ऑगस्टीनस: एक बहुत ही संक्षिप्त परिचय
أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا
शैलियों
عبرت عقيدة ماني أو المانوية بشكل شعري عن النفور من العالم المادي، وأمست الأساس المنطقي لأخلاق موغلة في التقشف. واعتبر أتباع المانوية «النصف الأدنى من الجسد» عملا مثيرا للاشمئزاز من أعمال الشيطان الذي هو أمير الظلام. وكان الجنس والظلام مرتبطين بعلاقة وثيقة في عقلية ماني؛ وكان الظلام بالنسبة إليه هو جوهر الشر نفسه. وقد يخيل إلى المرء أن مثل هذا الدين لم يكن ليستقطب شابا يافعا كان الجنس بالنسبة إليه محوريا (اللهم إلا إذا كان المرء يستطيع أن ينسب كل نزواته الدنيئة لقوى الظلام ويتبرأ من المسئولية الشخصية). ورغم ذلك، تألف المجتمع المانوي من طبقتين أو مستويين للإخلاص. ولم يكن التبتل المطلق مطلوبا إلا من أصحاب المستوى الأعلى وحسب الذي يعرف باسم «الصفوة». أما المستمعون الذين انضم إليهم أوغسطينوس، فقد أجيز لهم ممارسة العلاقات الجنسية في فترات «آمنة» من الشهر، وأنيط بهم اتخاذ خطوات محددة لتفادي إنجاب الأطفال. ولكن إذا ولد طفل ما، فلم يكن ذلك داعيا لإقصاء الوالد من المجتمع المانوي؛ ولذا، سمح للمستمعين العيش مع أزواج لهم أو، كما في حالة أوغسطينوس، مع محظيات، لكن لم يكن هناك باعث لهم للتفكير في الجنسانية بأي شكل إيجابي؛ فهي صنيعة الشيطان.
أنكر ماني أي سلطة للعهد القديم بفرضيته المسبقة المتعلقة بخيرية النظام المادي للأشياء وبصانعه، وحذف جميع النصوص الموجودة في العهد الجديد التي افترضت إما نظام المادة وخيريتها وإما وحي وسلطة نصوص العهد القديم باعتبارها زيادات مقحمة. وبخلاف ذلك، فقد رأى أن عهده الجديد المنقى كتاب سليم. ولقد أقر بسخاء بكل الأنظمة العقائدية، ونبذ المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية لكونها حصرية بشكل مبالغ فيه وسلبية تجاه غيرها من الأساطير والأشكال العقائدية للعبادة. ومع ذلك، فقد أراد أن يعتبره الآخرون مسيحيا، حتى وهو يشدد على أن وحيه أسس ل «ديانة مميزة». كان «مهرطقا»، بمعنى كونه إنسانا يود أن يبقى ضمن المجتمع في الوقت الذي يعيد فيه تفسير وثائقه ومعتقداته الأساسية بطرق لا يقبلها النظام السائد، ويصر عليها عندما يطلب إليه أن يصحح نفسه. ولقد وظف بعض الأفكار والمفردات الإنجيلية، وأجاز دورا فدائيا للمسيح، فهو وحده استوعب المسيح كرمز لمحنة البشرية كلها لا كشخصية تاريخية تمشي على الأرض وتعرضت للصلب. فالمنقذ شبه المقدس لم يكن في واقع الأمر ليولد أو ليقتل فعليا (وهو الرأي الذي يبشر بالمذهب الإسلامي)؛ وحادثة الصلب لم تكن ضربا من الواقع بل رمزا للمعاناة التي تعتبر حالة البشر أجمعين.
