وفيما هما على رصيف المنشية مرا بحانوت قد ازدحم بالجلوس وهم يشربون شراب عرق السوس، وصاحب الفندق شيخ متعمم بعمامة بيضاء، مشدود النطاق؛ لئلا يتعثر بأذياله لكثرة حركته، واسمه محمود. وكان عزيز يعرفه من قبل، وله معه أحاديث وصداقة، فقال لشفيق: هلم بنا نشرب شيئا من منقوع عرق السوس؛ فإنه رطب منعش. فأجابه شفيق ودخلا، ولم يحصلا على ما طلباه من المشروب إلا بعد الانتظار مدة لكثرة الازدحام.
أما شفيق فلحظ بجلوسه في هذا الحانوت رجلا في ثياب غريبة الزي كان يقتفي أثرهما عن بعد، فلما جلسا مر من أمام الحانوت واسترق النظر إليهما، ثم عاد ودخل فجلس على مسافة منهما وطلب من الشيخ محمود كأسا، فجيء بها إليه. وقد كان الجلوس في هذا الحانوت جماعات جماعات يتفاوضون ويتسامرون، وفيهم الإفرنج والأتراك والوطنيون وغيرهم على اختلاف الأجناس والملل، وبعضهم يتحادث في «البورصة» والأسعار والأرباح، وآخرون في السياسة، وآخرون في الملاهي، وجميعهم فرحون لا تسمع فيهم إلا ضحكا وقهقهة.
أما شفيق فاشتغل باله بأمر الرجل المتنكر، ولم يمل إلى مكاشفة عزيز؛ لئلا يظن فيه جبنا.
وما زال عزيز تلك الليلة يترقب فرصة يهلك بها شفيقا فلم يقدر، فأجل ذلك إلى الليلة التالية، لعلمه أن الباخرة بريندزي لا تصل الإسكندرية إلا بعد ثلاثة أيام، فسارا إلى المنزل، وذلك الرجل في أثرهما حتى طلعا السلم، فقلق شفيق، لكنه حمل ذلك على محمل الاتفاق لسلامة نيته، فلما وصل غرفته طلب العشاء، وقضى بعض الوقت في محادثة عزيز، ثم سار كل إلى فراشه.
أما شفيق، فما استلقى على فراشه إلا تذكر الأهل والمحبوب. وكانت هذه هي الليلة الأولى التي باتها بعيدا عن والديه، فتواردت عليه الأفكار، وتاه في عالم تصوراته، فألفه السهاد، وجفاه الكرى حتى لم يطق الاضطجاع، فنهض وجلس على كرسي بجانب السرير، ثم استخرج من جيبه أوراقا قديمة؛ ليقتل الوقت بقراءتها؛ لعلها تأتيه بالنعاس، فلم تكن إلا لتزيده سهادا وأرقا، فخرج إلى غرفة الاستقبال لعله يرى شيئا من الجرائد، فوجد صحيفة الأهرام، فأتى بها وأقبل على قراءتها حتى انتهى إلى تلغراف آت من بريندزي مفاده: «إن الباخرة بريندزي تصل الإسكندرية صباح كذا (أي غد ذلك اليوم) على غير المعتاد، وتبرح الميناء عند الظهيرة.» فاهتز شفيق من الفرح لتلك المصادفة؛ تخلصا من الانتظار على غير جدوى، ونهض لوقته وشرع في ترتيب أثوابه ولف أوراقه فعثر على دبوس فدوى، فخفق قلبه وترقرقت عيناه بالدموع حتى لم يتمالك عن تقبيله وحفظه في مأمن من ضياعه. فلما أعد كل حاجيات سفره نظر إلى الساعة فإذا هي الثانية بعد نصف الليل، فاضطجع على فراشه وهو ينتظر اكتحال عينيه بالكرى، فلم ينله منه إلا اليسير في آخر الليل.
وفي الصباح، جاء عزيز وهو لا يدري شيئا من أرق صديقه، وقد قضى ليله في إعداد المكيدة ونصب الأشراك، فإذا بشفيق قد تزمل بأثواب السفر، فسأله عزيز عن السبب، فأطلعه على الجريدة، فلما عرف ذلك خاف حبوط مسعاه، فأخذ يحبب إليه الإقامة في الإسكندرية.
فقال له شفيق: والله لو خيرت ما اخترت إلا الإقامة في غير هذه المدينة؛ لأني أحببتها كثيرا، ولكنني الآن على أهبة سفر طويل، ومشقة عظيمة، وخير البر عاجله، فلعن عزيز في سره الساعة التي وصلت بها تلك الباخرة؛ لأنها أحبطت كل مساعيه، فكظم غيظه وأخذ يساعده في التأهب، فأنزله إلى القارب حتى وصلا الباخرة. وقد ركب معهما في ذلك القارب الرجل المتنكر، فلما لحظه شفيق عرفه، فأزمع أنه إذا كان مسافرا على تلك الباخرة، فلا بد له أن يتحرش به، ويعرف أمره، لكنه رآه قد عاد في القارب الذي عاد فيه عزيز فما أدرك السبب.
أما عزيز فوعد شفيقا قبل وداعه ببذل جهده في مساعدته، وتحبيب والد فدوى إليه، ثم عاد بصفقة المغبون وهو يتلون تلون الحرباء من الكدر.
فبقي شفيق لا أنيس له إلا هواجسه، فأقلعت الباخرة تمخر عباب البحر، وهو لا يحول بصره عن وادي النيل، حتى حال الأفق بينهما، فودع الربوع والأهل والحبيب، وردد قول أبي الطيب:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا
अज्ञात पृष्ठ