216

ثم تهب ريح تجعد صفحة النهر، وتغضن أساريره، فكأن كل شيء قد تغير؛ ثارت ثائرة النهر، كما تضطرب أفكار المفكر الهادئ بشبهة عاتية تزلزل نواحيه، وتهيج مستقر سرائره، كذلك جاشت نفسي، وهاج فؤادي:

أيها النيل المنحدر من مجاهل الأرض، كأنك آت من وراء الغيب، والمتدفق من مجاهل الزمن، كأنك منحدر من الأزل! أيها النيل المصطخب بدفاعك وآذيك، الرائع في هديرك! أيها النيل المنصب في البحار الواسعة العميقة التي لا يعلم قرارها، هل أنت إلا سبب إلهي تسيل من المجاهل إلى المجاهل، كما يبزغ النجم في الأفق ويغيب في الأفق؟ ما مبدؤك وما منتهاك؟ نعرف أنك من البحر وإلى البحر.

وكذلك حياتنا، أيها النيل، نرى مجراها المائج الجائش، الصاخب المضطرب، المزبد الطامي، وكأن الناس فواقعه التي لا قرار لها، أين منبع هذا المجرى وأين مصبه؟ ما مبدؤه وما منتهاه؟ منبعه الأرحام التي تقذف الأجنة في هذا العباب، وأما مصبه فتلك الحفر السحيقة الموحشة الساكنة التي تزدرد العالم في الحقب المتطاولة وتقول: هل من مزيد؟ هذه المهاوي التي لا يعلم قرارها، ولا يدرى إلى أية غاية منتهاها، أجل، إنها البحر الأبدي المجهول. وما هذه الصفائح والرجام والحصى والمدر إلا أمواجه وزبده، ورشاشه المتطاير، ولكنها الأمواج الساكنة الجامدة؛ لأنها أمواج الموت؛ ولأنه بحر الفناء.

هذه منبعه وهذا مصبه، ولكن ما المبدأ وما المنتهى؟ لا ندري، ولكننا نعرف أننا من البحر وإلى البحر!

تدفق أيها النيل من الغيب إلى الغيب. أيها النيل، كم مرة طلعت الشمس عليك! وكم مرة تلألأ في صفحتك القمر! وكم مرة تراءت في لججك هذه الكواكب المطلة عليك كأنها تطالع صورتها فيك، وكأنها تناجيك بالأسرار الغامضة، والحوادث الخافية، والوقائع التي طويت في غيابات الزمن، والأمم التي سفت عليها أعاصير القرون!

يا نيل، كم أمة عمرت شاطئيك، وجمعت بالجسور عبريك، وملأت صفحتك بالسفائن، ثم زال بها نهر الحياة السريع، فلا جلبة ولا عراك، ولا جرس ولا ركز، ولا تكبر ولا فخر، وليس إلا بقية آثار تشبه الجزر والصخور المعترضة في مجرى النهر استعصت على التيار، ولا بد أن يجرفها يوما. وإن أكبر هذه الأمم حظا من الخلود تلك التي بقيت آثارها كصفائح القبور تدل على ما وراءها من الفناء، تلك التي يقرأ تاريخها في أحجار المقابر.

أيها النيل، وإنك لأهدأ سيرا وأرفق يدا من نهر الحياة، بل نهر الموت الذي لا يبقي ولا يذر! إنك تجور على القرى أحيانا، وتتحيف الشاطئين أحيانا، ولكنه لا يدع قرية ولا شاطئا، ولا علامة على القرية والشاطئ. إن لك لعبرين وقرارا، فأين عبرا نهر النيل، وأين قراره؟ وماذا في لجاته؟ إنه القضاء الرهيب يتدفق من الأزل إلى الأبد، وكأنه يجري وراء العيون والأسماع، والعقول والأفكار، وإنما نبصر من فواقعه ورشاشه، ونسمع عن اصطخابه وضوضائه، لا بل نرى لججه وأمواجه، ونسير في تياره وعبابه، وليس لنا علم بما وراء ذلك.

أيها النيل، تدفق تدفق من الغيب إلى الغيب، كما شاء ربك، فكذلك نحن في هذه الحياة: سائرون مع النهر، مستسلمون للتيار، جهدنا أن ننشر الشراع، ونحرك المجداف، كما شاء ربنا، وليس لنا من الأمر شيء.

ملك وفيلسوف1

نشأ إسكندر بن فيليب ملك مقدونيا قويا شجاعا عظيم النفس، بعيد الهمة، وتبوأ العرش في سن العشرين، فأرهق الجند بأسه، وتصرفت بالجحافل همته، فلم يعجزه مطلب، ولا بعدت عليه غاية، وما ظنك بملك شاب عظيم طموح، كبير الهمة، يواتيه جند باسل، وجحافل جرارة؟

अज्ञात पृष्ठ