مكتبة الغندجاني ٢
كتاب أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها
لأبي محمّد الأعرابي الملقب بالأسود الغندجاني كان حيا سنة ٤٣٠ هـ.
حققه وقدّم له الأستاذ الدّكتور محمّد علي سلطاني أستاذ علوم اللّغة العربيّة
دار العصماء
1 / 3
[المقدمات]
فهرس الموضوعات
- تقديم ٧ - ٩
-المؤلف والكتاب ١١ - ١٢
-في موضوع الكتاب ١٣ - ٢٥
-الخيل في حياة العرب ١٣
-موطنها الأول ١٣ - ١٤
-ما قيل في عروبتها ١٤ - ١٥
-مكانتها في العصر الجاهلي ومظاهر ذلك ١٥ - ٢٠
-جوانب تكريمها في الإسلام ٢١ - ٢٤
-النص والتحقيق ٢٤ - ٢٥
1 / 5
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
هذا هو الكتاب الثاني في مكتبة الغندجاني، أقدمه إلى قراء العربية والمشتغلين بتاريخها وتراثها النفيس، وقد جمع فيه صاحبه فأوعى، فكان عمله بحق محاولة جادة لاستقصاء الخيول العربية الأصيلة جميعا. . وقد ساعده في ذلك تأخر زمانه النسبي، فهو من أعلام القرنين الرابع والخامس، أي أنه سبق إلى التأليف في أسماء خيل العرب من قبل عدد من العلماء، كان منهم-ممن وصل إلينا خبره-:
-ابن الكلبي (ت ٢٠٤ هـ) في كتابه: أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام.
-وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت ٢٠٩ هـ) في كتابه «الخيل».
-والأصمعي (ت ٢١٥ هـ) في كتابه «الخيل» أيضا.
-وابن الأعرابي (ت ٢٣١ هـ) في كتابه: «أسماء خيل العرب وفرسانها».
-ومحمد بن حبيب (ت ٢٤٥ هـ) في كتابه «أنساب الإبل والخيل».
1 / 7
وثمة أبواب في الخيل لدى علماء آخرين. منهم:
-ابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) في كتابه عيون الأخبار.
-وأبو علي القالي (ت ٣٥٦ هـ) حيث خص الخيل المنسوبة بباب في كتابه «النوادر».
-ثم كان مؤلفنا أبو محمد الأعرابي (ت بعد ٤٣٠ هـ) في كتابه الذي نقدم له «أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها» فزاد فيما ضمه من الخيل على الكتب التي تقدمته مجتمعة بمقدار كبير، حتى إنه زاد على ما قدمه تاليه ابن سيده (ت ٤٥٨ هـ) حين أفرد للخيل في كتابه «المخصص» بابا واسعا أربى على سبعين صفحة، فلم يزد مجموع ما أورده فيها من الخيل على ثمانية عشر ومئتي فرس (٢١٨) وهو أكبر رقم جمعته مصادر الخيل حتى عصره. . على حين بلغ مجموع ما قدمه الغندجاني خمسة وسبعين وخمسمئة فرس (٥٧٥) فإذا أضفت إلى هذا الرقم ما أسعفتني المصادر باستدراكه على أبي محمد الأعرابي، وقد بلغ اثنين وستين ومئتي فرس (٢٦٢) علمت أن مجموع ما ضمه هذا الكتاب من الخيل العربية المنسوبة، قد وصل إلى سبعة وثلاثين وثمانمئة فرس (٨٣٧).
أما المستدركات، فقد جعلتها في مواضعها بعد كل باب من حروف الهجاء، بشكل تحقّق فيه ما ينبغي للنص الأصلي من صيانة من جهة، وللتسلسل الهجائي من دقة وسهولة من جهة أخرى، فجاءت المستدركات في أماكنها من حروف الهجاء بعد أفراس الغندجاني، موسومة بعنوان خاص يميزها عنها، مما تراه قائما في الكتاب كله. .
وبهذا يمكن أن نعدّ هذا الكتاب في ثوبه الأخير، مرجعا نهائيا في أسماء الخيل وفرسانها عند العرب؛ لا يدانيه بفضل من الله كتاب آخر. .
