176

आज़ादी का असर

آثرت الحرية

शैलियों

فلما أن طمأنته بكلماتي التمس مني مكرمة، وهي أن أتفضل فأطلعه على دفاتر القيد الخاصة بمصنعي؛ لأنه بعد أن شاهد ضروب العمل هناك بضعة أيام أراد أن يعلم كم نؤجر القفالين والخراطين وعمال الكهرباء وغير هؤلاء وأولئك من العمال، كما أراد أن يعلم كم رجلا تمتع باستراحات الحكومة خلال عطلته وبأسباب الراحة الأخرى خلال العام المنصرم، ولما لم تكن هذه المعلومات المطلوبة سرا مكتوما، دققت الجرس أطلب رئيس مكتب القيد وأمرته أن يضع دفاتره تحت تصرف أبي.

ولبثت بعد ذلك عدة ساعات في المصنع، حتى إذا ما عدت إلى الدار وجدت أبي قد سبقني إليها، فلما اجتمعنا على العشاء بدت على وجهه علائم الهموم، لكننا أخذنا نشقق الحديث في أمور مطروقة لا نتعمد اختيارها، غير أني أدركت أن أبي كان قد ادخر في نفسه ما أعد من قنابل فيفجرها في حديث «جاد» نبدؤه فيما بعد، وقد أدركت ذلك في يقين حين اقترح علي أن أصرف «باشا» عن الدار ذلك المساء، وقد أضاف والدي إلى ذلك قوله: «لا حاجة بنا إلى آذان غريبة عنا.»

جلست على أريكة في غرفة مكتبي وأشعلت لفافة وأعددت نفسي لأسمع منه ما يقول. - «وبعد يا أبت، ماذا يشغلك؟» - «لقد لبثت يا بني زمنا طويلا أتمنى الفرصة التي أحدثك فيها حديثا مكشوفا صريحا، إنك عزيز علي، لا باعتبارك ولدي فحسب، بل كذلك باعتبارك إنسانا شهدته يتفتح خلال أعوام ثلاثين، ومع ذلك فكلما كرت الأعوام ازدادت الصراحة بيني وبينك عسرا، وإن ذلك لعلامة سوء؛ لأنها علامة على المخاوف التي تكتنف حياتنا هذه الأيام.» - «يؤسفني ذلك يا أبت، ولكني أسائل نفسي ترى هل يساير أبي التاريخ في خطاه؟ أعني أنني أشك في أنك لا تزال تحيا في جو عصر غبر.» - «أنا معترف يا «فيتيا» بأنك أغزر مني علما بحوادث السياسة الجارية، فأنت رجل من رجال الحزب العاملين وموظف له خطره في الدولة، إذ تشرف على ألف وخمسمائة عامل، وتدير إنتاجا تقدر قيمته بعشرات الملايين من الروبلات، ومع ذلك كله فأحسبني أكثر منك علما بغمار الناس، العمال منهم والمزارعين، فما أسرع ما يجرف الإنسان تيار الحوادث بحيث لا ينظر إلى غمار الشعب إلا من طرف المنظار الخاطئ، وكان واجبه أن ينظر إليهم من طرفه الآخر، فلديك وفرة من المال وألوان الراحة والسيارات والخدم ...» - «لست يا أبت فيما أرى حقيقا بهذا التقريع، فما سرقت شيئا، إنما هي أشياء أعطانيها نظام الحكم القائم، فتراني مقابل ذلك أعمل أكثر مما يعمل الفلاح.» - «لست أريد لك تقريعا بما قلت، فأرجوك ألا تسيء فهم ما أقول، لكني لا يسعني سوى أن يأخذني الهم خشية أن تكون قد أضعت من قلبك شعور الإخاء مع سواد الناس، ولأقلها في عبارة أصرح: إني أخشى أن تكون من هؤلاء الحاكمين (البيروقراطيين) الذين ترضى نفوسهم كل الرضى إذا ما رأوا أنفسهم رؤساء يتحكمون في أفراد الشعب الروسي الذين لم يسعدهم الحظ.» - «لست أفهم في جلاء ماذا تريدني أن أصنع، فما أنا إلا ترسا ضئيلا في آلة كبرى، الحق يا أبي أني أبذل في العمل جهدا لا يبقي لي من وقتي فراغا ولا من قوتي فضلا بحيث أشغل نفسي بالمبادئ الأولى، إنني في عملي كمن دفن في رمسه.» - «واختصارا فأنت تتحول شيئا فشيئا إلى نعامة تخفي رأسها في الرمال فتختفي بذلك جميع المشكلات، إنك تقول: ليس الخطأ خطئي ولست أنا بالمسئول عن صيانة إخواني من سائر الناس، وليكن بعد ذلك ما يكون، نعم فلقد شهدت الأيام الغابرة كذلك ناسا من هذا الطراز، إن آلام بني وطنك لم تعد تمس من قلبك الشغاف.» - «استمع إلي يا أبت، لا تحسبن أني غافل عما يقع، أو أني قد أحنيت ظهري للنظام القائم، فأنت على كل حال لا تدري ماذا يدور في نفسي ويدور في نفوس ألوف الألوف من سائر الشيوعيين، ولكن ماذا عسى أن أصنع؟ أأخرج في الطرقات فأصيح: الغوث الغوث! أمسكوا القاتل! وفضلا عن ذلك فلا تنس أن هنالك عناصر إيجابية كذلك، فهنالك مصانع جديدة ومناجم جديدة وسكك حديدية ...» - «طبعا يا فيتيا طبعا، لكن الثورات لا تثور من أجل المصانع والسكك الحديدية، إنما تثور من أجل الشعب، إن جوهر الأمر كله هو حقوق الإنسان وما يتمتع به من حرية، وبغير هذه الحقوق وهذه الحريات، بغير هذه الكرامة الإنسانية، فالناس عبيد ولا عبرة بعد ذلك بالصورة التي تحول إليها سجنهم بفعل التحول الصناعي، فأنتم أيها الشيوعيون حين تزهون بالمصانع الجديدة، فإنما تعنون بذلك أن الناس قد حسنت أحوال عيشهم، وإذن فالسؤال هو: هل حسنت أحوال العيش بالفعل لأهل بلادنا؟» - «أظن ذلك لو قورنت حياتهم الآن بما كانوا يعانونه من شقاء أيام القياصرة.» - «فيتيا! لماذا تخدع نفسك؟ ألا تذكر حياتك في بيت جدك وفي بيتي حينما كنت غلاما؟ لم نكن أغنياء، لكننا لم يعوزنا قط الخبز واللبن والثياب الضرورية، بل قد كانت لك ولإخوتك مرضعة خاصة، لقد عشنا عيشا لا يعاب، ولو عدت بذاكرتي إلى الماضي لوجدت حياتنا إذ ذاك حياة مترفة بالقياس إلى حياة أسرة من الطبقة العاملة الآن، كم عاملا له اليوم بيت يسكنه من طراز البيوت التي سكناها؟ إن حياة الجوع والهزال التي تحياها أكثرية الناس اليوم، لم يشق بها في الماضي إلا نفر قليل.

