قال: قد كنت قبل سقوط الأبيض واحدا من مستخدمي الحكومة فيها، فلما سقطت سقطت في قبضة المهدويين، ولم أر بدا من التظاهر بدعوتهم حفظا لحياتي، فأحبوني حتى دخلت في خدمتهم، فاتخذني الأمير عبد الحليم كاتبا له.
فقال شفيق: وما اسم حضرتك؟
قال: اسمي حسن، وسارع إلى الخشبة المشتعلة وأطفأها قائلا: إن الظلام أكتم لنا؛ لئلا يهتدي أحد بهذا النور إلينا، فيعود ذلك وبالا علينا.
فقال شفيق: قد سمعت اليوم أن الحملة سائرة تحت قيادة أميرك، فهل أنت ذاهب برفقته؟ قال: نعم، سنسافر بعد غد إن شاء الله، ولكني لا أخفي عليك أني ذاهب رغما عني؛ إذ لا يسعني غير ذلك، والآن يجب أن أتخذ لك وسيلة أنقذك بها من الخطر؛ لأن المتمهدي لا بد أن يأمر بقتلك؛ إذ قلما يثق بغير الدراويش، ولكني سأبذل الجهد في إنقاذك، ولا أريد أن أسألك عن أحوال حملة هيكس باشا؛ لأننا قد عرفنا عنها كل شيء؛ إذ إن جواسيسنا منبثون في سائر الأنحاء، وأخشى أن ترتاب في إخلاصي إذا سألتك، فما لنا ولهذا الكلام. إن الأمر الذي ينبغي أن نسعى إليه الآن إنما هو إنقاذك، وليس لنا إلا أن نجعلك من الدراويش على دعوتهم، ونسير معهم حتى يقدر لنا الفرار والعود إلى بلادنا، فإننا إن لم نفعل ذلك قتلنا لا محالة.
فلما سمع شفيق ذلك ظهر له أن الرجل مخلص، فقال له: إني أصنع ما تأمرني به، فدبرني برأيك.
فقال: قد أمر المتمهدي الأمير عبد الحليم أن يقتلك قبل مغادرته هذه المدينة، فيدعوك في الغد لأجل ذلك. ودله على طريقة تنقذه من القتل، ثم قال: وأنا سأفعل ما يجب علي؛ لعلك تنضم إلى حملتنا فنسير معا، فنقترب من بلادنا؛ لعل الله يمن علينا بالفرج.
فتنهد شفيق وقال: آه! والله إن الموت لا يخيفني، ولكني أضن بحياتي من أجل من هم أحب إلي منها، ولكن أخبرني هل في هذه المدينة أحد غيرك من المصريين؟
قال: فيها كثيرون، وأكثرهم من رجال الحامية الذين أصيبوا بمثل ما أصبت فانضموا إلى المهدويين، وفيها أيضا رجل إفرنجي يقال له الأب بونومي - كان راهب دير في جبل دلن؛ من جبال نوبيا جنوبي كردوفان، في جملة رهبان وراهبات، فحاصرهم أمراء المتمهدي حتى استولوا على مكانهم، وجيء بهذا إلى هنا، وهو لا يزال تحت الحجر - وهناك غيره كثيرون ممن كانوا في نعمة، وتراهم الآن في ذل يميت النفوس.
فتأوه شفيق وكاد ييأس، لكنه تجلد وقال في نفسه: إن الرجل من احتمل المشاق والأخطار، ولله الأمر يفعل ما يشاء.
الفصل الثامن والأربعون
अज्ञात पृष्ठ