1 / 8
دون أن يعني هذا أن أحدا لن يجد هنا أو هناك من أمهات أسفار التراث أفراسا ندّت عن مسعى إحاطتي واستقصائي، غير أنني أقدّر أن عددها سيكون محدودا إلى حد كبير، يمكن إلحاقه بالكتاب-إن وجد-في الطبعات التالية. . ذاكرا بالشكر كل باحث فاضل يشير إلى مثل هذا، والله من وراء القصد، هو حسبي ونعم الوكيل.
المحقق
1 / 9
المؤلف والكتاب
أما المؤلف أبو محمد الأعرابي، فقد أغنت عن تكرار الحديث عنه دراسة وافية سبق لي تقديمها لدى إخراجي كتابه الأول «فرحة الأديب» إذ جعلتها مدخلا إلى نصه.
وأما الكتاب، فهو بحق معجم بأسماء خيل العرب وأنسابها وفرسانها في الجاهلية والإسلام، مقرونة بما يتصل بكثير منها من أخبار، وما شهدته من معارك وأيام، وما قيل فيها من أشعار، تؤكد شدة التعاطف وعمق الروابط بين الأفراس وفرسانها. . حتى غدا الكتاب-كما أراد له صاحبه- جامعا لكل فرس أصيل عرفه جانب الحماسة والبأس في وقائع التاريخ العربي في الجاهلية والإسلام.
هذا إضافة إلى تصحيحات علمية قدمها المؤلف في كتابه، تؤكد ما عرف به من دقة وسداد معرفة. . ومرجعه المعتاد فيما يرويه هو شيخه أبو الندى. من ذلك تصحيحه لوهم وقع به المؤلفون في الخيل قبله (١) حتى إن العلامة الشنقيطي في المحدثين وقع فيه (٢). . ذلك إيرادهم (السّميدع)
_________
(١) انظر أنساب الخيل ص ١٣٠.
(٢) انظر فى أنساب الخيل ص ٦٠ وحاشيتها.
1 / 11
وهو اسم رجل-على أنه اسم فرس، مستندين إلى البيت:
فإن يك غرّاف تبدّل فارسا ... سواي، فقد بدّلت منه السّميدعا
غير أن الغندجاني-بمنهجه المعهود-أورد البيت في قصيدته في خبر طويل، تبدت معه الحقيقة ناصعة لا ريب فيها (١).
ومما يسهّل الرجوع إلى هذا الكتاب، ما انتهجه الغندجاني فيه من إيراد الأفراس مرتبة على حروف المعجم، مع التنبه لأمرين يتصلان بذلك:
-أولهما أنه لم يكن يتوخى الدقة في إيراد الأفراس ضمن الحرف الواحد، فقد يأتي (الأغرّ) قبل (الأحوى) في باب الهمزة، و(الدهماء) قبل (دباس) في باب الباء. .
-والأمر الثاني إيراده باب الواو قبل الهاء، خلافا لما درج عليه المصنفون وأصحاب المعاجم.
ومن البدهي أن أعمد في الفهارس العامة إلى استدراك ما تقدم تسهيلا للوصول إلى المادة المطلوبة فيه.
_________
(١) انظر الغندجاني (الغرّاف) برقم (٥٢١).
1 / 12
في موضوع الكتاب
الخيل في حياة العرب
تشغل الخيل في أنسابها وصفاتها وإعدادها شطرا واسعا من تفكير العربي وحياته، وما ذاك سوى تفسير لخصائصه الفطرية من جهة، وتكيفه مع الواقع من جهة أخرى.
فالعربي أبيّ بطبعه، مقدام بحكم طبيعة حياته (١)، ومثل هذه الصفات تدفعه لامتلاك أسباب القوة، متمثلة في السيف والرمح وسيلة الشجعان للفتك، وفي الفرس مطية فعالة للكر والفر.
