Athar al-Ikhtilaf fi al-Qawa'id al-Usuliyya fi Ikhtilaf al-Fuqaha
أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء
शैलियों
الاختلاف في القواعد الأصولية - الحرص على تعلم أصول الفقه
مما يجب على مريد العلم أن يتعلم فن أصول الفقه؛ لأنه مفتاح الفقه وبابه، فيتعرف على بدايات نشأة الخلاف وكيف حصلت، حتى يتمكن من تأصيل المسائل مستندًا في ذلك إلى ركن ركين من المعرفة بأصل المسألة المعينة وجذورها، وعلم الأصول يعنى بالأدلة الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد منها، وكيفية تنزيلها على الواقع، فحري بالفقيه خصوصًا وبطالب العلم عمومًا ألا يغفل عن دراسته.
1 / 1
فضل العلم والعلماء
1 / 2
فضل طلب العلم ومنزلة العالم عند الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: إخوتي الكرام! مرحبًا بوصية رسول الله ﷺ، فإن أنسًا روى لنا -وإن كانت الأسانيد متكلمًا فيها- أنه يستحب أن يقال إذا جاء طالب العلم: مرحبًا بوصية رسول الله ﷺ! وكفى بطالب العلم فخرًا، وكفى بمجالس العلم بركة؛ ففي الصحيحين أن النبي ﷺ ذكر أن الملائكة تصعد بأسماء طلبة العلم إلى الله جل في علاه فيسألهم: ماذا يقولون؟ ماذا يذكرون؟ فيقولون: يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك ويكبرونك ويهللونك، وفي آخر الحديث يقول الملك: فيهم فلان ما جاء للعلم وإنما جاء لحاجة، فيقول الله تعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)، وكفى بحديث النبي ﷺ فخرًا لطلبة العلم.
وقال ﷺ: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
فأهل العلم لهم المكانة العظمى في هذه الدنيا؛ لأن العلماء هم منارات الهدى، وهم الشموس التي يستضيء بها الناس، بينما نرى الأمة الآن تتخبط يمينًا ويسارًا، ونرى ما يحدث في البلاد الإسلامية من تعديات على المسلمين، وهذا والله ما حدث إلا بموت العلماء؛ لأن الذي يستنير بنور العلم يعلم أنه إذا هلك فسيهلك عن بينة، وإذا أحياه الله فستكون حياته على بينة، كما قال الله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال:٤٢]، وهذه البينة لا تكون إلا بطلب العلم.
1 / 3
فضل علم أصول الفقه
وقد بينا فضل أصول الفقه على الفقيه، وقلنا بأن القاعدة عند العلماء تنص على أن الفقيه العاري عن الأصول ليس بفقيه بل هو مقلد.
وترى كثيرًا من المقلدين الذين يحفظون الأقوال ويرددونها ممن لا يحق لهم الفتوى، ولا يحق لهم أن يلزموا الناس بشيء؛ لأنهم مقلدون، فإذا سألت: ما الدليل؟ وما هو وجه استدلال العالم الذي قال بهذا القول من هذا الدليل؟ وجدته يضرب أخماسه في أسداسه، فهذا مقلد، ولا يجوز له أن يلزم الناس بشيء، لأنه يقلد غيره.
وقد فرق العلماء تفريقًا عظيمًا بديعًا بين المقلد والعالم أو طالب العلم المجد الذي يعرف القول بالدليل، ويعرف كيفية استنباط العالم لهذا الدليل.
وقد سئل كثير من الناس عن الفقهاء أو المجتهدين، فبينوا أن درجات الفقه والعلم متفاوتة، فليس العلم بالدليل فقط، وإنما العلم بالأصل والقاعدة التي يمكن أن يستنبط منها الحكم، وإلا فكثير من الناس حفظة كما هو حال كثير من المحدثين، فقد كان ينقصهم الفقه، وكان الإمام أحمد يقول: كنا نزعم بأن المحدث صيدلاني، وأن الفقيه طبيب، فخرج علينا الشافعي رجلًا طبيبًا صيدلانيًا.
وقد عاب كثير من المحدثين على يحيى بن معين أنه لم يشتغل بفقه المتن، وقد قررت في المسجد أكثر من مرة قول شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه.
والمقصود بفهم المتن: هو الفقه.
كان يحيى بن معين إمامًا ترتعش منه فرائص المحدثين، فإذا دخل مجلسًا من مجالس التحديث قام له كل المحدثين تعظيمًا لعلمه وإجلالًا له، وأخذ كل واحد منهم كتابه فنظر فيه وإن كان ضابطًا ضبط صدر، فلا يتكلم بالحديث الواحد إلا بعد أن يكرره في نفسه مرات عديدة؛ خوفًا من أن يتكلم فيهم بجرح؛ لأنه كان إمامًا في الجرح والتعديل.
