هنا لم تعد أمي قادرة على الاحتفاظ بروح الجد العملي التي كانت تخاطبني بها، فقد كانت هذه الروح قناعا سترت وراءه طبيعتها ولم تستطع أن تطيل له الأمد، بل اغرورقت عيناها بالدموع إذ آلم نفسها ما رأت، آلمها حتى هذا الفارق بين ما يتمتع به ابنها من رغد في العيش وبين حياة الآخرين.
وبعد أن سافرت أمي إلى «دنيبروبتروفسك» ببضعة أيام، عقد الرفيق «كوزلوف» اجتماعا من الموظفين الفنيين وموظفي الحزب ونقابة العمال، فلما ذهبت إلى مكتب الحزب حيث الاجتماع، كان المكان قد غص بالناس، ولم يكن في جدول الأعمال إلا موضوع واحد - كما أعلن كوزلوف - وهو «الظروف التي يعيش العمال فيها»؛ فاهتزت نفسي لذلك، فها هي ذي الفرصة السانحة - سنحت في وقت أقرب مما توقعت - فأبسط الحقائق أمام الإدارة بسطا كما صورتها لي أمي! وقلت لنفسي: يا لها من مصادفة سعيدة!
وتكلم ناس كثيرون كلاما فيه تعميم تدعو إليه طبيعة الموضوع، نعم إنه لا جدال في أن الظروف من البشاعة بمكان، لكن ماذا نحن صانعون حيالها؟ فلما جاء دوري في الكلام استطعت أن أنزل من التعميم إلى التخصيص، وطفقت أعيد على السامعين ما كشفت لي عنه أمي، إذ كان ما حدثتني به لم يزل حاضرا في ذهني.
ولم أكن في كلامي صدى مرددا لما روته أمي من وقائع فحسب، بل مرددا كذلك لنغمة غضبها وحزنها وتقريعها، وبديهي أن الكثرة الغالبة ممن استمعوا إلى حديثي قد تأثرت نفوسهم كما تأثرت نفسي قبل ذلك ببضع ليال، فقلت فيما قلت: إن في وسعنا أن نصنع شيئا كثيرا على الرغم من قلة ما بين أيدينا من وسائل، على شرط ألا تشغلنا «شواغلنا الخاصة» على نحو ما تشغلنا الآن، ثم استحفزت السامعين قائلا: هيا منذ الآن ننظر إلى مشكلات العمال في حياتهم اليومية نظرتنا إلى «شواغلنا الخاصة».
وسأل سائل: «من أين ل «كرافتشنكو» كل هذه المعلومات؟»
فصاح «ستاروستين» رئيس نقابة العمال قائلا في نغمة الساخر: «أوه! إنها أمه يا سيدي، ألا تدري؟ لقد نصبت نفسها جاسوسة لا تني فاحصة متشممة لكل شيء كأنما هي سيدة تشرف على ضيعة لها ... إن «السيدة الرفيعة» قد حسبت أنها تملك نيقوبول ما دام ابنها بين الرؤساء، إننا نفهم مثل هذا التدخل ... إنها تكون بذلك لابنها رصيدا في عالم السياسة!»
وعم المكان ضجيج مرتفع إذ تكلم الجميع في وقت واحد، فصعد دمي إلى رأسي، وانعقد لساني عن الحديث بفعل الغضب، فضغط «كوزلوف» على ذراعي ليضبط جماحي.
وضرب على مكتبه وقال: «صمتا أيها الرفاق! إن الرفيق ستاروستين يتكلم كلام المأفون، ليست أم كرافتشنكو «سيدة مترفعة»، وإنه ليعلم ذلك، بل هي زوجة رجل عامل فيما مضى، زوجة بطل من أبطال 1905م في صحيفته ما يشرفه من سجن في سبيل الثورة، إنه لعار عليكم أن تهاجموها بنقدكم، أفلا يجوز أن يكون هجومكم هذا غطاء تسترون به ما أصابكم من كسل وعدم مبالاة بحالة العمال ؟»
وقهقه الحاضرون قهقهة عالية، فرئيس نقابة العمال له في نفوس معظم الناس من الازدراء بحيث إذا ما سنحت فرصة للضحك منه تصادف هوى في نفس أمين سر الحزب، فهيهات أن يدعوها تفلت من أيديهم.
ومضى كوزلوف يقول: «لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم أن هذه السيدة الكهلة قد حاولت أن تراك أيها الرفيق ستاروستين لكنك أبيت عليها ذلك اللقاء، لا شك أنك لم ترد أن يزعجك مزعج بأمور توافه مثل وجود حشرات البق في ثكنات العمال وقذارة البياضات في مراضع الأطفال، لكنني حادثتها لقد رأيت لديها ضربا من الأصالة السوفيتية مما يكون له أبعد النتائج.»
अज्ञात पृष्ठ