سيمنعني من أن أسام دنيّة ... أبي وشليلي والضّبيح ومعشري
وأبيض مصقول أجدّ جلاؤه ... وركّب في لدن المهزّة أسمر (٢)
موطنها الأول
لذا فقد لازمت الفرس العربي منذ أن عرفته أرض الجزيرة العربية،
_________
(١) انظر شعر الحرب في العصر الجاهلي ص ٢٠ وما بعدها.
(٢) الغندجاني (الضبيح) برقم (٤٢٢).
1 / 13
وتؤكد المصادر القديمة والدراسات الحديثة، أن الفرس أصيل في شبه الجزيرة العربية، لم يفد إليها من خارجها كما يدّعي بعض الدارسين، حيث يزعم أن الحصان الأصلي «نشأ خارج الجزيرة، ثم أدخل إلى فلسطين وسورية من الشمال الغربي لبلاد العراق إبان غزو المديانيين في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، فقد أدخله الهكسوس الرعاة من سورية إلى مصر ومنها إلى الجزيرة العربية» (١).
ويردّ الباحث في دراسته القيمة، مؤكدا أن «هذا الرأي لا يستند إلى دليل، وهو مجرد ظن وتخمين، فقد ذهب العلماء الذين قاموا بدراسة التطورات الجوية والجيولوجية إلى القول بخصب الجزيرة العربية في الماضي السحيق، وأنها كانت مأهولة بالإنسان والحيوان، وأقاموا الأدلة الصحيحة على رأيهم بما وجدوه من محار في المناطق الصحراوية (الآن) يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ» (٢) ويخرج الباحث بعد استعراض الأدلة العلمية مستندة إلى الدراسات الأثرية والاجتماعية لطائفة من العلماء-إلى القول:
«وهكذا يتبين لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن الخيل الأصيلة نشأت في جزيرة العرب فوق هضاب نجد ومنطقة عسير واليمن، تلك المناطق التي كانت وما زالت من أخصب وأطيب المناطق، وأكثرها ملاءمة لتربية الجياد، استنادا إلى الأدلة العلمية التي قدمتها أحدث الكشوف الأثرية. .» (٣).
ما قيل في عروبتها
فإذا عدنا إلى نصوصنا القديمة في هذا، وجدناها تؤيد هذه النتيجة العلمية الحديثة.
_________
(١) وصف الخيل في الشعر الجاهلي عن فيليب حتي ص ٢٧.
(٢) السابق ص ٢٢ - ٢٣.
(٣) السابق ص ٣١.
1 / 14
فمن الأحاديث النبوية التي تؤكد عروبة الخيل قوله ﵌: «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل» (١) وبنى الدميري على هذا الحديث وغيره فقال: «أول من ركب الخيل إسماعيل ﵇، ولذلك سميت بالعراب، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش» (١).
وروي عن النبي ﵌ أنه قال: «أول ما خلق الله من الخيل، خلق فرسا كميتا، وقال ﷿: خلقتك عربيا، وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم بسعة الرزق، والغنائم تقاد على ظهرك والخير معقود بناصيتك. .» (٢).
مكانتها في العصر الجاهلي
وقد لمس العربي للفرس دوره الكبير في حياته ومصيره حتى غدا جزءا من وجوده الانساني الكريم، يصاول به الأخطار، ويدفع عنه غائلتها. .
فغدا صنوا للقوة البشرية في سواعد الأبناء وألسنة الشعراء الحداد، فكان العرب «لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج (٣).
ولكي يبقى الفرس قويا مستعدا؛ لا بد للعربي من حسن رعايته وتغذيته وإيثاره. . فساواه بأبنائه وهم عدته وأحباؤه. . يقول زيد الخيل بن مهلهل الطائي-ويكنى أبا مكنف-في فرسه الهطّال:
أقرّب مربط الهطّال إني ... أرى حربا تلقّح عن حيال
أسوّيه بمكنف إذ شتونا ... وأوثره على جلّ العيال (٤)
ومثله قول خالد بن جعفر بن كلاب في فرسه حذفة:
_________
(١) انظر جامع الأصول ٥/ ٤٥ برقم (٣٠٤٤).
(٢) الدميري ١/ ٤٤١.
