أبو ذؤيب الهذلي فقال في فرس: قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالني فهي تتوخ فبها الإصبع تأبى بدرتها إذا ما استكرهت ... إلا الحميم فإنه يتبضع أي قصر صاحبها عليها اللبن فسمنت حتى شرج لحمها بالنى، أي خلط بالشحم فلو غمزته بإصبعك تاخت فيه، فجعلها كثيرة اللحم رخوة، وهو عيب، لأن الجياد توصف بقلة لحمها وصلابته، وأما الذي قاله فالأحرى به شاة يضحى بها قالوا: وأخطأ في البيت الثاني أيضًا فقال: تأبى بدرتها، أي تأبى الجرى إذا أكرهت عليه فجعلها حرونًا إذا حركت قامت، وأخذ الحميم. أي العرق، يتبضع منها، أي يتفجر ويسيل. قال أبو هلال في الصناعتين: وما وصف أحد الفرس بترك الانبعاث إذا حركت غير أبي ذؤيب، وإنما توصف بالسرعة في جميع حالاتها إذا حركت أو لم تحرك، فتشبه بالكوكب والبرق والحريق والريح إلى آخر ما ذكره. وقيل: كان أبو ذؤيب لا يجيد وصف الخيل فظن أن هذا مما توصف به. قلنا: وفي الذي أخذوه عليه في البيت الثاني نظر لأنه علق إباءها على الإكراه، والمعروف في صفة الفرس الجواد أنك إذا حركته للعدو أعطاك ما عنده عفوًا، فإذا أكرهته بساق وبسوط لتحمله على الزيادة حملته عزة نفسه على ترك العدو، فهو يقول: إنها تأبى بدرتها عند إكراهها ولا تأبى العرق، كذا في اللسان وشرح ديوانه. _ومنه) قول سلمة بن الخرشب: إذا كان الحزام لقصرييه ... أمامًا حيث يمتسك البريم قال القاضي الجرجاني في الوساطة: «يقول: إن الحزام يقرب في جولانه إذا كثر من عدوه فيصير أمام القصريين. قال الأصمعي: أخطأ في الوصف لأن خير جرى الإناث الخضوع، وإنما يختار الإشراف في جرى الذكور، فإذا اختضعت تقدم الحزام كما قال بشر بن أبي خازم: تسوق للحزام بمرفقيها ... يسد خواء طبييها الغبار وقد ساعد متمم بن نويرة على هذا الوصف سلمة فقال: وكأنه فوق الحبائل جائبًا ... ريم تضايقه كلاب أخضع فوصف الذكر بالخضوع وإنما يختار له الإشراف» انتهى. (ومنه) قول عدي بن زيد في صفة فرس: فصاف يجري جله عن سراته ... يبذ الجياد فارهًا متتايعا

1 / 5