وكان يحيى بن معين مشهورًا بدخوله على العلماء واختبارهم، فقد دخل مرة على أبي نعيم يختبره ومعه أحمد بن حنبل وكان قرينًا له يجلس بجواره، فما تكلم أحمد، وأخذ يحيى بن معين يختبر أبا نعيم بأن لقنه بعضًا من الأحاديث بأسانيد مختلطة ليست من لفظه وليست صحيحة، فسمعها أبو نعيم فانتبه -وكان صاعقة في الحفظ- فنظر إلى أحمد ونظر إلى يحيى بن معين، فقال لـ أحمد: أنت أورع من أن تفعل ذلك، ونظر إلى يحيى بن معين فسكت عنه، ثم ضربه برجله فأوقعه إلى الخلف وقال: أنت أجرأ على ذلك.
فكان يحيى بن معين جهبذًا ونقادًا، وكان وقاد الذهن، يعني: الرواية للحديث وعلم الرجال والإسناد.
ولما لم يكن يحيى بن معين مهتمًا بالفقه فقد وقع في أمر جلل عابه عليه كثير من أهل العلم في زمانه، فقد سألته امرأة فقالت: يا إمام! إن زوجي قد مات، وقد أوصى أن أغسله، أفأغسله وأنا حائض؟ فوقف يحيى بن معين واجمًا لا يعرف كيف يرد عليها، فمر أبو ثور الكلبي -وهو من أصحاب الشافعي - وكان فقيهًا بارعًا، فقال لها: اسألي هذا الرجل فهو فقيه! فذهبت فسألته فقال لها: غسليه، فهذا رسول الله ﷺ كان معتكفًا فإذا أراد أن يرجل شعره يخرج رأسه من المسجد فترجله عائشة.
يعني: تغسل رأسه وتنظفه وهي حائض.
فلما قال أبو ثور ذلك قال يحيى: نعم، وهذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان عن فلان، فسرد الطرق التي يحفظ منها هذا الحديث.
فقالت له المرأة: ما نفعتك هذه الطرق وأنا أسألك فلا تجيب.
وهذه مزية من تعلم الفقه وعرف كيف يستنبط الحكم من الدليل.
1 / 4
أهمية فهم النص الشرعي
وأقول: كيف استنبط أبو ثور الحكم من هذا الدليل وهو أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله ﷺ وهو في المسجد يخرج رأسه وهي حائض؟ وما علاقته بامرأة حائض تغسل زوجها؟
و
الجواب
استنبطه بطريق قياس الأولى، فإذا كان الحي الذي يستطيع بنفسه أن يرجل شعره وأن يغسله قد جعل المرأة وهي حائض تباشر ذلك فالميت من باب أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه فهو أحوج إلى ذلك.
وهذه فائدة الفقيه الذي يتعلم أصول الفقه.
وقد سئل الشيخ الإمام محمد بن صالح بن عثيمين وهو على فراش موته فقيل له: هل تستخلف أحدًا نسأله بعدك؟ فقال: أما العلماء فكثر ثم لا تكاد تجد عالمًا فقيهًا يدرك الحكم في المسألة، أو كيفية استنباط الحكم من الدليل وتنزيله على الواقع المعايش، وهذا فهم عزيز يؤتيه الله من يشاء.
ولذلك أنكر البعض على علي بن أبي طالب عظم بطنه، لأن علي بن أبي طالب كان من أفقه الصحابة إن لم يكن هو أفقههم، وهو أعلم الناس أيضًا بالتفسير، فلو خالف علي بن أبي طالب ابن عباس في تفسير آية قدم قول علي بلا جدال، فـ علي بن أبي طالب وتد في العلم والفقه، فقالوا له: مالك عظيم البطن؟ فقال: أعلاها علم وأسفلها طعام.
﵁ وأرضاه.
فنقول: إن العالم يعلم الكتاب والسنة، لكن الفقيه يدقق في الكتاب والسنة، ولذلك سئل علي بن أبي طالب: هل ترك لك رسول الله ﷺ شيئًا خصك به من هذا العلم الذي ينهال عليك؟ فقال: لا والله ما خصنا رسول الله ﷺ، بشيء إلا فهمًا يؤتيه الله للمرء في الكتاب أو في سنة النبي ﷺ، أو كما قال ﵁ وأرضاه، والأثر في الصحيحين.
وهذه كلها مدارها على الإخلاص، فقد كان يقول ابن عباس: يحفظ المرء على قدر نيته.