(٣) العمدة ١/ ٦٥.
(٤) حلية الفرسان ص ١٥٩.
1 / 15
أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد
أسوّيها بجاري أو بجزء ... وألحفها ردائي في الجليد (١)
ويرضى بجوع صغاره إذ يبيتون على الطوى لتكتفي فرسه، يقول مالك ابن نويرة في فرسه (ذو الخمار):
جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي ... إذا نام أطواء بنيّ الأصاغر (٢)
بل إنه يقدّم فرسه على فتاة أحلامه، مهما بدا من فتنتها وتعلقه بها، حين تغدو فرسه مهرا لها. وفي ذلك يقول سبيع بن الخطيم التيمي في فرسه نحلة مخاطبا والد فتاته:
يقول: نحلة أو دعني فقلت له: ... عوّل عليّ بأبكار هراجيب
لجّت عليّ يمين: لا أبدّلها ... من ذات قرطين بين النحر واللوب (٣)
فهو يعرض الإبل مهرا في عجز البيت الأول، فلا يرضى الأب بنحلة بديلا، فيشتد سبيع في خطابه مجيبا إياه بالبيت الثاني. .
ولا عجب في موقفه هذا إذا كانت فرسه أغلى من نفسه التي بين جنبيه. يقول فضالة بن هند بن شريك الأسدي في فرسه ناصح:
أناصح شمّر للرهان فإنها ... غداة حفاظ جمّعتها الحلائب
أتذكر إلباسيك في كل شتوة ... ردائي، وإطعاميك والبطن ساغب (٤)
بل إنه قد يذهب إلى أبعد من هذا، فيضحي بحياته لتبقى فرسه.
وفي ذلك يقول ثعلبة بن أم حزنة العبدي في فرسه عريب:
_________
(١) أنساب الخيل ص ٦٦.
(٢) الغندجاني (ذو الخمار) برقم (٢٤٩).
(٣) الغندجاني (نحلة) برقم (٧٣٩) مقرونة بخبرها.
(٤) أنساب الخيل ص ٣٩ - ٤٠.
1 / 16
إنّ عريبا وإن ساءني ... أحبّ حبيب وأدنى قريب
سأجعل نفسي له جنّة ... بشاكي السلاح نهيب أريب (١)
وكم ثارت نوازع النقمة والاستياء لدى نسوتهم، وغلت في صدورهن مراجل الحقد مشوبة بالغيرة؛ لما يرونه من مبالغة الرجال في العناية بالأفراس، وكم تعالت صيحاتهن مطالبة برد الغذاء على الأبناء، والانتفاع بأثمان الخيل الباهظة في توفير حاجات الأسرة. . فكان الرجال يوصدون آذانهم حيال هذا، ولا يقبلون بصنيعهم جدلا، وحجتهم في ذلك تتردد بين التذكير بأيام الشدة والتعرض للغزو والسباء، وبين تعلق الفارس بفرسه، وربما جمع بينهما. . يعبر المقعد بن شماس السعدي عن ذلك فيقول في فرسه كنزة:
أتأمرني بكنزة أم قشع ... لأشريها (٢) فقلت لها دعيني
فلو في غير كنزة آمرتني ... ولكني بكنزة كالضنين
فلا وأبيك لا أحبو خليلا ... بكنزة ما حييت فلا تهوني
رأت جاراتها خدّرن ريطا ... وأكثر فوقهن من العهون (٣)
ومثله للقتّال الكلابي في فرسه الشهباء قوله:
لا تقصيا مربط الشهباء منتبذا ... بخلوة، إن ريب الدهر مرهوب
وقرّباها إني لن تمسّ يدي ... يدا ببيع لها ما حنّت النيب (٤)
ولا يغريهم ثمن لبيع الفرس، مهما قاسى أحدهم من شظف العيش وشدته، ولو أدى الأمر أحيانا إلى تطليق الزوجات. وينقل فارس النعامة
_________
(١) الغندجاني (عريب) برقم (٤٩١).
(٢) أي لأبيعها. وهي من الأضداد. انظر الأضداد للجستاني ص ١٠٦ والصغاني ص ٢٣٤.
