وهالنا ما وجدناه من الآلات الغالية الثمن المستوردة من ألمانيا على الأكثر ملقاة في العراء يعلوها الصدأ وهي منتشرة في الأرض الواسعة المعدة لإقامة المصانع والمصاهر، وبيوت المديرين ومساكن العمال، وشاهدنا في كل مكان زرناه مباني مهجورة بعضها لم يبن منه إلا نصفه، وبعضها لا يزيد ما بني منه على قواعده.
وقلت ونحن نتعثر في هذه البيداء الملأى بالحجارة والمعادن: «لكن هذا أمر فظيع يا رفيق برتشكو.» - «إني أعرف ذلك ولكن ما حيلتي فيه؟ فنحن لا نكاد نبدأ العمل في أحد الأبنية حتى تأتينا الأوامر من المركز الرئيسي بأن نقف كل شيء وأن نوجه جهودنا كلها إلى مكان آخر؛ لأن الخطط تغيرت! هذا إلى أننا في الوقت نفسه نجد العمال عاجزين عن القيام بما فرض عليهم القيام به من العمل، ونسبة المرضى والغائبين بينهم مروعة حقا، فهم قد سئموا عملهم لأنهم يعيشون في ظروف قاسية، ولست أخفي عنك أنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء الملائم لهذا النوع من العمل.»
ثم قال بلهجة الراضي عن نفسه : «وأنا حديث العهد هنا بطبيعة الحال، وكل ما تراه قد ورثته عن عهد الإدارة السابقة.»
ألا ما أتعس حظك يا برتشكو! أنى لهذا الرجل أن يعرف أنه لن تمضي على حديثه هذا بضع سنين حتى يكفر بحريته عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها في نيقوبول؟ وأنى لي أن أعرف أني سأدعى في يوم من الأيام لأن أضطلع بقسط هام في إدارة هذا المصنع «الجبار»، لقد كنا في هذه الزيارة نخطو وسط تلك الفوضى التي لا يتصورها العقل والتي تشمل المكان برمته، وكل منا يجهل لحسن الحظ ما تخبئه له الأقدار.
ووجهت اللجنة الزائرة الأسئلة إلى المهندسين ورؤساء العمال وصغارهم، وتبين لنا من دراستنا أن العمل كان يسير في فترات متقطعة في غير نظام، وأن الأموال والجهود تذهب هباء، وخيل إلي أن أسباب هذا الاضطراب تنقسم قسمين:
أما القسم الأول:
فناشئ من دسائس من لا شأن لهم بالعمل ومن تدخلهم في شئونه، لقد كان هذا العمل على ضخامته مرتبط الأجزاء بعضها ببعض، يتكون منه كله مشروع شامل يبلغ من الاتساع حدا يكاد العقل البشري يعجز عن الإحاطة به كله، وكثيرا ما كان التغيير الضئيل في الخطة الرئيسية لهذا المشروع - ولو كان له ما يبرره - يؤدي إلى اضطراب في أجزائه النائية، ولم يكن في وسع الموظفين البعيدين عن مركز العمل أن يدركوا في جميع الأحوال ما تسفر عنه أوامرهم المرتجلة بشأن هذا الجزء أو ذاك من عواقب وخيمة تؤثر في العمل برمته، ولم يكن الموظفون المحليون يجرءون على مخالفة تلك الأوامر، فلم يكن لهم بد من إطاعتها مؤملين أن تستقيم الأمور فيما بعد، يضاف إلى هذا أن التدخل كان من نوع التدخل الشرطي طابعه القبض المستمر على القائمين بالعمل، واستجوابهم وتهديدهم مما أحاطهم بجو من الخوف وعدم الاطمئنان.
أما القسم الثاني:
من أسباب اضطراب العمل وضآلته فيمكن تلخيصه كله في عبارة واحدة هي إغفال الجانب الإنساني في عملية الإنتاج؛ ذلك أن أجور العمال كانت ضئيلة ضآلة يرثى لها إذا قدرت بالقيمة الشرائية للنقد الروسي في ذلك الوقت، مع أن عشرات الملايين من الروبلات كانت تبدد بلا حساب في شراء آلات لا ينتفع بها، وفي إقامة مبان يتخلى عنها بعد قليل، أما مشروعات مساكن العمال فقد بقيت مجرد رسوم على الورق، وظل العمال أنفسهم يحشرون في ثكنات خشبية أقيمت على عجل، ذات سقوف يتسرب منها ماء المطر، وجدران وأرض رطبة تنقصها الوسائل الصحية البدائية، لقد كان كل ما يهتمون به هو الإنتاج، أما من يقوم على جهودهم هذا الإنتاج فلم يكن أحد يوجه إليهم أقل عناية، بل كانوا موضع الإهمال والازدراء.
وقررت في مساء اليوم الثاني من مجيئنا إلى نيقوبول أن أزور الثكنات في صحبة الرئيس المشرف على أعمال البناء، وأمين لجنة الحزب المحلية، والموظف المشرف على المساكن، وسرنا نخوض في الوحل إلى كعوبنا حتى وصلنا إلى صفوف من المساكن قبيحة المنظر لم يمتد إليها النور الكهربائي مع وجود الكهرباء في أبنية الإدارة العامة، بل كانت مصابيح الكيروسين مع فتائل مغمورة في أوعية زيت صغيرة تلقي ضوءا شاحبا على مناظر من القذارة يرتد منها البصر خاسئا وهو حسير.
अज्ञात पृष्ठ