وهذا الذي فضل به الشافعي عن كثير من الفقهاء لفهمه وتأمله في الأدلة، والعالم الفقيه لا يصل إلى قوة العلم وإلى باطن العلم إلا بقواعد العلم والقاعدة العريضة بأصول العلم، وهذه الأصول هي أصول الفقه.
1 / 5
الحث على التمسك بالكتاب والسنة
1 / 6
الأدلة على التمسك بالكتاب والسنة
قال رسول الله ﷺ:: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في عصر الرسول ﷺ يستقون من بحر علم رسول الله ﷺ ويأخذون بالوحيين: الكتاب والسنة، وقد حث الله الصحابة وألزمهم بنص الكتاب والسنة، فقال الله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام:١٥٥].
وقال جل علاه حاثًا الصحابة على التدبر في معرفة مراد الله جل علاه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢]، وقال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:٢٤].
وفي القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ الحث على اتباع الوحيين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦].
وقال جل علاه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
وقال النبي ﷺ كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فمن حاد عن سنة النبي ﷺ فقد أبى.
وفي الصحيحين عن عائشة ﵂ وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو باطل لا يصح ولا يمكن التعويل عليه، ولا يمكن أن نعارض قول رسول الله ﷺ بقول أحد كائنًا من كان.
1 / 7
الرد على من يجوز الأخذ بأي قول في المسائل الخلافية
وفي السنن ومسند أحمد أيضًا عن العرباض بن سارية أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا).
وهذا يرد على من يقول بأن اختلاف الأمة رحمة، وأنه يجوز أن نأخذ بأي قول.
وهذا هو عين الهلاك، ولو قلنا بهذا لصح الزواج مثلًا بتسع نسوة كما قال بهذا ابن حزم، فقد جمع قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء:٣] فصارت تسعة واستدل بها على جواز الزواج بتسع من النساء كما فعل النبي ﷺ، ولو قلنا بهذا لصح أيضًا وطء المرأة المستأجرة كالأمة تمامًا، وأنه يفعل بها ما شاء كيف شاء من غير نكاح، ولجاز الربا مع أهل الكتاب أو في أي بلد حربي، وهذه عين المهلكة.
ولو قلنا بهذا المبدأ لما جاز الإنكار على المخالف، فلو رأيت رجلًا في الشارع يتراقص ويسمع أم كلثوم أو مغنيًا من المغنين، فهل لك أن تنكر عليه أم لا؟ فإذا أنكرت عليه قال لك: أنا آخذ بقول الشيخ القرضاوي، وقال بأن اختلاف الأمة رحمة.
وهكذا في أي مسألة أخرى فإنه سيقول لك بأن هذا القول هو قول الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو ابن حزم، وقد قال بها شيخ من العلماء المعتمدين وهكذا، فهذه مهلكة لهذه الأمة، فاختلاف الأمة لا يمكن أن يكون رحمة إلا في أمر يسوغ فيه الاجتهاد ولم يتبين فيه الدليل بحال من الأحوال.
1 / 8
رجوع الصحابة إلى الكتاب والسنة
والغرض المقصود: أن الصحابة يرجعون إلى رسول الله ﷺ، وقد بين في حديث العرباض ذلك فقال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، قالوا: فماذا نفعل يا رسول الله؟! قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
فإذا قلنا: قال رسول الله، فلا تقل: قال فلان أو قال الشيخ الفلاني أو قال شيخ مشايخه، هو فوق رأسي وهو معلمي ومؤدبي، وإذا رأيته قبلت رأسه ويده، لكن إذا خالف قول النبي فلا، وكذلك شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.
فلابد أن نقترب من قول النبي ﷺ: (فإنه يعش منكم من فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
وفي السنن أيضًا بسند صحيح أن النبي ﷺ قال: (لا ألفين أحدكم شبعان متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله فما وجدناه في كتاب الله حلالًا أحللناه، وما وجدناه حرامًا حرمناه، فقال النبي ﷺ منتهرًا هذا القول: ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه).
وقال النبي ﷺ في رواية أخرى: (ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله).
فعلى الأمة أن تلتف حول الكتاب وحول سنة النبي ﷺ، فإن لم يكن فلتلتف حول صحابة رسول الله؛ لأنهم علماء الأمة؛ ولأنهم السلف الصالح.
1 / 9
الاجتهاد في العصر النبوي
1 / 10
اجتهاد النبي ﷺ
قد تقدم أن الله جل وعلا حث عباده على الالتفاف حول السنة، وكذلك رسوله ﷺ حث على الالتفاف حول سنته، ولذلك فإنه وإن ظهر الاجتهاد في عصر الصحابة لكنه كان في فهم مراد الله وفهم مراد رسول الله ﷺ، كما قال الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله.