(٣) أنساب الخيل ص ١٠٠ والغندجاني (كنزة) برقم (٥٨٩).
(٤) الغندجاني (الشهباء) برقم (٣٦٦).
1 / 17
عيينة بن أوس المالكي حوار النسوة فيقول:
تقول أنا الحرّى لقيت مشقة ... من الحشّ والإخلاف فالوجه ساهم
فقالت لها الأخرى لأسمع قولها ... هو اليوم إن باع النعامة ناعم
وما الناعم المغبوط إلا الذي له ... غنى وهو مكفيّ المؤونة طاعم
وقالت سيعطى بالفلوّة أربعا ... وبالمهرة الأخرى ثمان جوازم
ويبرز عيينة للنسوة فيختم تعريضهن بقوله:
ولست بشاريهن ما لم تطلّقي ... ولو لمتني أو لامني لك لائم (١)
بل إنهم على استعداد لدفع أغلى الأثمان لاقتناء الفرس العتيق، ذكر ابن الكلبي (٢) من ذلك قوله: «ومنها الصّغا فرس مجاشع بن مسعود السلمي، وكانت من نجل الغبراء فرس قيس بن زهير، فاشتراها عمر بن الخطاب بعشرة آلاف درهم» (٣). وليس مثل هذا المبلغ قاصرا على فرس ذي أخبار يتناقلها الناس، فقد أورد ابن الأعرابي خبرا يقول: «وكانت بلعاء فرس الأسود بن رفاعة، باع سخلة منها بعشرة آلاف من خليفة بن واثلة» (٤) إدراكا منهم بأنها لا بد وارثة صفات أمها.
وليس هذا بالحد الأعلى للأثمان، فالخيل الفائقة لا حدود لأثمانها، فقد نقل الدميري (٥) عن سنن البيهقي في كتاب البيوع قوله: «إن عبد الرحمن بن عوف اشترى من عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما فرسا بأربعين ألفا».
_________
(١) الغندجاني (النعامة) برقم (٧٤٠).
(٢) أنساب الخيل ص ١١٦.
(٣) قلت: والمعروف أن عمر بن الخطاب ﵁ لم يكن من الأثرياء. . وبذلك ندرك ضخامة ما بذل.
(٤) أسماء خيل العرب ص ٩٠.
(٥) حياة الحيوان الكبرى ٢/ ١٥٥.
1 / 18
ولم يكن هذا الاهتمام بالخيل من العرب للزينة أو التفاخر، فقد كانت وسيلتهم إلى العزة والنصر، فالعربي كما أسلفت أبيّ بطبعه، محارب مقدام بحكم ظروف حياته، وامتلاكه فرسا أصيلة سابقة يعني الفوز والغلبة في قراعه غازيا أو مدافعا. . يؤكد ذلك ما جادت به قرائح الفرسان مما يترجم عن الصلة بينهم وبين أفراسهم، تلك الصلة التي يمتزج فيها شعور المحبة والإعجاب بشعور المصير الواحد، فغلبة أحدهما نجاة للآخر، وخذلان أحدهما إنما هي النهاية المحتومة لرفيق حياته. . وقد عبر شداد بن معاوية العبسي أبو عنترة عن هذا الموقف بقوله:
جزى الله الأغرّ جزاء صدق ... إذا ما أوقدت نار الحروب
يقيني بالجبين ومنكبيه ... وأحميه بمطّرد الكعوب (١)
لهذا فإنه حين يفضّله على فتاته، ويرفعه فوق استنكار زوجه، ويقدّمه على أبنائه، فما ذاك سوى لأنه عدته في حماية من يلوذ به، وصونهن من السبي والهوان، وهو مصير قائم في كل يوم وليلة. . وفي ذلك يقول الأعرج الطائي في فرسه الورد:
أرى أمّ سهل ما تزال تفجّع ... تلوم وما أدري علام توجّع
تلوم على أن أعطي الورد لقحة ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
إذا هي قامت حاسرا مشمعلّة ... نخيب الفؤاد رأسها ما تقنّع
وقمت إليه باللجام ميسّرا ... هنا لك يجزيني الذي كنت أصنع (٢)
فهو يذكّرها بواحدة من صور الهوان لا تجهلها ليبلغ من تهدئة ثورتها على الفرس ما يريد.
