الخرطوم أثناء الحصار
فلما كانت الشمس في الهاجرة، وقد اجتمع الجميع إلى الصلاة، ولى شفيق وجهه الخرطوم وسار يريد باب المسلمية من أبواب السور، فلما بعد عن معسكر المهدي، رفع عصا عليها منديل أبيض، فلما رآه حامية الخرطوم من السور علموا أنه آت مسالما، ففتحوا له الباب فانذهل لما شاهد من متانة ذلك السور، وعمق خندقه، وكانوا قد حفروه أثناء غيابه، وعرضه نحو 17 مترا، وعمقه عشرة أمتار،
الحصون، وكان أسود اللون، طويل القامة، فلما رأى شفيقا في لباس الدراويش، سأله عن أمره فقال: إنه يريد مواجهة غوردون باشا، فأخذه وسار به إلى المدينة، وبين السور والمدينة خلاء، والسور يشبه قوس دائرة محيطا بجانب من المدينة ينتهي طرفه الواحد في البحر الأزرق، والآخر في البحر الأبيض. طوله زهاء ستة أميال، وبينه وبين المدينة ميلان أو أكثر، فساروا بشفيق شرقا قاصدين سراي الحكومة على البحر الأزرق؛ حيث يقيم غوردون، فنظر شفيق إلى جانبيه عند دخوله السور، فإذا بالجنود متفرقة جماعات، وأسلحتهم منصوبة ثلاثا ورباعا على طول ذلك السور، والرجال بين متوسد خائر القوى، وضائر يئن جوعا، وقد علت وجوههم علامات الضعف واليأس، فلما رأوا شفيقا استبشروا بقدومه؛ ظنا منهم أنه إنما جاء لمخابرة سرية ربما كان فيها خير؛ لأنهم كانوا يزعمون أن المتمهدي بعد أن علم بمجيء الجنود الإنكليزية أصبح راغبا في الصلح والتسليم، ولكنهم كانوا في ريب من أمر المدافع التي أطلقت الليلة الماضية؛ لعلمهم أن مثل ذلك العدد من المدافع لا يطلق إلا لانتصار، فتقاطر جماعة منهم ينظرون إلى شفيق وهم بين سوداني وباشبوزوق وجندي مصري وغير ذلك، فرأوا على وجهه أمارات البشر، وأنه ليس على شاكلة رجال المتمهدي إلا بلباسه، فأحبوا للهفتهم أن يسألوه عن أمره، فانتهرهم الضابط السائر بصحبته وأمرهم أن يرجعوا - وكانوا قد وصلوا القشلاق في وسط تلك الساحة - فدخل بعضهم القشلاق، وعاد البعض الآخر إلى السور. أما شفيق فما زال سائرا حتى دخل المدينة، فإذا بها قليلة الناس؛ لتقلد أهلها السلاح، واشتراكهم في الدفاع، ولم ير أسواقا مفتوحة، ولا أحدا مارا فيها ما خلا بعض الفقراء المطروحين في الشوارع يتضورون جوعا في حال النزاع. هذا يئن وحوله أطفاله يبكونه، وامرأته تلطم وجهها وتندب حظها وهي لا تستطيع النهوض لشدة الضعف. وشاهد في يد بعضهم (عرناس) ذرة مجردا من الحب يحافظ عليه محافظته على أعز ما عنده، وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار؛ لئلا يختطفه أحد من يده، فلما رأى شفيقا بلباس الدراويش والخفر إلى جانبه، نظر إليه مناديا: أما تخافون الله وأنتم مسلمون أن تضايقونا هذه المضايقة، وتمنعونا من المؤن، فإذا كان صاحبكم هذا مهديا، فكيف يستحل دم المسلمين؟! فضحك شفيق ولم يجب ببنت شفة، ولكن قلبه كاد يقطر دما لما عاينه في تلك المدينة من الضيق، وخاف أن يتهور بعض أهلها لضيقه فيرميه ببندقة أو سهم، فلازم الخفر.