لقد فسر ماني كل شيء اقتبسه من المسيحية في إطار ازدواجي ووجودي؛ ويتجلى ذلك في الأسطورة المعقدة والمفصلة جدا التي وضع مذهبه في قالبها. كانت المسألة المحورية بالنسبة إليه أصل الشر؛ ففسر الشر على اعتبار أن منبعه صراع كوني بدائي ما برح مستمرا بين النور والظلام؛ حيث أشار هذان الاصطلاحان إلى الواقع الرمزي والمادي. ولقوى الخير والشر في العالم نقاط ضعف وقوة بحيث لا يستطيع أن يتغلب أحدهما على الآخر. وكنتيجة للضرر الذي تلحقه قوى الظلام بعالم النور، أمست شذرات صغيرة من الإله - أو الروح - متناثرة في العالم كله في كل الكائنات الحية، بما في ذلك الحيوانات والنباتات. اعتبر أن البطيخ والخيار يحويان مكونا كبيرا من الألوهية؛ ولذا كانت لهما مكانة بارزة لدى الصفوة المانوية، وكانت قوانين الطعام بالنسبة إلى طبقة الصفوة مدروسة ومفصلة، وكان الخمر محظورا تماما. طاب لمعلمي المانوية ومبشريها استقطاب أعضاء الكنيسة، ويمكن استشفاف تسلل الأفكار المانوية إذ تقبل المسيحيون المضيف في القربان المقدس دون كأس القربان نفسه . يمكن إبهار أعضاء الكنيسة بورق البرشمان الأنيق والخطوط البديعة للكتب المانوية المقدسة والقداسة الخاصة لموسيقاها.
ورغم أن ماني كرس مكانة خاصة في أسطورته للمسيح، فإن المكانة التدريسية العليا المعصومة لمجتمعه لم تختص بالمسيح ولا بالكتب اليهودية القديمة بل بماني نفسه، رسول الرب، والمعزي الذي تنبأ به المسيح وأخبر أنه سيأتي من بعده ليظهر الحقائق التي لم يكن التابعون اليهود المخلصون جدا متأهبين لها. ولم يكن لدى ماني أي مكان قط للخصوصية التي ورثتها الكنيسة من القالب اليهودي. وبحبكة غريبة، طرح ماني أسطورته الخصبة والإيروتيكية نوعا ما، زاعما أنها رواية عقلانية ومتماسكة للحقيقة المنزلة، في تعارض قوي مع العقيدة البسيطة للمسيحيين الأرثوذكسيين الذين يؤمنون بالسلطة وحسب. لقد كرست الدعاية المانوية جل اهتمامها للهجوم على الأخلاق الواردة في العهد القديم ودقته التاريخية، وتلك الأجزاء من العهد الجديد التي بدت يهودية أكثر من اللازم للذوق المانوي. وفوق كل شيء، زعم المانويون أنهم يملكون الإجابة الوحيدة المرضية لإشكالية الشر: فهو بالنسبة إليهم قوة لا سبيل لاستئصالها راسخة في بنية العالم المادي. وما من أحد يمكن أن يزعم بشكل منطقي بأن الخالق المطلق لهذا العالم المضطرب يمكن أن يكون على كل شيء قدير وفي الوقت نفسه خيرا جدا. وإذا شئنا للحجة أن تكون متماسكة، فلا بد من التضحية إما بالقدرة المطلقة وإما بالخيرية المطلقة. ولقد سلم معلمو المانوية بأن كل الناس يعلمون دون المزيد من الإسهاب أو البحث والتمحيص المقصود من كلمة «شر».