وكما أن فرسه وسيلته للحماية والدفاع، فهي كذلك عدته للإغارة
_________
(١) الغندجاني (الأغرّ) برقم (١٠).
(٢) الغندجاني (الورد) برقم (٧٩٦).
1 / 19
والغزو، يقول شمعلة بن الأخضر بن هبيرة في فرسه الشقراء:
نولّيها الحليب إذا شتونا ... على علاّتنا ونلي السّمارا
رجاء أن تؤديه إلينا ... من الأعداء غصبا واقتسارا (١)
ومثله قول خالد بن جعفر بن كلاب في فرسه حذفة:
أسوّيها بجاري أو بجزء ... وألحفها ردائي في الجليد
وأوصي الراعيين ليغبقاها ... لها لبن الخلية والصّعود
لعل الله يفردني عليها ... جهارا من زهير أو أسيد (٢)
ولم يكن اهتمامهم بأنسابها لصيانة صفاتها المتوارثة-بأقل من عنايتهم بها، حتى كان حفظ أنسابها من الأمور التي قلّ أن يجهلها فيهم أحد، لا يقتصرون في ذلك على معرفة الآباء خاصة، كما هو شأنهم في أنسابهم، بل إن اهتمامهم بأمهات الخيل لا يقل عنه في الآباء لما لهنّ من دور في نقل صفاتهن المحمودة كذلك إلى الأبناء. وأخبار ذلك مستفيضة في أسفار التراث العربي، من ذلك ما أورده الجاحظ فقال:
«قاد عيّاش بن الزبرقان بن بدر إلى عبد الملك بن مروان خمسة وعشرين فرسا، فلما جلس لينظر إليها، نسب كل فرس منها إلى جميع آبائه وأمهاته، وحلف على كل فرس بيمين غير اليمين التي حلف بها على الفرس الآخر. . فقال عبد الملك بن مروان: عجبي من اختلاف أيمانه أشد من عجبي من معرفته بأنساب الخيل» (٣). علما بأن عياشا هذا رجل عادي ولم يكن من العلماء المختصين المنقطعين كالأصمعي مثلا.
_________
(١) ابن الأعرابي ص ٦٠ والسّمار من اللبن ما كان ثلاثة أرباعه من الماء.
(٢) أنساب الخيل ص ٦٦.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٣٠٥.
1 / 20
تكريمها في الإسلام
وقد أبقى الإسلام على مكانة الخيل، بل إنه بالغ في الحث على الاهتمام بها لتكون مطية حمل الرسالة السماوية إلى الآفاق، كما خصها الله ورسوله بما يكشف عن أهميتها البالغة بوصفها رمزا للقوة، ووسيلة لرفعة الدين وأهله. فكان من مظاهر ذلك أن أقسم بها سبحانه فقال: «وَاَلْعادِياتِ ضَبْحًا* فَالْمُورِياتِ قَدْحًا* فَالْمُغِيراتِ صُبْحًا* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا. .» (١). وجعلها تعالى أبرز أسباب القوة، ورمزا باقيا لها عبر كل العصور، فقال في ذلك سبحانه داعيا إلى مداومة الاستعداد للبأس واللقاء -وقد خصّ الخيل بالذكر دون غيرها من هذه الأسباب-فقال جل وعلا «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللهُ يَعْلَمُهُمْ. .» (٢).
كما اتفقت الأحاديث النبوية على تكريمها، من ذلك إعفاؤها من الزكاة عند الجمهور، لقوله ﷺ: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (٣) ومنها النهي عن ابتذالها وامتهانها، نقل الدميري فقال: «وفي سنن النسائي من حديث سلمة بن نفيل السكوني، أن النبي ﷺ نهى عن إذالة الخيل، وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها» (٤).