ومراد الله لا يعرفه إلا المجتهد الذي يسهر ليله ويظمأ نهاره حتى يصل إلى مراد الله جل في علاه.
فقد اجتهد الصحابة كما اجتهد رسول الله ﷺ، ولكن الاجتهاد ما كان للإتيان بحكم جديد ولكن لفهم مراد الله ومراد رسول الله ﷺ، وقد اختلف الأصوليون في الاجتهاد لرسول الله ﷺ وإمكانيته، هل له أن يجتهد أم لا؟ والصحيح الراجح أصوليًا أنه يجوز له أن يجتهد، لكن إن أخطأ لا يمكن أن يقر على خطئه.
والدليل على اجتهاد النبي ﷺ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ﴾ [النساء:٨٣].
والدليل الأوضح من ذلك قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران:١٥٩] والمشاورة تدل على أنه سيجتهد في الرأي الصائب السليم ثم يعمل به.
1 / 11
اجتهاد النبي ﷺ في الإعراض عن الأعمى
والصور التطبيقية لاجتهاد النبي ﷺ وإقرار الله أو عدم إقراره له في الاجتهاد كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:١].
وسبب نزولها أن النبي ﷺ كان جالسًا مع صناديد قريش، وكانوا هم الأكابر، ومعروف أن الرعية تتبع الراعي، فلو أن الراعي الكبير مثلًا أبا جهل أو غيره أسلم فإن الرعية كلها ستسلم، فقال النبي ﷺ: أنا آتي إلى الراعي وأبين له الإسلام حتى يدخل في الإسلام، فجاءه الأعمى ابن أم مكتوم وكان رجلًا ضعيفًا، فرجح الرسول ﷺ اجتهادًا أن ينشغل بالصناديد الأكابر حتى تأتي الرعية خلفهم، فلم يقره الله جل علاه على اجتهاده هذا فقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس:١ - ٣] إلى آخر الآيات.
1 / 12
اجتهاد النبي ﷺ في العفو عن الكفار والمنافقين
وأيضًا عندما جاء المنافقون، أو ما يسمى في عصرنا: (الطابور الخامس) إلى رسول الله ﷺ في المدينة يعتذرون له عن عدم الخروج معه في السرية، فكان النبي ﷺ يقبل عذرهم ويردهم.
وهذا اجتهاد من رسول الله، فعتب عليه الله في هذا الاجتهاد، فقال له: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة:٤٣].
وأيضًا عندما اجتهد النبي ﷺ في أسارى بدر، فقد اختلف النبي ﷺ وأبو بكر مع عمر: هل يأخذ الفداء ويتركهم أحرارًا أم يقتلهم؟ فاجتهد وأخذ برأي أبي بكر فلم يقره الله جل في علاه على هذا الاجتهاد، فقال: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال:٦٧] إلى آخر الآيات.
1 / 13
اجتهاد الصحابة في حياة رسول الله ﷺ
والغرض المقصود: أن النبي ﷺ قد اجتهد وكذلك الصحابة الكرام في عصر رسول الله ﷺ، وفي هذا دلالة على أن الاجتهاد لم يمت أبدًا، لكن الاجتهاد يكون لمن أعطاه الله الآلة التي يمكن أن يجتهد بها.
أما اجتهاد الصحابة في وجود رسول الله ﷺ فقد كان كثيرًا جدًا، لكن أشهره وأقواه كان في رقاب الناس وإهدار الدماء، كما حصل ذلك في اجتهاد سعد في بني قريظة، وذلك لما جاء سعد بن معاذ ﵁ وأرضاه إلى النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: (قوموا إلى سيدكم فأجلسوه، فقال: إنهم يرضون بحكمك؛ فقال لليهود: أترضون بحكمي؟ فقالوا: نرضى بحكمك، ثم نظر إلى مكان رسول الله، وحتى لا يتقدم عليه بين يديه، فقال: أيرضى هؤلاء بحكمي؟ يعني: أترضى يا رسول الله! فكأنه يلمح إليه تأدبًا، فقال: اللهم نعم، فقال: أحكم فيهم بضرب أعناق رجالهم وسبى ذراريهم، فقال النبي ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
فهذا اجتهاد منه ﵁.
ومن الأمثلة صلاة عمرو بن العاص بالناس وهو جنب بالتيمم مع وجود الماء خشيةً على نفسه من الهلكة، فقال له النبي ﷺ: (أصليت بالناس جنبًا يا عمرو؟! فقال: قد رأيت الله جل وعلا يقول: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥] فأقره النبي ﷺ على اجتهاده).
