تساءل هل قرأ ما لفظ به توا في مكان ما أم توصل إليه بنفسه.
قالت أمينة المكتبة: «وأعتقد أنه لم تكن ثمة وسائل لحماية العمال، أليس كذلك؟ لكن لا بد أنك على دراية بكل ذلك.»
حينئذ تركته، فقد دخل أحدهم المكتبة.
بعد الحادث، شهدت البلدة موجة من الطقس الدافئ، وبدا طول الليالي وحرارة النهار المنعشة مفاجئين ومدهشين، وكأن هذه الفترة ليست نهاية الشتاء في هذه البقعة من البلد كل عام تقريبا. انحسرت مياه الفيضان بطريقة عجيبة إلى المستنقعات، وبرزت الأوراق الغضة من الفروع المخضبة بالحمرة، وفاحت روائح الأفنية المحاذية لمخازن الحبوب في البلدة، واختلطت برائحة أزهار الزنبق.
بدلا من أن تنتاب آرثر رغبة في الخروج في مثل هذه الليالي، وجد أفكاره تجنح إلى المكتبة، وكثيرا ما كان ينتهي به المآل هناك، فيجلس في البقعة التي وقع اختياره عليها في أول زيارة له. كان يجلس نصف ساعة أو ساعة كاملة، يطالع مجلة «إلستراتيد لندن نيوز» أو «ناشيونال جيوجرافيك» أو «صنداي نايت» أو «كوليارز»، كل هذه المجلات كانت تصل حتى باب بيته، وكان من الممكن أن يطالعها دون أن يبرح منزله، في مختلاه، ناظرا إلى حديقته المسيجة التي كان يعتني بها العجوز أجنيو، وأحواض الزرع الحافلة الآن بأزهار الزنبق من كل لون زاه وتوليفة مبهجة. بدا أنه يفضل منظر الشارع الرئيسي الذي تقطعه سيارات الفورد الجديدة الرشيقة بين الفينة والأخرى، أو بعض السيارات الأقدم ذات الأسقف القماشية المغبرة التي تصدر أصواتا حادة. كان يفضل مكتب البريد ببرج ساعته التي تشير إلى توقيتات أربع مناطق مختلفة - كلها خاطئة، كما كان يحلو للناس أن يقولوا. وكذلك كان مولعا بمراقبة المشاة والمتسكعين على الأرصفة، والذين يحاولون تشغيل نافورة مياه الشرب، مع أنه تقرر إيقافها عن العمل حتى غرة يوليو.
لم يكن يشعر بالحاجة إلى الاختلاط بالناس، فهو لم يكن هناك من أجل تبادل أطراف الحديث مع الآخرين، ولو أنه كان يلقي السلام على من كان يعرف اسمه، وكان يعرف أغلبهم بالفعل. وربما يتبادل بضع كلمات مع أمينة المكتبة، ولو أنها لا تتجاوز «صباح الخير» كلما جاء، و«مساء الخير» كلما رحل. لم يكن يطلب شيئا من أحد، وأحس بأن حضوره لطيفا ومطمئنا، والأهم من ذلك كله، طبيعيا؛ فبجلوسه هنا للمطالعة والتأمل، هنا بدلا من البيت، أحس وكأنه يقدم شيئا للعالم، وأن الناس يستطيعون التعويل على ما يقدمه.
كان هناك تعبير يعشقه، وهو «خادم العامة». أبوه الذي كان يتطلع فيه هنا بوجنتيه ذواتي اللون الوردي الباهت، وعينيه الزرقاوين الجامدتين، وفمه العجوز النكد؛ لم يفكر في نفسه من هذا المنطلق قط؛ كان يرى نفسه شخصية عامة وولي نعم. كان يعيش بنزواته وقراراته دون أن يمسه أذى. ربما جال في أنحاء المصنع كلما شهدت الأعمال فترة كساد، ليقول لهذا العامل أو ذاك: «عد إلى منزلك! عد إلى منزلك ولا تبرحه فربما أعدتك إلى عملك مرة أخرى.» فينصرف العامل. ربما يعمل العمال الذين يسرحهم من العمل في حدائقهم، أو يخرجون لاصطياد الأرانب، فتتراكم عليهم فواتير مشترياتهم، ويسلمون بأن الحال لم يكن ليكون خلاف ذلك. كانوا يتندرون بصيحته: «عد إلى منزلك!» لقد كان بطلهم أكثر مما كان يمكن أن يصبح عليه آرثر مهما حاول، لكنهم ليسوا على استعداد لتحمل المعاملة نفسها اليوم. خلال الحرب، اعتادوا على الأجور العالية، واعتادوا أن يوجد طلب عليهم دوما، ولم تخطر ببالهم قط حالة إغراق السوق بالعمالة التي حدثت عندما عاد الجنود إلى أرض الوطن، ولم يخطر ببالهم كيف أن مشروعا كهذا ظل يحقق أرباحا بالحظ وبشيء من الذكاء من عام إلى آخر، وحتى من موسم إلى آخر. لم تكن التغيرات تروق لهم - فقد استاءوا من التحول الآن إلى تصنيع الأرغن الآلي الذي ظن آرثر أنه الأمل في المستقبل - لكن آرثر كان يفعل ما يتحتم عليه القيام به، ولو أن أسلوبه في مباشرة العمل كان على النقيض من أسلوب والده تماما. كان يدرس كل الأمور ويتدبرها مرارا وتكرارا، ويختفي عن المشهد إلا إذا دعت الضرورة إلى خلاف ذلك، ويحافظ على كرامته، ويحاول دوما أن يكون منصفا.
كانوا يتوقعون أن يتم توفير كل شيء من أجلهم، وهكذا كانت توقعات البلدة بأسرها؛ ستطل عليهم فرص العمل كما تطل عليهم الشمس كل صباح. وتصاعدت الضرائب المفروضة على المصنع في الوقت نفسه الذي فرضت فيه ضرائب على المياه، التي جرى العرف على إمدادها بالمجان. وأمست صيانة طرق الولوج إلى المصنع مسئولية المصنع نفسه لا البلدة، وكانت الكنيسة الميثودية تطالب بأموال طائلة من أجل بناء مدرسة الأحد الجديدة، وكان فريق الهوكي التابع للبلدة بحاجة إلى زي جديد، وكان العمل جاريا على تركيب حلوق حجرية لبوابات متنزه النصب التذكاري لضحايا الحرب، وفي كل عام كان أذكى الصبية في السنة النهائية من المرحلة الثانوية يوفد إلى الجامعة على حساب آل دود.
سل وسيلبى طلبك!
لم تكن التوقعات أقل تفاؤلا بالبيت أيضا، فقد كانت بي مشتاقة للالتحاق بمدرسة خاصة، والسيدة فير تضع عينيها على خلاط جديد للمطبخ، ومغسلة جديدة أيضا. وكان من المخطط له في العام الحالي طلاء كل الزخارف التي يزدان بها البيت من الخارج، وكل تلك الديكورات الزخرفية التي استنفدت كميات مهولة من الطلاء. وفي خضم ذلك كله، ما كان من آرثر إلى أن طلب لنفسه سيارة جديدة طراز كرايسلر.
अज्ञात पृष्ठ