وورد فيها من الأحاديث الشريفة، ما يجعلها حبيبة إلى الناس، داعية إلى إشاعة البركة والخير فيهم. فقد ذكر الدميري من ذلك قوله: «وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله ﷺ يلوي ناصية فرسه بإصبعيه وهو يقول: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم
_________
(١) سورة العاديات/١ - ٥.
(٢) الأنفال/٦٠.
(٣) جامع الأصول ٤/ ٦٢٣ برقم ٢٧٠٨.
(٤) حياة الحيوان الكبرى ١/ ٤٤٠.
1 / 21
القيامة، الأجر والغنيمة» (١). وأورد كذلك قوله ﵊:
«من نقّى لفرسه شعيرا ثم جاءه حتى يعلفه، كتب الله له بكل شعيرة حسنة» (٢) وقوله أيضا «البركة في ثلاث: في الفرس والمرأة والدار» (٣).
كما شجع ﵊ على زيادتها بجزيل الثواب لكل من يسهم في هذا السبيل، من ذلك قوله «من أطرق فرسا فعقب له، كان له كأجر سبعين فرسا حمل عليها في سبيل الله تعالى، وإن لم يعقب كان كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله» (٤) وفي عيون الأخبار لابن قتيبة «أن النبي ﷺ قال: عليكم بإناث الخيل، فإن ظهورها حرز، وبطونها كنز» (٥).
كما أن الثواب ملازم للفرس أينما حلت، من ذلك قوله ﵊ «إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس عتيق، ولا دارا فيها فرس عتيق» (٦) حتى جعل ما ينفقه الرجل على الفرس غنما لا خسران فيه، فروي عن الرسول (ص) قوله: «إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها» (٧) حتى إنه رفع منزلة الفرس إلى درجة العقلاء حين قال «ما من فرس عربي إلا يؤذن له كل يوم بدعوتين، يقول: اللهم كما خولتني من خولتني، فاجعلني من أحب ما له إليه» (٨).
ولم يكن كل هذا التكريم للفرس في الإسلام إلا ليكون وسيلة المؤمنين للجهاد وإعلاء كلمة الله في العالمين، فقد رسم لصاحبه طريق
_________
(١) شرح السنة للبغوي ١٠/ ٣٨٦ برقم ٢٦٤٥ وانظر مجمع الزوائد للهيثمي ٥/ ٢٥٨.
(٢) الدميري ٢/ ١٥٦.
(٣) السابق ٢/ ١٥٩.
(٤) السابق ٢/ ١٥٧.
(٥) عيون الأخبار ٢/ ١٥٣.
(٦) حياة الحيوان ٢/ ١٥٣.
(٧) الترغيب والترهيب من الحديث الشريف ٢/ ٢٦٢ برقم ١١ و١٣.
(٨) السابق ٢/ ٢٦٤ برقم ٢٠.
1 / 22
الفلاح فيه يذقة واستقصاء، لم يترك معهما ثغرة لظن أو تأويل حين قال ﵊: «الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأما فرس الرحمن فيما اتخذ في سبيل الله تعالى وقوتل عليه أعداؤه، وفرس الإنسان ما استطرق عليه، وفرس الشيطان ما روهن عليه» (١).
وبالغ الإسلام في أجر فرس الرحمن فلم يترك مجالا لتردد أو زيادة لمستزيد حين قال ﵊: «من احتبس فرسا في سبيل الله تعالى، إيمانا بالله ﷿ واحتسابا، وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (٢).
وبمثل هذه العلاقة الوثيقة النبيلة بين الوسيلة والغاية، جابت الخيول العربية الآفاق؛ وطوى فرسانها معظم المعمورة آنذاك، لنشر رسالة الحق والخير للدنيا والآخرة.
وجدير بالتوضيح، أن ما ورد في الأحاديث النبوية المتقدمة من تكريم للفرس العتيق، وما خصّ به الفرس العربي، لم يكن تعصبا، بل حفاظا على صفات الفرس الأصيل التي عرفها العربي في الماضي، ولمسها المهتمون بشؤون الخيل والسباق هذه الأيام. . وهي صفات بعضها جسمي يتصل بتناسق في الأعضاء يمنح الفرس مزيدا من القدرة على السبق والانعتاق، وبعضها نفسي يتصل بسلوك الفرس وصلته بصاحبه، من الذكاء والألفة والوفاء وما إلى ذلك.