وكذلك: عمار بن ياسر عندما تمرغ في التراب جهلًا منه بكيفية التيمم، فلم يقره النبي ﷺ على الكيفية.
وكذلك حديث الرجلين اللذين سافرا- وهو في السنن وفي الصحيح- ففقدا الماء فتيمما ثم صليا الفرض، فلما سارا وجدا الماء، فقال أحدهما: إذا حضر الماء بطل التيمم، فتوضأ مرة ثانية وأعاد الصلاة، وأما الآخر فقال: إني قد صليت وأديت ما علي فلا أصلي مرة ثانية، فذهبا إلى رسول الله ﷺ فأقر رسول الله الاثنين، فقال للذي اكتفى بالتيمم: قد أصبت السنة؛ لأنه عمل بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦]، ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [النساء:٤٣]، وقال للآخر: لك الأجر مرتين؛ وذلك لأن الصلاة الثانية حسبت له نافلة؛ لأنه قد أدى الفريضة بالتيمم.
1 / 14
الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين
والحاصل أن كثيرًا من الصحابة قد اجتهد في عصر رسول الله ﷺ، فمنهم من أقر ومنهم من أنكر عليه.
لكن هل حدث خلاف بعد موت رسول الله؟ فما من زمن يأتي بعد رسول الله إلا والذي بعده شر منه، فلابد أن يحدث الخلاف، لكن لرحمة الله بالأمة فقد جعل الخيرية في القرون المفضلة بعده ﷺ؛ وذلك أن الخلاف ضاق جدًا في عصر أبي بكر، وضاق جدًا في عصر عمر، ثم توسعت الخلافات بين العلماء في عصر الصحابة بعد عمر بن الخطاب.
والسبب في ذلك: أن أبا بكر ﵁ وأرضاه كان في المدينة وكان الصحابة جميعهم مع أبي بكر في المدينة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ عمر بن الخطاب، فإذا عمت المسألة نظر أبو بكر في كتاب الله وسنة النبي ﷺ.
فائدة: هل يقال: كتاب الله وسنة نبيه، أم يقال: كتاب الله ثم سنة نبيه؟ والصحيح الراجح: أن الوحيين معًا، فتقول: انظر في كتاب الله وسنة النبي، وهو الذي جرى عليه المحدثون عندما ضعفوا حديث معاذ، والذي يستدل به الفقهاء والأصوليون دائمًا: في أن كتاب الله هو الأول في الترتيب ثم سنة النبي ﷺ، (عندما بعثه إلى اليمن فقال: بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فإن لم أجد في كتاب الله أحكم بسنة النبي ﷺ فكأنه جعلها مرتبة بعدية، فقال العلماء: هذا شاذ؛ لأن السنة والكتاب قرينان، فيحكم بكتاب الله وسنة النبي ﷺ.
فالمقصود: أن أبا بكر كان ينظر في الكتاب والسنة، فإن وجد شيئًا اعتبر الأمر منتهيًا، وإن لم يجد جمع الصحابة فجلسوا إليه فتشاور معهم في حل إشكال هذه المسألة، فإذا كان لديهم علم من رسول الله وإلا اجتمعوا على رأي واجتهاد واحد، وسمي ذلك إجماعًا كما هو عند أهل الأصول.
ومثال ذلك: عندما جاءت الجدة إلى أبي بكر فقالت: يا أبا بكر! أين إرثي؟ فقال: إني لا أرى لك في كتاب الله أو سنة النبي ﷺ شيئًا، ولكن اذهبي حتى أستشير صحابة رسول الله ﷺ، فجمع الصحابة لذلك، فقال المغيرة بن شعبة: (قد سمعت رسول الله ﷺ يورث الجدة السدس)، ووافق محمد بن مسلمة المغيرة على ذلك، فقضى أبو بكر لها بالسدس عملًا بسنة النبي ﷺ.
وكان عمر بن الخطاب يجمع الصحابة حوله، ويحرم عليهم الخروج من المدينة، فإذا أشكلت المسألة قال لهم: هل يحفظ أحدكم في هذه المسألة حديثًا عن النبي ﷺ؟ وقد اختلفوا مرة في مسألة الجنين، يعني: إذا ضرب رجل امرأة وفي بطنها جنين فمات، فما الحكم؟ أقول: قد خفي الحكم في هذا على عمر، فجمع الصحابة جميعًا فقال: ما الحكم في الجنين؟ فقام المغيرة بن شعبة وقال: (يا أمير المؤمنين! قد رأيت رسول الله ﷺ يجعل في الجنين الغرة) فنزل عمر على كلام المغيرة، وبهذا ضاق الخلاف بينهم.
