वैज्ञानिक चिंतन के मूलतत्व
أسس التفكير العلمي
शैलियों
وتلك هي الحال في هذه الصفحات، لقد أردنا بها ضربا واحدا من جوانب الإدراك، هو الإدراك العلمي، ونوعا واحدا من الكائنات، هو الكائنات التي يمكن إخضاعها إلى المشاهد والتجارب، لنصوغ عنها آخر الأمر ما يسمى بقوانين العلوم، فالأمر - يا صاحبي - في هذا الكون الفسيح وفي حياة الإنسان بكل تعقيدها وبكل سموها، هو ما جئت لتختاره موضوعا للنظر، لكنك في اللحظة التي تفرغ فيها من اختيارك للنظر العلمي ومنهجه، لا يصبح من حقك بعد ذلك أن تخلط أمرا بأمر؛ إذا كان اختيارك هو أن تعلم كيف تتركب البيئة الطبيعية التي تعيش فيها، وكيف يتركب سلوكك في جنباتها ومتأثرا بحوافزها وكائناتها، لكي تشكل تلك البيئة وهذا السلوك على الصورة التي تبغي، فعندئذ لا سبيل أمامك إلى غايتك إلا المعرفة العلمية وإلا المنهج الذي دلت تجارب العلماء على مدى عصور طويلة على أنه هو المنهج المؤدي إلى المعرفة العلمية الصحيحة والدقيقة. وإني لعلى علم بأن الإنسان كثيرا ما يضيق نفسا بهذا العالم بكل ما فيه، فيأخذ في التماس عالم غيره، يصوره لنفسه بوجدانه شعرا أو قصة أو تصويرا أو غير ذلك من سبل، وعندئذ ليس هو بحاجة إلى «علم» بقدر ما هو بحاجة إلى خيال وإبداع. أما إذا أصر على أن يعيش في العالم الواقع بالفعل، وأن يعامل الناس على أساس هذا الواقع نفسه، فلا بديل أمامه يومئذ عن العلم ومنهجه، إنك في حياة الخيال والأوهام، تقيم معملك في جوفك، وتطهو طعامك المأمول على هواك، غير متقيد بما هو هنالك على وجه الأرض من نبات وحيوان ومعادن، لكنك في تعاملك مع الواقع الفعلي مضطر أن تضع معملك خارج بدنك، وأن تطهو الطعام مما هو نابت في الأرض، أو سابح في الماء أو السماء.
ولكن حتى الواهم وهو يتوهم، والفنان وهو يبدع فنونه، لو أراد - لسبب ما - أن «يعلم» كيف يعمل هذا الوهم العجيب في نفسه، أو أن «يعلم» كيف يتم للفنان إبداعه من شعر وموسيقى، فلا بد له ساعتئذ من اللجوء إلى رجل العلم وصاحب المنهج العلمي ليحلل له هذا الذي يحدث في ذاته.
العلم بمنهجه يرسم لنا الصورة الدقيقة لما هنالك، ولما كان وما سوف يكون، ولنا بعد ذلك أن نتخذ لأنفسنا الموقف الذي نرضاه، فمن يدري؟ قد تكون نازعا بروحك إلى تصوف بغض النظر عما كان وما هو كائن أو سوف يكون، لتنصرف بقلبك إلى مدارج أخرى، أو قد ترى الصورة التي رسمها العلم لما هو واقع فتراها أنت مما لا يتفق مع مبادئ خلقية تريد أن تحافظ عليها، كأن يعطيك العلم صورة صحيحة عن الذرة وتركيبها وطريقة تفجيرها ليترك لك بعد ذلك اختيار الموقف الذي تقفه إزاءها، كل ذلك لا ينفي أن يكون للعلم طريقته لمن أراد، والدعاة إلى اصطناع العلم في حياة الناس إنما يقصرون دعوتهم تلك على ما يصلح للعلم وطريقته، وأما ما لا يصلح من سائر الجوانب، فموكول أمره إلى وسائل أخرى غير منكورة.
ليس الإنسان عقلا كله، بل هو مزيج من عقل ولا عقل - كالوجدانات والرغبات والشهوات - ولكل من العقل واللاعقل أهميته، ولا عيب في أن يكون الإنسان هذا وذاك معا، لكن العيب هو في الخلط بينهما؛ لأنك إذا أذنت للجوانب اللاعقلية أن تتسلل إلى ميدان العقل، فقد فسد هو وفسدت هي، وضاع الإنسان ممزقا فيما ليس يجديه، وأعجب العجب أن نجد هذا الخلط على خطورته شائعا بيننا شيوعا يسترعي النظر، فما قد قصد به إلى حياة الوجدان، يحاول بعضنا أن يقحمه في منطق العقل؛ أي أن يقحمه في ميدان العلم، حاسبا بأن ذلك تشريف له وتعظيم وتأييد، مع أن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن صاحب محاولة كهذه غير واثق في كفاية وجدانه، فأراد أن يبحث له عن دعامة من خارجه لئلا يسقط وينهار.
ولنجعل خاتمة حديثنا هذا، القول بأن غاية الغايات التي ينشدها إنسان لنفسه - فيما أعتقد - هي أن يكون كائنا حرا، وهذه الحرية النفسية إنما يوصل إليها عن الطريقين كليهما: العلم والوجدان؛ فبالعلم نعرف قوانين الظواهر الطبيعية فنمسك بزمامها لتكون طوع ما نريده منها، إننا بالعلم نحطم قيود المكان والزمان المفروضة علينا بحكم الفطرة، فإذا كانت الفطرة تقضي على الساقين أن تتحركا بسرعة معينة، وإذا كانت الفطرة تقضي على صوت الحديث ألا يبلغ إلا إلى مدى قصير يقاس بالأمتار، وإذا كانت فطرة الجسد كله تقضي بأن ينجذب نحو الأرض لا يجاوز غلافها فإننا بإلجامنا لقوانين الطبيعة نطير، ونبلغ صوتنا أقاصي الأرض، ونخرج من قيد الأرض وجذبها، إننا بالعلم نزرع الصحراء، ونغير مجرى النهر، وننزل المطر ونقاوم المرض، فنفك بهذه القدرات وأمثالها القيود التي تشدنا إلى مكان بعينه وفي حدود فترة زمنية معلومة هي أعمارنا المسرفة في قصرها إذا نسبناها إلى الخلود الذي نسعى إليه.
وبالوجدان نفك قيودا أخرى لنتحرر، فالتسامي فوق حدود الأنانية الضيقة، والترفع - إذا شاءت عزيمتنا - عن قيود الحاجة، كالصوم حينا عن الطعام والشراب، والإنفاق في سبيل الخير العام، وما إلى ذلك من نواح في حياتنا نهتدي فيها بوحي من إيماننا، كل ذلك ضروب من الحرية تحققها لنا نوازع أخرى في قلوبنا غير نوازع العقل ومنهجه.
والحرية بشقيها: ما يتحقق منها عن طريق العلم بقوانين الطبيعة وقوانين السلوك الإنساني، وما يتحقق منها عن طريق الوجدان والإيمان، أقول إن تلك الحرية بشقيها، لعلها هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.
अज्ञात पृष्ठ