خلال عشر سنوات كاملة تولى فيها أوغسطينوس مناصب تدريسية أولا في قرطاج ثم في روما، ظل مرتبطا بالمانويين. ولما كان ناقدا شرسا للأرثوذكسية الكاثوليكية وواعيا بتفوقه الفكري على أعضاء الكنيسة التي ازدرى أساقفتها لضحالة تعليمهم وقصور بحثهم النقدي، فقد تمكن من هداية كثير من الأصدقاء إلى المعتقدات المانوية. ولكن خلال العشرينيات من عمره، لم يكن يدرس الأدب اللاتيني وفنون البلاغة وحسب، بل كان يتدبر أيضا القضايا الفلسفية والمعضلات المنطقية التي أفضت إليها بطبيعة الحال دراسات البلاغة. وطفقت الشكوك المتزايدة تثقل كاهله وتحيط به. أكان ماني على صواب عندما أكد أن قوة النور الخيرية واهنة وعقيمة في صراعها مع الظلام؟ وكيف للمرء أن يعبد كما ينبغي إلها في قمة العجز والذل؟ علاوة على ذلك، فقد منحت الأسطورة المانوية دورا كبيرا للنورين العظيمين والخيرين للشمس والقمر، وتبنت موقفا حاسما من تفسير ظاهرة الكسوف الشمسي؛ ألا وهو أن الشمس والقمر يستخدمان أثناء تلك الظاهرة ستائر خاصة لحجب المشهد المفجع للمعارك الكونية. وانزعج أوغسطينوس إذ اكتشف أن الرواية المانوية كانت متعارضة مع أقوال أبرز علماء الفلك. يجوز أن يزيل المرء الإطار الأسطوري الذي يحيط بالمسيحية الأرثوذكسية، ويتبقى له مع ذلك شيء عظيم الأهمية، لكن أوغسطينوس شعر أن هذا لا ينطبق على المانوية التي كانت الأسطورة فيها هي الجوهر والأساس. وبلغت خيبة أمل أوغسطينوس في الطائفة المانوية ذروتها عندما عرض شكوكه على معلم ذي مكانة مرموقة بين أتباع المانوية يدعى فاوست؛ فقد اكتشف أن قدرة فاوست على البيان أكبر من قدرته على المحاجة الفكرية. عوضا عن ذلك، اتضح أن الحياة الأخلاقية لطبقة الصفوة التي زعم منسوبوها لأنفسهم الكمال المعصوم ليست عذرية كما كان يفترض.
بدأ أوغسطينوس يبحث عن بدائل للمانوية. وكان قد بدأ يبدي اهتماما بالمزج ما بين المعتقدات المانوية عن التوازن ما بين الخير والشر والأفكار الفيثاغورسية الجديدة المتعلقة بالنسبة باعتبارها عنصرا من عناصر جمال الكل، و«الجوهر الفرد» الخير (الواحد واحد وحده وسيظل هكذا أبد الآبدين) في مقابل الشر ذي التعددية اللامتناهية. في منتصف العشرينيات من عمره، كتب أوغسطينوس كذلك كتابا حول هذا الموضوع احتقره لاحقا عندما خطر على ذهنه باعتباره عملا منقوصا ذا محتوى عصي على الاستيعاب والفهم (الاعترافات). وتدريجيا، أغرقته الشكوك في تعليق الحكم. وأمسى مهتما جدا بنظرية المعرفة: كيف لنا أن نعرف أي شيء؟ وكيف يمكننا التأكد بما لا يدع مجالا للشك؟ وكيف يمكن أن نتواصل بعضنا مع البعض إذا كانت الكلمات يحتمل أن تكون مضللة أو تفهم بمعنى يختلف تماما عما يعنيه المتكلم؟ هل اللغة التي نتحاور بها يوميا، والتي كثيرا جدا ما تتحدى قواعد المنطق، مصدر للنور أم الضلال؟
في هذه الحالة الذهنية المترددة، انكب أوغسطينوس بنهم على مطالعة كتب لفلاسفة متشككين وحاسمين عقائديا حيال عدم موثوقية وعدم حسم كل الأفكار المكتسبة والإدراك الحسي وقدرة الكلمات على أن تطلع المرء على أي شيء مهم لا يعرفه بالفعل.