ثم بعد ذلك جاء عثمان فانتقل الصحابة إلى الأمصار، فذهب ابن مسعود إلى الكوفة، وذهب ابن عباس إلى مكة، فلما تفرق الصحابة في الأمصار عمت المسائل الجديدة، وأصبح من الواجب إيجاد حلول وأحكام لهذه المسائل الجديدة؛ لضرورة معرفة حكم الله في هذا الشيء.
1 / 15
سبب الخلاف في أقوال النبي ﷺ وأحوال الصحابة معها
1 / 16
من لم يبلغه الحديث فاجتهد وأصاب
فمنشأ الخلاف ابتدأ منذ تفرق الصحابة في البلدان كما سنبين إجمالًا ثم نفصل بعد ذلك، وقد كان جامع أصول الخلاف عند الفقهاء: هو قول النبي ﷺ أو فعله.
ولقول النبي حالات: منها أن يكون معللًا، أو أن يكون تعبديًا.
وقول النبي ﷺ بالنسبة للصحابة له أحوال: فصحابة بلغهم قول النبي ﷺ، وصحابة لم يبلغهم قول النبي ﷺ، وصحابة بلغهم قول النبي ﷺ لكنهم لم يفهموه على وجهه.
فمثال من لم يبلغه حديث النبي ﷺ: ما حصل لـ ابن مسعود ﵁ في الكوفة، فقد جاءه الناس فقالوا: يا ابن مسعود! امرأة مات عنها زوجها بعد أن عقد عليها ولم يسم لها المهر فما حكمها؟ فنظر ابن مسعود في ذلك فاشتد عليه الأمر، وقال: إليكم عني! فإني لم أجد فيها سنة عن النبي ﷺ، فتركهم.
ثم جاءوا في اليوم الثاني فقالوا: يا ابن مسعود! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟ فقد علموا لمن يرجعون، فلا يرجعون إلا لأهل العلم المدققين المتقنين المحققين، ولا يأخذون بقول أي أحد، بل يأخذون العلم من أهله، وفي زماننا هذا اختلط الحابل بالنابل، واختلط العالم بالواعظ والداعية، واختلط طالب العلم المدقق بغيره من أشباه طلاب العلم.
والمستفتون مسئولون أمام الله عن الذي يختارونه للسؤال؛ لأن المقلد لا يسأل أمام ربه عن الفتوى، ولكنه يسأل عن اختياره للمفتي، ولكم أن تنظروا إلى الناس في قرون الخيرية، فلم يذهبوا إلا لصحابة رسول الله، مع أن التابعين في هذه العصور كانوا من أدق الناس نظرًا في أدلة النبي ﷺ، لكن إذا كان الصاحب موجودًا فإنه لا يرجع إلا إليه؛ لأنه أفقه وأعلم وأدق نظرًا في كلام الله وكلام الرسول.
فقالوا: يا ابن مسعود! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟ فقال: إليكم عني! فإن الأمر خطير، فجاءوه في اليوم الثالث فقال: لم أجد فيها سنة فسأجتهد فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، ثم قال: لها المهر كاملًا ولها الإرث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشرًا.
فنزلها منزلة الزوجة المدخول بها، إذ إن المطلقة قبل الدخول بها يثبت لها نصف المهر فقط.
فقام رجل فقال: يا ابن مسعود! والله لقد حكم رسول الله ﷺ في بروع بنت واشق مثل ما حكمت.
فخر ابن مسعود ساجدًا وقال: ما فرحت بشيء فرحي بموافقتي لرسول الله ﷺ.
إذًا: فالصنف الأول: هو من لم يبلغه حديث النبي ﷺ، فاجتهد برأيه في المسألة، فوافق فيها رسول الله ﷺ.
1 / 17
من لم يبلغه الحديث فاجتهد فأخطأ
والصنف الثاني: هو من لم يبلغه حديث النبي ﷺ فاجتهد برأيه في المسألة فخالف فيها رسول الله ﷺ: ومن أمثلة ذلك أبو هريرة ﵁ وأرضاه؛ فإنه استفتي في الصائم يصبح جنبًا، أي: رجل جامع أهله في ليل رمضان كما أباح الله له، فما اغتسل من الجنابة إلا بعد صلاة الفجر، فلما سئل أبو هريرة عن هذا أفتى بسقوط الصيام ولزوم القضاء عليه.