إنني حين طلبت إليك اليوم أرقاما عن مصنعك، إنما فعلت ذلك لسبب، فلأمر ما لا أزال أذكر جيدا ما يقابل هذه الأرقام من أيام ما قبل الثورة، فالقفالون في نيقوبول يتقاضون اليوم أجرا يتراوح بين مائة وخمسة وأربعين روبلا ومائتين في الشهر، بينما كانوا يتقاضون قبل عام 1917م أجرا يقع بين خمسة وثلاثين روبلا وخمسين، وكان الخراط الماهر عندئذ يتقاضى أجرا يتراوح بين خمسة وأربعين وخمسة وثمانين روبلا، وهو اليوم يتقاضى ما بين مائتين وثلاثمائة وخمسين، فلو أدخلنا في حسابنا صنوف العمال الأخرى من قلابين وصهارين وعمال الكهرباء، فمتوسط الأجور اليوم هو مائتان وأربعون روبلا، بينما كان المتوسط خمسة وخمسين روبلا في الأيام الغابرة .

ولقد يحسب من يسمع هذه الأرقام أننا قد صلحت أمورنا، لكن ما حقيقة الروبل في تلك الأيام وما حقيقته اليوم؟ فقد كان الكيلوجرام الواحد من الخبز يساوي خمس كوبكات،

1

فماذا يساوي الآن؟ يساوي شيئا يقع بين روبل وعشرين كوبكا وروبلين، والكيلوجرام من اللحم كان يساوي من خمسة عشر كوبكا إلى عشرين، وأما اليوم فإذا وجدت لحما يباع، فالكيلوجرام الواحد منه يساوي اثني عشر روبلا، وهو ما يساوي سعر الماضي ستين مرة!

