وهكذا كانا يظلان على شكوى وتهامس حتى يدجو الليل ويحين وقت الرقاد، فيودع الحبيب حبيبه بأعذب الألفاظ وأرقها ويقبلان شق الجدار وينصرفان، ولا يكاد الفجر ينبثق ويطرد ضياؤه نجوم الليل، وترتشف أشعة الشمس قطر الندى عن ثغور الأزهار، حتى يعودا إلى موعدهما.
غير أن هذه الشكاوى المهموسة، والزفرات المصعدة خفية في أذن الجدار الصماء، لم تكن لتشفي ما بالعاشقين من آلام، ولا لتخفف من لاعج غرامهما، فاتفقا ذات يوم، وقد أخذ اليأس منهما كل مأخذ، على أن يغافلا أهلهما ليلا، ويخدعا حراس السور، ويجتازا أبواب المدينة ويفرا إلى ظاهرهما، وتواعدا على اللقاء عند قبر نينوس الملك، لئلا يتيها فيضيع كل منهما حبيبه.
وكان يظلل قبر نينوس زوج سميراميس شجرة توت كبيرة، ثمرها أبيض كفلذ الثلج، تنهض على حافة عين باردة الماء، فاتعدا على اللقاء تحتها يستظلان بظلالها عن عيون الليل.
اتفقا على هذه الخطة الجريئة، وافترقا عن قبلة اللقاء لا عن قبلة الوداع، وأي لقاء مفجع سيكون لقاؤهما؟! ولما سكت الليل وغفلت العيون نهضت تسبا من سريرها وقنعت رأسها ووجهها بمنديل حريري من نسج بابل، ومشت في خفة تتلمس الجدران لتستهدي، تطأ الأرض بحذر خشية أن تقرع قدماها شيئا ينبه صوته والديها، فيشعرا بهمس خطواتها، حتى خرجت من الدار، فتنفست طمأنينة، سارت إزاء السور إلى أن بلغت الأبواب، وكانت إلهة الحب قد بعثت إيريس رسولة الإلهات، فهبطت بين الحراس وشغلتهم بغنجها ودلالها، فنسوا الأبواب مفتوحة فانسلت منها تسبا انسلال النور من خصاص النوافذ، ومضت تتعثر بين غدائر الظلام المنسدلة، يجب قلبها كلما أحست نأمة، أو آنست حسا فتتردد، فيغوثها الحب، ويمسها بصولجانه السحري، فيلهمها الشجاعة فتمضي في سيرها، ولم تصل إلى قبر نينوس حتى أطل عليها القمر من صدر البرية، فلجأت إلى ظل التوتة المخيمة عليه، وملأت كفيها من زلال العين، فغسلت وجهها وشربت ثم اتكأت على صفائح القبر تنتظر بيرام.
وبينما كانت العذراء البابلية في انتظار حبيبها إذا بها تسمع زئيرا دوت منه البادية ورددت صداه الآفاق، فرعبت وأخذتها الرعدة، وقفزت تسير على غير هدى، فانتحت غابة قريبة واستترت مذعورة بين أدغالها، وكانت في نفرتها قد أسقطت منديلها الحريري عن كتفيها، فلم تجرؤ على العودة لأخذه فتركته حيث سقط.
وكان هذا الزئير صوت لبؤة افترست ثورا، فأخذها العطش فجاءت إلى العين التي تعودت الشرب منها، فولغت في مائها حتى ارتوت، ثم ولت قافلة إلى الغابات، فعثرت في مرتها بالمنديل فخيل إليها أنه عدو عنيد فهرت غضبا، ومزقته بأنيابها وبراثنها ولطخت قطعه بدم الثور الذي كان يلوثها.
لم تتوار اللبؤة في الغابات حتى وصل بيرام موافيا عذراءه إلى الموعد، وكانت تسبا ما برحت مختبئة في الأدغال ترتجف خوفا من أن ترتد اللبؤة وتكشف مكانها، فرأى بيرام في ضوء القمر آثار وحش مرتسمة على التراب المندى، فارتعش واصفر وجهه وخفق قلبه خشية على تسبا من أن تكون الوحوش قد فاجأتها وفتكت بها، ولم يسر إلا خطوات حتى شاهد المنديل الممزق المخضب بالدم، وكان يعرف أنه منديل تسبا، وهل يخفى على المحب شيء من ثياب حبيبه؟ فصك جبهته، وضرب صدره وصاح صيحة اللائع: يا ليل تبا لك يا ليل وتعسا! شهدت مصرع تسبا، وستشهد مصرع محبها التاعس، إن تسبا كانت أحق مني بطول الحياة، ولكن ربة القدر ربة عمياء تضرب ضربتها على غير هدى، ولا ترى من صرعت، قتلت تسبا في ريق صباها، وإبان تفتق أزرار بهاها ... لا يا تسبا لم تقتلك ربة القدر، وإنما أنا الذي قتلتك ... ألست الذي حملك حبه الملح النهم على أن تغادري أمن بيتك إلى حيث تتساور المفازع والأهوال؟ ولماذا لم آت قبلك؟ إذا لكنت دونك فريسة ذاك الوحش الظلوم، أيتها الأسود الضارية لماذا لا تنقضين علي؟ تعالي ومزقي جسمي مزقا مزقا، عاقبيني على جريمتي بتقطيعك أحشائي بأنيابك المسنونة، أيتها الوحوش الخادرة في هذه الغابات الغبياء هلمي إلي وافترسيني، فقد حق علي الموت نهشا وتمزيقا، غير أني لن أنتظر مجيئك إلي لتذيقيني كأس المنون جرعات مرة، فالجبان وحده يدعو الموت وينتظر مأتاه، وأنا لست جبانا.