فجعل أبو هريرة الطهارة شرطًا في الصيام، فخالف بذلك حديث النبي ﷺ عن عائشة: (أن رسول الله ﷺ كان يصبح جنبًا وهو صائم فيغتسل ويتم صومه)؛ فدل هذا الحديث على أن الطهارة ليست شرطًا في الصيام، واستثنيت من ذلك مسألة الحيض؛ لثبوت الدليل فيها.
فهنا اجتهد أبو هريرة برأيه لعدم علمه بهذا الحديث فخالف بذلك حديث رسول الله، ثم بعد ذلك رجع، وقال: أرجع إلى حديث النبي ﷺ.
ومن هؤلاء الذين لم يبلغهم حديث النبي ﷺ فاجتهدوا وخالفوا النص الصحيح ثم رجعوا، عبد الله بن عمرو بن العاص أو ابن عمر، والشك مني، فقد كان يأمر كل امرأة لها ظفائر إذا أرادت أن تغتسل أن تحل هذه الظفائر، فكان يأمر النساء أن ينقضن شعورهن أو ظفائرهن عند الاغتسال.
فبلغ ذلك عائشة، وكانت عائشة شديدة على الذي يخالف السنن، وهذا لا يعاب على الشديد، لكن ينبغي له أن يكون شديدًا متأدبًا.
فقالت عائشة: (أما أمر ابن عمر النساء أن يحلقن رءوسهن؟ والله لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ، فكان يكفيني أن أحثو ثلاث حثيات على رأسي، أو قالت: وكنت أفرغ ثلاث إفراغات على رأسي ولا أنقض شعري).
فاستدلت بهذا الحديث على عدم وجوب نقض المرأة ظفائر شعرها إذا هي اغتسلت، ووجه الدلالة من هذا الحديث: هو إقرار الرسول ﷺ، فإن الرسول ﷺ رأى عائشة وهي تفرغ الماء على شعرها فلم يقل لها انقضي هذه الظفائر، فإقرار النبي لها يدل على الجواز.
فلما بلغ هذا الدليل ابن عمر فرجع إلى قول عائشة ﵂ وأرضاها.
1 / 18
من بلغه الحديث فلم يعمل به لعدم ثبوته عنده
الصنف الثالث: هو من بلغه الحديث في المسألة لكنه لم يفهمه على مراده أو لم يثبت هذا الحديث عنده: مثال ذلك: عمر بن الخطاب: فقد كان يذهب إلى أن المطلقة ثلاثًا تثبت لها النفقة والسكنى، فإذا أراد زوجها أن يرجع إليها لزمه أن يتزوج بها غيره وأن يدخل بها ثم يطلقها بعد ذلك؛ لقوله ﷺ: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، إذًا: فلابد أن يطأها الآخر، وهذا هو الراجح الصحيح.
وقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى عمر فقالت: (يا أمير المؤمنين! إني قد طلقني زوجي فبت طلاقي -تعني: طلقني ثلاثًا- فلم يجعل النبي ﷺ لي سكنى ولا نفقة)، فقال عمر بن الخطاب: والله لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لامرأة لا ندري أنسيت أم تذكرت.
وهذا يدل على الفهم الصحيح لقول النبي ﷺ: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
وزيادة: (ولا سنة نبينا)، لا تصح؛ لأن في إسنادها رجلًا هالكًا، والذي ثبت عن عمر بالسند الصحيح هو قوله: (والله لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري تذكرت أم نسيت)، وهو يشير إلى قول الله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:٦].
فهو استنبط من هذه الآيات وجوب النفقة والسكنى للمبتوتة على الزوج، ورد حديث فاطمة بنت قيس، وكأنه شكك في صحة ثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ.
والمحدثون لا يأخذون بهذا، ولا تضعف أحاديث المرأة بهذه الأقوال أبدًا، بل إن فاطمة بنت قيس كانت من أحفظ الصحابيات ﵂ وأرضاها، فقد حفظت حديث الدجال من فم رسول الله ﷺ مرة واحدة قاله على المنبر، وذلك عندما صعد على المنبر فابتسم وقال: (إن تميمًا الداري حدثني).
والعلماء يلغزون بذلك ويقولون: كل الصحابة حدثوا عن رسول الله إلا فلانًا فإنه حدث عنه رسول الله، وهو: تميم الداري، فقد قال النبي ﷺ: (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني كنت قد حدثتكم به)، ثم ذكر حديث الدجال الطويل، ومع ذلك فقد حفظته فاطمة ثم سردته للأمة بأسرها، فنحن نأخذ بقولها ونرد قول عمر الفاروق وزير رسول الله ﷺ؛ لأنه خالف قول النبي ﷺ.
