والواقع أن الذي وضع الحجر الأول في بنائها هو الشاعر خليل مطران.
لقد كان الشاعر خليل مطران يكتب قصصه الشعرية «الجنين الشهيد» وغيرها حين كان حافظ وشوقي يقلدان البارودي أو يعارضان القدماء، وكنا نحن في صبانا نقرأ شعر مطران كما نقرأ حافظ وشوقي، وقد ترك الثلاثة في نفوسنا آثارا لا تمحى، ولكني أعتقد أن أثر مطران علينا كان قويا واضحا؛ فإذا كتبنا اليوم شعرا نسميه نحن حديثا أو جديدا، فمن فضل ذلك الرجل، وشد ما أخشى ألا تعرف له تلك اليد التي أسلفها، وتوارى كعادته مدعيا أنها ليست له، وأنها لغيره!
وسيوافقني صديقي أبو شادي الذي أسر كل السرور بكتابة هذه الإلمامة لديوانه البديع، على أننا مدينون لخليل مطران بكثير من التوجهات في شعرنا العصري؛ هو وضع البذور وفتح أعيننا للنور، ونحن إنما زدنا على ذلك بما عرفناه في مطالعاتنا المتعددة، ويساعدنا على ذلك عرفاننا باللغات المتباينة التي أوقفتنا على التيارات الجديدة للآداب والفنون، وأطلعتنا على الثقافات الحديثة في العالم المتحضر، وإذن ف «أطياف الربيع» التي نظمها شاعر من جمعية أبولو، هي تحية لمطران رئيس أبولو الذي كان يكتب قصيدته «المساء»، ويجلس إلى البحر يستعرض الطبيعة، ويتكلم إلى الكون، ويناجي الله، ويشرح عذاب الإنسانية، ويشعر بالفناء والعدم، ويحس في ساعة واحدة بالماضي والحاضر والمستقبل، بينما غيره كان يتكلم في «قفا نبك»، ويقلد «أمن أم أوفى دمنة».
إذن فالمدرسة الحديثة التي يتكلم بلسانها أبو شادي، وحسن الصيرفي، وصالح جودت، والشابي وغيرهم، هي رجع الصدى لذلك الصوت البعيد الذي ردده مطران في غير ضجة ولا ادعاء.
وماذا صنعت المدرسة الحديثة؟
لو لم تنشئ غير مجلة «أبولو» لكفاها فخرا. لينكر الناس على أبي شادي شعره إذا شاءوا، وليعجبوا بأطياف الربيع والشعلة وسواهما من دواوينه أو لا يعجبوا، ولكنهم لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه بمجهوده الجبار، وبثباته الممتاز، خلق مدرسة، ورفع علما، وأخرج إلى النور شعراء كانوا بغير حق في الظلمات. لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه وسع أفق الشعر العربي، وخرج عن قيود أثقلته وقعدت به أجيالا طوالا، وقد يكون في الخروج على هذه الأصول المرعية والتقاليد المتوارثة شيء من الصدمة التي لم تألفها النفوس بعد؛ وقد يكثر الخصوم والمعارضون والمنكرون، لا بد من هذا في كل تطور، وفي كل حركة جديدة يقصد منها إلى التحرير والخلاص. وطالما رأيت أبا شادي في وسط هذه الزوبعة من المعاول المتساقطة ساهما حزينا، ولكنه لم يكن يائسا ولا جبانا، فبينما كان يصدر الأعداد الممتازة الضخمة من أبولو، وتارة عن شوقي، ومرة عن حافظ، مهما كلفه ذلك من التضحية في سبيل نشر آثارهما، مخلدا ذكراهما وهو المنتقد لأساليبهما، الثائر على طريقتهما، إذا به يقول الشعر في كل شيء وعن كل شيء؛ يقوله واصفا الشارع والبيت، والزهرة والحقل، والنهر والبحر ، والمدينة العامرة والكوخ الحقير، لا يفوت إحساسه الدقيق شيء، شأن الفنان القوي الحواس، وهو بذلك يضرب مثلا للشعراء عما يجب أن يتناوله الشعر من المعاني، منبها إياهم لما يجب أن يكون عليه الشاعر من الإحاطة بالحياة.
وطالما انتقدت أنه يكتب بكثرة وإفراط، حيثما الشعر يحتاج إلى غربلة، ثم أعود فأعتذر إليه بين نفسي ونفسي، قائلا إنه كشاعر فنان شره يحب الحياة يريد أن يلتهمها التهاما؛ فمن الواضح أنه لا يستطيع التمهل، ما دام دائب التذوق، دائب الجري وراء مفاتن الكون ومحاسنه، وما دام يشعر في كل لحظة شعور ألف شاعر.
والواقع أن دواوينه معرض ممتاز لحياة مليئة بالفن والجمال وعبادة الفن والجمال، فياحة بشتى الصور والخوالج، غاصة بما يعتورها من السخط والرضا والهدوء والثورة. ومما يميزها ويرفعها في نظري أن أبا شادي ليس أنانيا؛ فليس شعره مقصورا على نفسه محيطا بها كدائرة مركزها انفعالاته الخاصة، كلا، بل هو حر طليق كالطائر الذي يسبح في جو فسيح مترامي الأطراف، يرى الكون من عل؛ فيبهجه جماله وتفتنه محاسنه، فيندمج الجزء في الكل، فتصير الأغنية الخاصة وصفا عاما، وصدحة شاملة للعوالم بأجمعها.
وهو يشبه الطائر أيضا في أنه يكره القيود، يكره أن يستقر في وكر واحد، أو يأوي إلى أيك واحد؛ فما تكاد القافية تقيده، حتى تشعر أنه ثار عليها ومضى إلى أخرى، ولعل هذا الطبع قد اكتسبه هو من كثرة مزاملته للنحل الذي لا يقنع بزهرة واحدة!
ويدرك القارئ بسرعة اقتناع أبي شادي بأن الشعر فن من الفنون الجميلة، وأن الشاعر يجب أن يعيش عيشة الفنان لا عيشة الكاتب الناظم، وما هي عيشة الفنان؟ هي أن يرهف أذنه للأصوات ويفتح عينه للألوان والصور، وأن يستدق شمه ولمسه، كذلك عاش ابن الرومي، وكذلك عاش الشاعر كيتس الذي كان ينام في الحقل ليشرب من ندى الطبيعة، وكذلك كان سيد درويش الذي كان يستقي أنغامه من جدول الكون، وكذلك يجب أن يعيش كل شاعر ملهم، وأن يستمد وحيه من لوحة الكون، لا من الكتب والدواوين الأخرى، وأن يغمس قلمه في مداد الحياة، وأن يكتب مما اكتسبه من التجارب والإحساسات، وما عرفه من مخالطة الناس، وألا يعبأ بما يصيبه منهم من خيبة وعثار، وألا يجزع لما يلقى من إنكار للجميل وعدم تقدير للمجهود والعبقرية؛ فكل هذه الآلام والمتاعب والأشجان لازمة للعبقري الفنان يستمد منها شعره ويغذي خياله.
अज्ञात पृष्ठ