هكذا كانت الأفكار التي تدور في عقله عندما وصل إلى ميلانو عام 384 ميلاديا ليتسلم منصبه الجديد أستاذا جديدا للبلاغة بالمدينة، لكن الأمل كان يحدوه بأن يرقى في المناصب. كانت ميلانو مقرا إمبرياليا. وإذا استطاع، رغم ابتسامات الإيطاليين من مخارج أحرفه اللينة الأفريقية الطابع، أن يتحدث ببلاغة شديدة بحيث يلفت الانتباه في البلاط، وإذا تسنى له أن يكسب دعم المسئولين أصحاب السطوة والنفوذ، فربما يجوز أن يطمح في الترقي إلى منصب حاكم إقليم (الاعترافات). باعتراف الجميع، كانت هناك معوقات أمام طموح أوغسطينوس؛ فقد كان قرويا من الطبقة الوسطى لا تشفع له ولا تدعمه ثروة شخصية. علاوة على ذلك، فما برحت «زوجته العرفية» وفتاته القرطاجية ووالدة أديوداتوس تعيش معه. وما لن يثير التساؤلات إذ يصدر عن أستاذ في البلاغة بالمدينة قد لا يكون مقبولا بمقر الحاكم. ولقد رأت أمه مونيكا، الأرملة التي لحقت به مخلصة إلى ميلانو، أن شريكة ابنها الجاهلة وخليلة مهجعه عقبة مهلكة في الطريق أمام رغبته العلمانية في التميز والشرف. وفي نهاية المطاف، أرسلت عشيقته إلى قرطاج، وكان الفراق مؤلما بالنسبة إليهما. في تلك الفترة، كان أوغسطينوس قد خطب وريثة شابة سييسر مهرها تحقيق آماله وأحلامه. وحتى تصل إلى السن القانونية للزواج، التفت أوغسطينوس إلى شريكة مؤقتة ليعزي بها نفسه؛ فهي لم تكن تمثل أهمية كبرى بالنسبة إليه، وكانت مشاعره جامدة.
في ميلانو، التقى أوغسطينوس لأول مرة في حياته بمفكر مسيحي يتمتع بقدرات لا تقل عن قدراته الخاصة؛ الأسقف أمبروسيوس، وهو رجل حاصل على تعليم عال ويتمتع بعلاقات قوية بأصحاب النفوذ في البلاط. استقبل أمبروسيوس أوغسطينوس بلطف وكياسة، وأجلته مونيكا وأكنت له كل الاحترام ككاهن. قبل أن يمسي أمبروسيوس أسقفا عام 374، كان حاكما إقليميا لذاك الجزء الشمالي من إيطاليا، وساعده تلقيه تعليمه في بيت أرستقراطي مسيحي على إتقان اليونانية. ولم يستق أمبروسيوس أفكاره وإلهامه لعظاته وحسب من علماء لاهوت يونانيين أمثال باسيليوس مدينة قيصرية واللاهوتي اليهودي فيلو، المعاصر الأكبر للقديس بولس، ولكنه استقاها أيضا من أفلوطين. وعمل الدين الذي دان به أمبروسيوس لأفلوطين جنبا إلى جنب مع الحذر بشأن الفلسفة الوثنية كدليل للحقيقة.
ثمة مفكر مسيحي آخر في ميلانو ترك أثرا في أوغسطينوس، وهو رجل عجوز يدعى سيمبليسيان الذي انجذب من خلاله إلى جماعة من العلمانيين المتعلمين تعليما عاليا والمحتلين مكانة اجتماعية مرموقة، وكانت يجتمع أفرادها من أجل قراءة أعمال أفلوطين وفرفوريوس. ولقد أعجبوا بشدة بالقديس ماريوس فيكتورينوس الذي كرس السنوات الأخيرة من حياته لنشر المنطق الأفلاطوني الجديد دفاعا عن المعتقد الثالوثي الأرثوذكسي. لم يكن أوغسطينوس قط متأثرا بشدة بالكتابات اللاهوتية الغامضة لفيكتورينوس، لكن قراءاته لأفلوطين وفرفوريوس بترجمة فيكتورينوس ألهبت أفكاره. وقد يبدو هذا مستغربا للقارئ الحديث الذي يمكن أن تبدو له الأفلاطونية الحديثة معقدة وموجهة لفئة خاصة. إن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة للوجود لها فرضيات مسبقة أو بديهيات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الخاصة بالمنهج العلمي الحديث؛ فنقطة انطلاقها هي العقل لا المادة.
अज्ञात पृष्ठ