كم دفعت ثمنا للحلة التي ترتديها؟» - «ثمانمائة روبل.» - «ثمانمائة روبل! هذا أجر عامل صهار ماهر في ثلاثة شهور أو أربعة! أتدري ماذا كانت هذه الحلة تساوي في الأيام الغابرة؟ من خمسة عشر روبلا إلى عشرين على أكثر تقدير، وإذن فهذه هي الصورة أمامك فانظر، ارتفعت الأجور النقدية بحيث أصبحت من ثلاثة أمثال إلى خمسة أمثال ما كانت عليه، وهم يطنطنون بهذه الزيادة على أنها تقدم اقتصادي عظيم، لكن تكاليف العيش لم تزد مقدار خمسة أمثال ما كانت عليه، بل زادت بحيث أصبحت خمسة عشر مثلا بل أربعين بل خمسين مثلا، لقد كان القفال الذي يتقاضى في الماضي خمسين روبلا يعيش في بحبوحة، وهو اليوم يكسب مائتي روبل ويعيش عيش المشردين الأشقياء.» - «لكنك قد نسيت ما يتمتع به اليوم من مزايا: عطلات بأجور ورعاية طبية ومدارس لحضانة أطفاله ...» - «هذا جميل، فلننظر إلى هذه المزايا، إنك تسميها منحات بالمجان، وأنت تعلم أن جزءا كبيرا يقتطع من أجور العمال لتغطية ما تكلفه هذه المزايا من نفقات، إذ يقتطع من أجر العامل من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة مما يكسب، ليدفع رسوم النقابة والقروض الإجبارية وما إلى ذلك، فالعامل في الماضي كان في مستطاعه أن يدفع من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة من أجره ليحصل بها لنفسه على ما يريد من معونة طبية وعطلات، دون أن يوضع من الحكومة موضع من أحسن إليه.

لماذا نحتاج إلى دور لحضانة الأطفال؟ لأنه لا يستطيع من الزوجات أن يبقى في الدار لرعاية الأطفال إلا عدد قليل، كان العامل فيما مضى يستطيع أن يعيش مع أسرته عيشا لا بأس به ولا يكلفه أكثر من خمسين روبلا في الشهر، أما اليوم فإن تقاضى مائتي روبل، فلا بد له إلى جانب ذلك أن يرسل زوجته وأبناءه الكبار ليعملوا حتى تتعادل مكاسبه ونفقاته، وأما عن الرعاية الطبية التي يظفر بها العمال، فخير لنا ألا نمسها بحديث، أإذا مرضت يا فيتيا تذهب إلى العيادة الحكومية؟» - «كلا، بل أستعيد الدكتور جوركين عيادة خاصة.» - «طبعا، وهكذا يصنع كل من يستطيع إلى ذلك سبيلا، فأنت تعلم كما أعلم أن السبيل الوحيدة - إن أردت علاجا مفيدا - هي أن تدفع أجرا، فالعناية الطبية، شأنها شأن كل شيء آخر، قد أفسدتها الإدارة المستبدة (البيروقراطية) كما أفسدها عدم الاكتراث، ولكن ما قصة هذه الاستراحات التي يقضي فيها العمال عطلاتهم والتي تطنطن بها الصحافة الشيوعية؟ إن في مصنعك يا فيتيا ألفا وخمسمائة عامل، فهل تعلم كم من هؤلاء قد استفاد بهذه الاستراحات خلال العام المنصرم؟» - «لست أدري، وأظنهم بضع مئات.» - «أخطأت، فقد راجعت الأرقام اليوم ولم أجد في المصنع كله إلا سبعة وخمسين تمتعوا بذلك الامتياز، ومعنى ذلك أن الألف والخمسمائة عامل قد دفعوا كلهم جزءا من أجورهم نظير هذه المتعة، لكن لم يتمتع بها فعلا سوى سبعة وخمسين، وبالطبع كانت الاستراحات مليئة طول الوقت بزائريها، مليئة بالمديرين ورجال الحزب وكبار «الإستاخانوفيين» وغير هؤلاء ممن تخصهم الدولة برعايتها، نعم إني أرى ضرورة التأمين الاجتماعي والعناية الطبية وما إلى ذلك، على شرط أن تمنح هذه الامتيازات للعمال منحة تنفق عليها الدولة من أرباحها باعتبارها مالكة المصانع والقائمة على إدارتها، أعني الأرباح التي كان يجنيها الرأسماليون فيما مضى، ولا تقتطع النفقات من أجور العمال أنفسهم، وفي هذا وحده أساس الثورة كلها.

لكن أين تذهب أرباحكم؟ إن صناعتكم بل إن اقتصادكم كله ينتهي بكم إلى خسارة، وعلينا نحن المواطنين جميعا أن نسدد هذه الخسارة، إن ما يؤلم يا بني هو أنكم تعطون التوافه ثم تزهون كأنما أعطيتم شم الجبال، إنه ليؤسفني أن أقول: إن التقدم الاقتصادي ضئيل إذا قيس بما بذلناه من أجله وما ضحينا به في سبيله.

अज्ञात पृष्ठ