ومضت أسابيع تتلوها أسابيع، حتى إذا ما كان الصباح ذات يوم، لم يحضر «جرومان» إلى عمله كعادته، فظننت به مرضا، فلما لم يحضر في اليوم التالي، شغلت عليه وقررت أن أرسل رسولا إلى منزله في ختام العمل من ذلك النهار ليرى ما خطبه، إذ لم يكن له تليفون في داره، وبينا أنا أقلب بعض الأوراق المكدسة في أدراج مكتبي، صادفت حزمة منها مكتوبة باليد ومدبسة في ربطة واحدة، فعرفت في الكتابة خط «جرومان» فما كدت أقرأ كلمات الافتتاح حتى دفعتني غريزتي ألا أمس هذه الأوراق، وقد بدأت بالكلمات الآتية: «عزيزي فكتور أندريفتش، حين تطالع هذه الكلمات لن أكون في نيقوبول؛ لأني أحاول الفرار من هذه البلاد، بلاد الفظائع، فالموت نفسه آثر عندي من أن أحيا حياة العبيد ...»
فتندى جسدي بعرق بارد، وأقفلت باب غرفتي في حركة عصبية ووضعت على يدي قفازها وتناولت الخطاب، فوجدته وثيقة نادرة، وإني وإن كنت قد نسيت ألفاظه التي كتب بها، لا أزال أجد مادته منقوشة في ذهني نقشا: «أشكرك على كل ما تفضلت علي به شكرا صادرا من أعماق قلب روسي مخلص، فقد أيقظت رأفتك في نفسي شعورا إنسانيا كنت ظننته قد برد إلى حيث لا يعود، والحقيقة أن ذلك هو أحد الأسباب التي جعلتني أعتزم الفرار، وسأعبر الحدود إن شاء الله، وأما إذا قبضوا علي قبل ذلك فبالطبع كان في ذلك موتي رميا بالرصاص.
إني لأمقت النظام السوفيتي بما فيه من نظام شرطي مقتا ليس بعده مقت، فعلى الرغم من أني لم أقترف جرما - اللهم إلا إن كان حب الحرية جرما - فقد عانيت في قاعات التعذيب ما عانيت وزج بي في غرف السجن الضيقة الانفرادية وحيدا، حتى إذا ما أطلق سراحي تبين لي أن حريتي لن يطول بها الأمد، بل تبين لي أنني قد لا أجد عملا إلا إذا وضعت نفسي رهنا لإرادة من أنزلوا بي التعذيب.
ففي الليلة السابقة ليوم لقائي بك، كنت قد وصلت لتوي إلى نيقوبول قادما من معسكر الاعتقال، وقد جئت إلى نيقوبول تنفيذا لما أمرت به، وذهبت إلى القسم السياسي فسيق بي إلى «جرشجورن»، وهكذا رسم لي طريق الحضور إليك، فكان كل ما حدث - بما في ذلك توصية رومانوف - جزءا من مهزلة قبيحة كنت أنت ضحيتها.
لم يكن يهمني أن أتجسس على الناس، فلأني أمقت الشيوعيين جميعا، وجدت - فيما بدا لي - في التجسس فرصة سانحة أستطيع بها الانتقام لنفسي بأن أوقع في الشر نفرا من هؤلاء الشيوعيين، وكلما ازدادوا بذلك شقاء ازددت أنا انتقاما فارتياحا، ونظرت إليك نظرتي إلى من سيكون الضحية الأولى، لكنني ما لبثت أن أحسست نحوك باحترام، ونحو نفسي بالكراهية لما كانت قد دبرت ضدك من خطط.
وأحب أن تعلم أنه ما مضى قليل وقت حتى أصبحت أنا أول من يبلغ عنك أنباءك، فما دام الرجل منا قد قاسى أهوال التطهير على يدي القسم السياسي، فهو عندهم بعد ذلك موضع اطمئنان وثقة، فإن هؤلاء الشياطين ليعلمون أن الخوف أداة تصون الولاء فيمن يتخذونهم من الناس أعوانا، فكان يجيئني كل يوم وكلاء القسم السياسي الذين ينبثون في كل ركن من أركان مصنعك ومكاتبك، فيبلغونني ما وقعوا عليه من أخبار، فأجمع هذه الأخبار جميعا مرة في كل أسبوع تقريبا، وأصوغها في تقرير شامل عن عملك وقولك وأصدقائك، بل عما تدل عليه ملامح وجهك، وكذلك عما يبدو من أوجه النقص في عمل مصنعك.
لم يكن هؤلاء الجواسيس يعرف بعضهم بعضا، لكني كنت أعرفهم جميعا، فأقل ما يجب علي نحوك - اعترافا لك بما أسديته نحوي من عطف - هو أن أكشف لك عن هؤلاء.»
وأعقب ذلك قائمة بأسماء كان بينها اسم «رومانوف»، «رومانوف» الأصيل الذي أحببناه جميعا ووثقنا فيه جميعا لأساليبه الأبوية اللينة، وكذلك كان بين الأسماء كثيرون من ألصق الزملاء بي صلة في المصنع، فمنهم فريق من رؤساء العمال، وفريق من العمال والكتبة، فكان المخبرون شبكة انتشرت عيونها في كل «ورشة» أو مكتب في المصنع، بحيث تشمل كل مراحل العمل الفني الذي نقوم به. - «حذار من هؤلاء الناس يا فكتور أندريفتش! إنهم لا يحترمون الحقيقة في قليل أو كثير، حياتهم في وظائفهم معتمدة على كشفهم عن المؤامرات، ويغريهم أن يخترعوا بخيالهم مؤامرات ليكشفوا عنها، ولتعلم أن من عمل القسم السياسي على تحطيم أبدانهم وهدم نفوسهم هدما لا يبقي لهم خلاقا، لا يتورعون عن عمل مهما يكن، ويعترفون بكل ما يطلب إليهم أن يعترفوا به، ويلقون الاتهام على أي إنسان، ومن هؤلاء الناس كثيرون ممن يحيطون بك - ثم أعطى جملة أسماء - ولم أكن في ذلك وحدي.» - «أكبر ظني أنك سترتاب في أن يكون هذا الخطاب فخا نصبته لك، ولست على ذلك بلائمك، وكل ما أستطيعه هو أن أقسم لك بالله وبأمي الورعة التقية إنني أقول لك قول الصدق، وإنني أحاول أن أكفر عن أسابيع قضيتها متجسسا على رجل عطف علي واحترم في الآدمية ، وسأترك لغريزتك أن تهديك إلى تصديق هذا الذي أقول أو تكذيبه.
إذا أنت أطلعت «جرشجورن» على هذا الخطاب فسيقول لك إني كاذب وسيعمد من فوره إلى إعادة توزيع المخبرين، أما إذا استطعت الركون إلي وأتلفت هذا الخطاب وتظاهرت بالغضب لاختفائي الذي يحيط به الغموض، إذا فعلت ذلك فلن تأخذهم ريبة في أن أكون قد كشفت لك سترهم.
ومهما يكن قرارك الذي تنتهي إليه، فإني أستحلفك كل عزيز لديك أن تهيئ لي مهلة يوم واحد على الأقل قبل أن تبلغ أولي الأمر عن غيابي، فقد يكون هذا اليوم هو الحد الذي يفصل موتي عن حياتي، إني لأجثو أمامك على ركبتي ضارعا يا فكتور أندريفتش.
अज्ञात पृष्ठ