فلما جاءوا السراي سألوا الخفر عند الباب عن الحكمدار، فقيل لهم: إنه سار لتفقد قلعة بوري عند الطرف الشرقي للسور، وإنه ربما يسير من هناك على محاذاة السور لتفقد حاميته، ثم ينعكف إلى الغرب لتفقد قلعة موكران على ضفة النيل غربي المدينة. فاضطر شفيق إلى الانتظار هناك ريثما يعود، ولكنه سأل عن وقت عودته بالتقريب، فقيل له: إنه يكون هنا نحو الغروب؛ لأن أعيان المدينة سيجتمعون إليه الليلة، فقال شفيق: إذن أنتظره حتى يعود. فسلمه الخفر إلى خفر السراي، فأدخلوه إلى غرفة جلس فيها ينتظر عود غوردون وهو يفكر بالحالة التي وصلت إليها حامية تلك المدينة، ويعجب لتأخر الحملة الإنكليزية إلى ذلك الوقت، ولكنه قال في نفسه: إن الذين احتملوا الحصار سنين لا يصعب عليهم احتماله أياما قليلة. وكان ينتظر الفرج القريب؛ لأنه علم أن جيش المتمهدي خائف من الإنكليز، وعول أن يطلع غوردون على مقاصد المهدي، ثم تصور أنه نجا من تلك الأخطار وعاد إلى القاهرة، فاضطرب فؤاده لتذكره خبر الرسول بسفر فدوى إلى بر الشام لتغيير الهواء، فخطر رسمها في باله، فمد يده إلى جيبه ليستخرجه، فسمع وقع أقدام كثيرة ولغطا، فأصاخ أذنيه، فإذا بجماعة يسألون عن غوردون باشا؛ بعضهم يتكلم العربية، وبعضهم الفرنسوية، وبعضهم لغات أخرى، فدنا إلى نافذة تشرف على صحن السراي، فإذا بجماعة من الأعيان على معظمهم اللباس الإفرنجي، فتأملهم جيدا، فعرف أكثرهم، وفي جملتهم المستر بور؛ مكاتب جريدة التيمس - وكان قد جاء بصحبة حملة هيكس، وبقي في الخرطوم بعد مسير الحملة - والمدير أحمد بك علي يالله، ونيقولا ليونتيدس؛ قنصل دولة اليونان، وإبراهيم بك فوزي، وفتح الله جهامي؛ أحد التجار السوريين - وكان قد تقلد مصلحة النقل والحمل - والدكتور نقولا بك؛ مفتش صحة السودان العام، وغير هؤلاء ممن لم يعرفهم، وسمعهم يتضجرون من تلك الحالة ويتذمرون فيما بينهم من إبطاء الحملة الإنكليزية في الوصول إليهم، فعلم من مجمل حديثهم أنهم آتون للمفاوضة في وسيلة يتصلون بها إلى نتيجة نهائية.
وفيما هو ينظر إليهم إذ جاءهم رجل في لباس رسمي علم من ملامح وجهه أنه يوناني النزعة، وتأكد بعد ذلك أنه جرياجس بك؛ باشكاتب غوردون، فاستقبل هؤلاء الأعيان وقادهم إلى القاعة ينتظرون قدوم الباشا.
الفصل الثامن والسبعون
غوردون باشا وأهل الخرطوم
فلبث شفيق في ذلك المخفر حتى كان الغروب، فسمع وقع أقدام أفراس، فعلم أن غوردون قد عاد
فابتدره شفيق وخاطبه بالإنكليزية، فالتفت بغتة فلم ير أحدا في لباس الإنكليز، فناداه ثانية، فنظر إليه فلم يتحقق صورته؛ لأن الظلمة كانت قد سدلت نقابا رفيعا، فقال له: من أنت؟ قال: إني من ضباط الجيش الإنكليزي، فاختلج قلب غوردون؛ لأن لفظ «الجيش الإنكليزي» كان نصب عينيه ليلا ونهارا، وقد أقلق أفكاره ومل من انتظار مجيئه، فتقدم إلى النافذة وأمر بالنور فجيء به إليه، فتأمل الرجل فإذا هو بلباس الدراويش، ولكن صورته غير سودانية، فأمر بإخراجه وأن يلحق به، فسار الاثنان، فلما دخلا القاعة وقف الحضور احتراما، فجلس غوردون وجلس الجميع وليس فيهم وجه باسم وهم ينظرون إلى شفيق ولباسه.
فابتدرهم غوردون بالخطاب قائلا: لا تعجبوا لهذا الرجل ولباسه؛ فإنه حمل في ثياب الذئاب! فنزع شفيق العمامة والطاقية عن رأسه، فبان من تحتها أنه ليس درويشا.
अज्ञात पृष्ठ