ثم تناول منديل تسبا، وحمله إلى ظل الشجرة يقبله باكيا حتى بلله بدموعه، هناك انتضى خنجره من قرابه العاجي، وخاطب المنديل قائلا: تقبل يا منديل الحبيب دمي الذي تسفكه يدي حسرة على صاحبتك. وطعن صدره بالخنجر، ثم انتزعه من الجرح ورمى به جانبا، فنفر دمه سخينا واندفق على أصول التوتة فنهلته، فتلونت أثمارها البيضاء بلون قرمزي، واستلقى بيرام قرب جذعها يضم المنديل إلى صدره الدامي ويعالج سكرات الموت.
وكانت تسبا قد أمنت عودة اللبؤة، فخرجت من مخبأها، وأسرعت الخطى خائفة أن يكون بيرام قد أتى ولم يرها، فهو ينتظرها وهي لا تريد أن تتأخر عليه، فجعلت تبحث عنه بقلبها وعينيها، تشتاق أن تراه لتخبره بالخطر الذي واثبها، فانتهت إلى العين فعرفت المكان، ولكنها أنكرت لون أثمار التوتة، تركتها بيضاء فإذا بها تجدها حمراء كالدم، فبهتت وسألت نفسها: أتراها إياها؟ وفيما هي متريبة تدير عينيها فعل الحائر، أبصرت على جذع التوتة هيكلا مرتميا، فدنت منه متخوفة، فوقعت عيناها، ويا لهول ما وقعت عليه! وقعت على جثة بيرام لا تزال نابضة بين الدماء، فطار لبها وكمد لونها وارتجفت كالورقة في مهب العاصفة، عرفت جسم من تحبه ومن داست التقاليد من أجل حبه، وخاطرت بروحها في سبيل هواه، فخفقت بكفيها الناعمتين ذراعيها البريئتين خفقات مرنة، وقطعت شعرها بأناملها الطرية، وارتمت على جسم بيرام الدامي تحتضنه وتقبل جرحه وتمزج دموعها بدمائه، تقبل ذاك الوجه البارد كالجليد وتصيح به: يا بيرام! يا حشاشة كبدي! أي قدر قاس انتزعك مني؟ أجبني يا بيرام! لماذا لا تكلمني؟ أنا تسبا قربك فاسمع صوت قلبي، ارفع رأسك قليلا وافتح مقلتيك وانظر إلى آلامي ولوعتي. فاستفاق بيرام على نداء تسبا اللائعة، تلك الاستفاقة التي يسمونها استفاقة المنية، ورنا إليها رنوة ملأى بمعاني الحب والحنان واليأس، ثم أطبق عينيه إطباقة لا انفتاح لهما بعدها، فصرخت تسبا صرخة الثكلى أفقدها المصاب عقلها، وأخذت تقلب جسم بيرام في حركة المجنون، وتحنطه بالقبل والدموع، وإذا بها ترى منديلها الممزق المخضب بالدم، وقراب الخنجر الفارغ، فأدركت سر موت حبيبها، وهدأت تخاطبه بحزن واستسلام قائلة: إن يدك يا بيرام هي التي قتلتك حزنا علي، لتوهمك أن اللبؤة قد افترستني! ولكن يدك غير مجرمة في قتلك، وإنما أن المجرمة الوحيدة؛ لأن حبي هو الذي سفك دمك، فإن يكن هذا الحب قوى يدك فطعنت صدرك بخنجرك، فأنا لي أيضا يد قوية وفي قلبي حب يقويني لأمزق بخنجرك أحشائي، وأتبعك إلى ما وراء هذه الحياة. إن الموت وحده كان في قدرته أن ينتزعك مني فأدركك الموت، وسأتحداه وألتحق بك إلى حيث لا تفرقنا يد مفرق، فيا أبت المنكود الحظ، ويا أيها الوالد التاعس، والد حبيبي، إني أرفع إليكما رجاء عاشقين جمعهما الحب الأمين في مصير واحد، فارحماهما واجعلاهما يستريحا في قبر واحد، وأنت أيتها التوتة التي شهدت مصرع حبيبي وستشهد مصرعي، فلن تظلل بعد هنيهة إلا جثتين يلفهما الموت معا بملاءته السوداء، احفظي أثر استشهادنا في الحب، واحملي حتى الأبد أثمارا سوداء حدادا علينا، أثمارا سوداء تشهد بأن العاشقين المشئومي الطالع: بيرام وتسبا، قد سقياك دماءهما التي سفكتها يداهما.
قالت هذا وتناولت الخنجر من على الأرض ودم بيرام لا يزال عليه فاترا، وغرزته بين ثدييها، فسقطت فوق بيرام جثة هامدة.
अज्ञात पृष्ठ