ومن أمثلة الصحابة الذين بلغهم النص ولم يفهموه: عدي بن حاتم ﵁ وأرضاه: فقد بلغه قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:١٨٧]، فأخذ خيطًا أبيض ووضعه تحت الوسادة، وأخذ حبلًا أسود ووضعه تحت الوسادة ثم نام، وكان كلما نظر إليهما لم يفرق بينهما فيأكل حتى طلعت الشمس ففرق بين الحبل الأسود والأبيض، فجاء إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله! أكلت حتى طلعت الشمس، والله تعالى يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:١٨٧] فقال: أين وضعت الحبل؟ قال: تحت الوسادة، فقال: إن وسادك لعريض).
وبعضهم يقول: إن هذه سبة من الرسول ﷺ له، وهذا خطأ على رسول الله، فرسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا.
والمقصود أن الخيط الأبيض: هو المستعرض في السماء كما بين النبي ﷺ، والخيط الأسود: هو طلوع الفجر المستطيل في السماء، فإذا ما قست السماء بالوسادة وشبهتها بها صارت الوسادة عريضة بذلك، وهذا معنى قول النبي ﷺ.
فقد فهم هذا الصحابي النص على خلاف الصحيح، ثم بين له النبي ﷺ الفهم الصحيح، وبذلك محا الله هذا الخلاف في مسألة الصيام.
فهذا منشأ الخلاف في قوله ﷺ.
1 / 19
اختلاف الصحابة في حكم فعل النبي ﷺ
منشأ الخلاف عند الصحابة في فعل النبي ﷺ: فبعض الصحابة فهم أن فعل النبي سنة وقربة لابد أن نعمل بها، وبعضهم يرى أن فعل النبي ليس بقربة، بل هو عادة من نوى بها الاقتداء به ﷺ أجر على ذلك، لكنها ليست بعبادة.
مثال ذلك: عندما نزل النبي ﷺ بمكان بمكة اسمه الأبطح، فقد قال أبو هريرة: هذا النزول سنة، أي: أن كل من حج ورمى وأراد أن يرجع إلى بلده فعليه أن ينزل بالأبطح؛ لأنها سنة عن النبي ﷺ، وكذلك فهمه ابن عمر هذا الفهم، وكان أشد الناس تحريًا لسنة النبي ﷺ فكان ينزل بالأبطح.
لكن عائشة لما سئلت قالت: لا والله ما نزل رسول الله ﷺ بالأبطح إلا وفاقًا لا قصدًا، يعني: وافق مكان نزول النبي ﷺ، فقد يكون تعب ثم نزل الأبطح لموافقته مكان راحته، فتبين من كلام عائشة أن هذا الفعل ليس بسنة، بل جاء ذلك وفاقًا لا قصدًا، وهذا هو الراجح.
فالغرض المقصود أن الصحابة اختلفوا: هل فعل النبي يؤخذ على سبيل القربة أم الإباحة؟ فمن قال بالقربة اختلف مع من قال بالإباحة، وتفرع الخلاف هنا عند الفقهاء، فيقول مالك والشافعي مثلًا: إن هذا النزول في الأبطح سنة، ثم يأتيك الحنفي أو ابن حزم فيقول: ليس بسنة، فهذا الاختلاف منشؤه الاختلاف في فعل النبي ﷺ هل هو قربة أم لا؟ ومن ذلك أيضًا: أن ينظروا إلى فعل النبي هل هو خاص بالنبي أم لا؟ والذي جرى به قلم العلامة الشوكاني الجهبذ المجتهد المطلق، أنه إذا خالف الفعل القول فإن الفعل خاص.
مثال ذلك: الشرب قائمًا، أو استقبال القبلة ببول أو غائط، فقد ثبت عنه ﷺ أنه استقبل القبلة ببول وغائط كما قال ابن عمر: (رقيت على بيت حفصة فوجدت رسول الله ﷺ يقضي حاجته مستدبر الكعبة مستقبل بيت المقدس)، وكان قد نهى عن ذلك رسول الله كما سنبين في التعارض، فقال الشوكاني: فعل النبي خاص به، وعندنا النهي العام سواء في المراحيض أو غير المراحيض، فمن استقبل أو استدبر فقد أثم.
هذا كلام الشوكاني.
والشاهد من هذا: أنه يجعل فعل النبي خاصًا به، والجمهور يخالفونه فيرون أن الأصل في فعل النبي هو العموم؛ لأن الأحكام لا تتنزل خاصة بأحد إلا إذا دل الدليل على الخصوصية.
إذًا: فالقاعدة تقول: إن كل قول وكل أمر وكل فعل فهو لعموم الأمة لا يمكن أن يختص به رجل من الأمة ولا حتى رسول الله إلا أن يدل الدليل على التخصيص.
1 / 20