قال: يا للعجب! إني أراهم يطنبون في محبتهم للخديوي ومصلحة البلاد.
قال: لا يغرنك ذلك؛ فإني سمعتهم يتحدثون بما أقوله لك الآن، وهم يجاهرون بأفكارهم أمامي ولا يحاذرون؛ لأنهم لا يعلمون أنني أعرف اللغة العربية؛ اغترارا بالزي الإنكليزي الذي ألبسه، فكن منهم على حذر.
فقال هيكس: ولكن ألا تظن أنهم أشد بطشا من هؤلاء السود؟
فضحك شفيق وقال: اعلم يا سعادة الباشا أن السودانيين إذا تدربوا على الجندية كانوا أشد بأسا من هؤلاء كثيرا؛ لأنهم صبورون على الأهوال، ثابتون في مواقع القتال.
فوقع هذا الكلام لدى هيكس باشا موقع الاستحسان، وازداد حبا لشفيق ورغب في تقريبه منه.
أما شفيق فلم تذهب صورة فدوى من ذهنه لا ليلا ولا نهارا مع ما كان فيه من القلق والاضطراب، وكان رسمها أعظم تسلية له في ساعات الانفراد. وقد كان يخاطب نفسه مرارا قائلا: هل يقدر لي العود إلى بلادي مرة ثانية فأتخلص من هول هذه الحملة، وأرى فدوى ووالدي. وكان كثيرا ما يبكي منفردا كلما يتصور عدم عوده إلى تلك البلاد.
وكان هيكس حيثما سار يصطحب شفيقا ويستشيره في كثير من الأعمال، فكان ذلك مدعاة لسرور شفيق؛ آملا أنه ينال بذلك حظوة في عيني كبار الإنكليز، فينال الرتب والألقاب مرضاة لحبيبته، وليس طلبا للفخر بنفسه؛ لأنه كان لا يبالي بأمجاد الدنيا الباطلة، ولكنه كان يرى أنه إذا نال فدوى وهو أقل منها مقاما، فلا يهنأ له عيش.
وبقي هيكس باشا في الخرطوم يبعث يوما بعد آخر سريات من الجند لمقاتلة بعض العصاة في أماكن مختلفة إلى أن عقد النية على المسير لافتتاح كردوفان، وإنقاذ الأبيض عاصمتها من المتمهدي وجنوده.
فبعث الجواسيس يستطلعون طلع العدو، فصاروا يأتون إليه بالأخبار المختلفة المتناقضة، فوقع في حيرة لا يعلم الصحيح منها، ورابه أمر الناقلين لها. وبينما هو في الافتكار دخل عليه شفيق فقص عليه ما هو فيه من التردد، فقال: وما العمل الآن؟ قال: لا بد لنا من رجل نثق به يستطلع لنا أحوال العدو، وإلا فإننا في خطر على حياتنا.
فأطرق شفيق هنيهة ثم قال: وما رأيك إذا كنت أسير أنا في هذه المهمة؟ قال هيكس: إنك أقدر الناس على ذلك لمعرفتك العربية، ولاطلاعك على عوائد هذه البلاد، وإذا فعلت فإني أذكرك لدى نظارة الحربية، فتنال مكافأة عظيمة، ولكن الأحسن ألا تلقي بنفسك إلى التهلكة.
अज्ञात पृष्ठ