هذا ولم تبخل المصادر القديمة بتقديم أوصاف شاملة للفرس
_________
(١) الترغيب والترهيب ٢/ ٢٦١.
(٢) رياض الصالحين ص ٥١٠ برقم (١٣٢٨).
1 / 23
الأصيل (١)، وألّفت في ذلك كتب كثيرة تجد طرفا منها في ثبت المراجع. .
كما عملت بعض الدراسات الحديثة على الإلمام بهذا الموضوع، كان منها ما ذكره الدكتور كامل الدقس في الصفات الجسمية للحصان العربي فقال:
«. . وهذه الخيل العراب هي أصل لكل الجياد الأصيلة في العالم، وأجودها الخيل النجدية، وتمتاز برأسها الصغير، وعنقها المقوس، وظهرها المستقيم، وذيلها المرفوع المموج، وحوافرها الصلبة الصغيرة، وشعرها الناعم، ومفاصلها المتينة، وصدرها المتسع، وقوائمها الرقيقة الجميلة.
وهي قوية جدا وسريعة، وتلوح على وجوهها علامات الجد. .» (٢).
ونكتفي بما قدمناه في هذه العجالة عن الخيل، بين يدي الكتاب، لننتقل إلى النص والتحقيق
[النص والتحقيق]
٢ - النص والتحقيق لم أجد لهذا النص الثمين-بعد سنوات من المراسلة والبحث في فهارس المكتبات-سوى نسخة واحدة في دار الكتب المصرية بالقاهرة برقمين: عمومي (٤٢٨٥٥) وخصوصي (٢٥ لغة ش)، أي أنه من مكتبة العلامة الشنقيطي، يؤكد ذلك عبارة بخطه المغربي يقول فيها: «ملكه بفضل ربه وكرمه محمد محمود بن التلاميد التركزي لطف الله به، ثم وقفه على عصبته بعده وقفا مؤبدا، فمن بدّله فإثمه عليه. وكتبه محمد محمود سنة ١٢٩٨».
غير أن النص نفسه لم يكن بخط العلامة الشنقيطي، بل كان بخط مشرقي واضح، ويبدو أنه قد نسخ له في المدينة المنورة عن أصل لدى
_________
(١) انظر على سبيل المثال في: أمالي القالي ٢/ ٢٤٨ - ٢٤٩ اوفقه اللغة للثعالبي الباب السابع عشر ص ٢٣٧ وما بعدها.
(٢) وصف الخيل في الشعر الجاهلي ص ٣١ - ٣٢.
1 / 24
بعض الأفاضل هناك، بدليل ما ورد في آخر النسخة للناسخ قوله:
«كتب في المدينة المنورة في ٢٩ ذي القعدة الحرام سنة ١٢٩٨».
ولم يضر هذا النصّ في شيء وحدانية نسخته، فلقد كانت تامة واضحة حسنة الخط، وكل ما فيها يدعو إلى الاطمئنان التام، إضافة إلى توثيقها من قبل مالكها الفاضل العلامة الشنقيطي. .
أما في التحقيق، فلم أدّخر في العناية بالنص جهدا، بما يتطلبه ضبطه وتخريج ما ورد فيه من موادّ علمية تتصل بالخيل وفرسانها وأشعارهم. . فشملت المراجع ما وصل إلى عصرنا من كتب النخيل مطبوعها وبعض مخطوطها، وكتب اللغة ومعاجمها تلك التي أمدّتني بالشطر الأكبر مما استدركته على الغندجاني من الأفراس التي غابت عن حفظه ومراجعه، وقد أربت عدتها-كما أسلفت-على الستين بعد المئتين، وكذا مجاميع الشعر ودواوينه، ومصادر أخرى تجد ثبتها في مكانه من الفهارس، والكمال لله وحده، إنه تعالى نعم المولى ونعم النصير.
1 / 25