وسكتوا كلهم فلم يحر أحد جوابا. - «لا تخف وقل لي ما حدث، إني قادم من دنيبروبتروفسك وأؤكد لك أني لا أعرف ما حدث!»
وتطوع رجل آخر بالجواب فقال: «لقد استدعي الزعماء.» - «وإلى أي مكان استدعوا؟» - «لا حاجة بي إلى القول إنهم لم يدعوا إلى الكنيسة أو إلى مشرب البيرة، بل دعوا إلى القسم السياسي بطبيعة الحال، وفوق ذلك فإنهم لم يعودوا إلينا أبدا.»
وقاطعه العامل الملتحي وهو يضحك ضحكة مريرة: «لعلهم كانوا في حاجة إلى إجازة يقضونها في سيبيريا.»
ونقلت ما رأيت إلى زميلي عضوي اللجنة، وكانا هما أيضا قد فتشا البيوت وما تم من أبنية المصانع، ولم يكشف أحد منا عن شيء يسره ليخبر به رفيقيه، وقضيت الليلة ساهرا أتقلب في فراشي، يؤرقني ويقض مضجعي ما شاهدت من أقذار وما يعانيه العمال من آلام وشقاء، ويفت في عضدي قنوط الذين لم يشكوا أمرهم إلينا لفرط تعبهم أو لعدم اكتراثهم، فآلمني ذلك منهم أكثر مما آلمتني سخرية الذين تحدثوا إلي وكراهيتهم اللتان عبروا عنهما بأقوالهم، ومما زاد هذه الصورة قتاما وزادني يأسا من إصلاح الأمور ما قاله أولئك العمال عن الزعماء الذين استدعوا ولم يعودوا إليهم أبدا.
وعقد في اليوم الثاني اجتماع في مركز لجنة الحزب بالمدينة شهده جميع الرؤساء المسئولين في مصانع نيقوبول، وشرحت لهم ما رأيت بكل ما أسعفتني به اللغة من ألفاظ، وأعلن الرفيق برتشكو مدير المصانع أن موظفيه سيدعون ليحاسبوا على أعمالهم أمام السلطات السوفيتية العليا إن لم يحل بعد خمسة أيام من ذلك الوقت شيء من النظام محل الفوضى الضارية أطنابها في الثكنات، وأعلن الرفيق تسبكياكوف أن اللجنة لن تعود إلى مقرها، بل هي باقية حيث هي لترقب ما يئول إليه الأمر في نهاية الأيام الخمسة.
وكانت هذه أيام ما أعجبها، فقد جيء بمئات من الرجال يمسحون الأرض ويغسلونها ويصلحونها، واهتزت أسلاك البرق والمسرة مرارا كثيرة إلى خاركوف ومرة على الأقل إلى موسكو نفسها، فجاءت أسفاط ملأى بأغطية الفرش وأكياس الوسائد، وشرع العمال يمدون الأسلاك الكهربائية إلى الثكنات، وكأن الموظفين الذين سمحوا من قبل بأن تتجمع هذه الأمور المروعة قد أصبحوا هم أنفسهم أحرص الناس على إصلاحها وأكثرهم اغتباطا بهذا الإصلاح.
وتحدث إلي أحدهم فقال: «لم توجد هذه الشرور لأنا راغبون فيها، بل كان سبب وجودها أنا عاجزون عن علاجها، وإن ترك الأمور تجري في مجاريها خير من العمل وبذل الجهود، إنك لا تجد إنسانا يرغب في تحمل التبعة، انظر مثلا إلى عملية التنظيف الشاملة، فهي عملية لم تكن مستطاعة إلا لأنكم تمثلون لجنة الحزب الإقليمية، والميزانية لا تحوي اعتمادات للأغطية النظيفة أو الإصلاحات الضرورية، ومن ذا الذي يستطيع العبث بالميزانية؟ إنها كما ترى دائرة مفرغة لا أول لها ولا آخر.»
وتناولت العشاء في الليلة السابقة لسفرنا مع أحد رؤساء المهندسين، وكان رجلا كبيرا من غير أعضاء الحزب.
فقال لي في أثناء حديثه: «لست من حزبكم، بل أنا من رجال الفكر الروس وكفى، ولا أريد أن أتدخل في شئونكم الخاصة، ولكني مهندس يعز علي أن تذهب جهودي أدراج الرياح، فأنا أحب بلادي وأبغي لها الخير والرخاء، وأرجو أن تصدقني في قولي هذا.
إن كل ما نتقدم به إلى المركز العام عرضة للنقد الشديد، والذين فيه لا يدرسون ما نتقدم به إليهم على أنه عمل هندسي، بل يدرسونه من وجهة النظر «السياسية»، ومهما يكن قرارهم فإنا مرغمون على إطاعته، مهما يكن من سخافته وبعده عن الصواب، فإذا أخطأ الرؤساء قاسينا من جراء خطئهم الأمرين، ولكننا لا نستطيع الكلام، بل إننا في الواقع نكون سعداء محظوظين إن لم تلق علينا تبعة أخطائهم.» - «وماذا تقول في أعضاء الحزب المحليين؟ ألا تلقون منهم معونة؟» - «آه يا عزيزي الرفيق كرافتشنكو، إن لديهم مناصب لا حصر لها للتجسس والرقابة، أما المعونة فليس لها عندهم مناصب كثيرة، إن لجنة المصانع التابعة للحزب تفحص، ولجنة المدينة تفحص، والقسم السياسي يفحص، وأنتم هنا الآن لتفحصوا، وهم يفحصون عنا ويفحص بعضهم عن بعض، وقد تظن أن الواجب يقضي بأنه إذا عهد بالمال الكثير إلى الذين يحسنون تدبيره فلتترك لهم الحرية الكافية لإنفاقه على أحسن وجه، لكن الذي يحدث فعلا أننا نقضي من أوقاتنا نتناقش فيما عسى أن يظن بنا هذا الرجل أو ذاك أكثر مما نقضي منها في الأعمال الهندسية وفي الإنشاء، ولم أكن أجرؤ أنا نفسي على التحدث إليك بهذه الصراحة إلا لأني رجل كبير السن.»
अज्ञात पृष्ठ