وكانت خلاصة هذه القصة أن برامونوف وعددا قليلا من أصدقائه اتفقوا فيما بينهم على أن يلتقوا عند ركن في مكان منعزل في حديقة المدينة، ولم يمض على لقائهم بضع دقائق حتى مر بهم جماعة من الأغراب يتظاهرون بأنهم يسيرون في المكان مصادفة، ولكن برامونوف ارتاب في أمرهم وظنهم من رجال الشرطة في ملابس عادية، فبادر بتوديع رفاقه وانطلق بين الأدغال وهو يرجو أن يتسلق سورا من الأسوار ويفر منهم، وسرعان ما سمع أصدقاؤه صوت طلقات مسدس ووجد الهارب بعدها قتيلا.
وكان في وسع أبي رغم مشاغله الكثيرة أن يقضي ليالي كثيرة وبعض أيام الآحاد مع أبنائه الثلاثة، وكنا نقطع الوقت في قراءة مؤلفات هرزن وتولستوي وغيرهما من الكتاب، وكان أبي يختار منها بعض الفقرات ليعلق عليها ويشرح بها آراءه عن تحرير الروس من رق العبودية وعن الحرية البشرية، وكان لآرائه الحماسية - ولعلها كانت أيضا آراء غير صائبة - أعظم الأثر في مشاعري، وكان لها من القوة في نفسي ما للعقائد الدينية.
وانعقدت في ذلك الوقت أيضا بيني وبين زميل لي في المدرسة يدعى أسبيريدونوف أواصر صداقة قوية، وكان ذلك الشاب ابن أحد مدرسي المدرسة الثانوية، وكنت أقضي كثيرا من الوقت في داره، وفي بيت هذا الصديق عرفت لأول مرة أسرة مثقفة كان الأدب والموسيقى والمسرح لديها حقائق واقعية أعظم شأنا من الخبز ومن العمل، وكان والد أسبيريدونوف يوجه نهمنا في القراءة إلى آفاق واسعة لا تقتصر على روائع الأدب الروسي، بل تشمل كذلك مؤلفات شيكسبير وجوت وأناتول فرانس ونت همسن وهوجو وفلوبير وزولا ودكنز.
وإذا عدت الآن بذاكرتي إلى تلك الأيام الخالية أدهشني حقا مقدار ما قرأت وتنوع ما قرأت في تلك الأيام التي ازدهرت فيها حياتي الذهنية، وامتزج جمال هذه الكتب بأماني أبي العالية حتى أضحت بطريقة ما عنصرا من عناصر الثورة التي كانت تكتسح في طريقها غلاما مثلي في الحادية عشرة من عمره، وخيل إلي وقتئذ أن الثغرة التي تفصل الأدب عن الحقائق الواقعية، والألفاظ عن الأعمال، قد أخذت تسد، وأنها عما قليل لن يبقى لها أثر.
وهبت العاصفة التي تجمعت نذرها من زمن بعيد في الأسابيع الأخيرة من شهر فبراير سنة 1917م (في أوائل مارس بالحساب الغربي)، ودهش الناس كلهم وتحيروا في أمرهم حتى الذين كانوا منهم أكثر الناس ثقة بهبوبها، فقد أصبحت كلمة الثورة ينطق بها الآن جهرة وتجري على كل لسان، وحدث ذلك فجأة على غير انتظار بعد أن كانت هذه الكلمة لا ينطق بها إلا الأصدقاء الذين توثقت بينهم الصلات، وحتى هؤلاء لم يكونوا ينطقون بها صريحة بل كانوا يلمحون بها تلميحا، وارتاع الناس من هذه الحقيقة العجيبة، وسرعان ما استحال ما كان يبدو من قبل حلا سهلا ميسرا للمشاكل القائمة إلى آلاف الآلاف من المشاكل الجديدة لعل أقلها خطرا إيجاد الطعام للجائعين والكساء للعارين.
واضطربت شئون الحياة المألوفة كلها وتزعزعت أركانها، وفقدت المدارس والمصانع والمعاهد العامة ما كان لها من معنى في عقول الشعب، وخرج أهل مدينتنا جماعات إلى الشوارع المكسوة بالثلوج حتى ضاقت بهم، وكأن البيوت ومكاتب الموظفين والمعامل قد انقلب باطنها ظاهرها، فلفظت كل من فيها من الناس إلى الميادين والمتنزهات، وقامت فيها المظاهرات، وخفقت الرايات، وعلت أصوات الهتاف، وتوترت الأعصاب، وانطلقت أحيانا بعض الرصاصات، وطغى على هذا كله جو صاخب من الكلام، الكلام الكلام، فقد انطلق من الصدور ما كان مكبوتا فيها من الألفاظ عدة قرون في خطب قوية عاطفية مثيرة للشعور سخينة وملهمة عالية مدوية داعية إلى الانتقام.
وامتلأ الجو بنداءات الثورة، وأخذت هذه النداءات تتكاثر ويتضاعف عديدها في كل يوم: لتسقط الحرب، الحرب حتى النصر! الأرض والحرية ! المصانع للصناع! هيا إلى الجمعية التأسيسية! السلطة كلها للسوفيت! وقرعت آذاننا في كل يوم ألفاظ جديدة وأسماء لا عهد لنا بها من قبل: بلاشفة، مناشفة، ثوار اجتماعيون وفوضويون ... وكرنسكي وميلوكوف ولينين وتروتسكي ... والحرس الأحمر والبيض والأشياع ...
وأقيمت المنصات في الميادين الكبيرة، وتعاقب عليها الخطباء بعضهم في أثر بعض يخطبون الجماهير بأعلى الأصوات، ووقف عليها الرجال والنساء الذين لم تعل من قبل أصواتهم عن الهمسات، ثم اندفعوا الآن يصيحون ويخطبون ويسبون ويصخبون، وتنحى الرجال المتعلمون ذوو اللحى المشذبة عن أماكنهم إلى الجنود والعمال، وعلت أصوات الجماهير كهزيم الرعد تنادي: «حقا! حقا!» و«فليسقط، فليطرد.»
وجاء أبي في يوم من أيام المظاهرات تظلله أيكة من الأعلام التي صنعها المتظاهرون بأيديهم، ووقف يخطب من فوق منصة، وكأن الناس كلهم كانوا يعرفون اسمه.
وبدأ خطبته بقوله: «أيها الأصدقاء والإخوان، أيها العمال والفلاحون ورجال الفكر والجنود.»
अज्ञात पृष्ठ