ومن غير شك فإن بودلير لم يكن مخربا ولا ساقطا بالمعنى الذي نفهمه من روح السقوط والتخريب، فقد يكون شهوانيا متطرفا خلع عذاره وانهمك في عبادة جديدة قوامها التحليل النفسي؛ ليقيم على الميراث المحزن الذي آل إليه من المرض أو على منوال حياته التي يرثى لها، هذا إلى جانب ما اجتمع لنا من دراستنا في علم النفس “Psychology”
وعلم وظائف الأعضاء “Physiologity”
وثقافة كاتب أخلاقي “Moraslist” .
ونستطيع أن نلمس آثار هذه الثقافات مجتمعة في الصور الشعرية الشاذة التي تمثل الألم والشهوة وتجسد الشر وتنطق الرعب والموت وتهتاج الحس، ثم هذه المشاهد البشعة التي صور فيها الجثث المتحللة وما تفرضه الحياة على جسم الكائن الحي، ثم هذا الإطناب في الجرأة التي تناول بها موضوعاته الشعرية، ولكن عنف عبارته الذي كان من مصادر شقائه في حياته، وهذه الألفاظ النارية التي لم يكن يملك التعبير بغيرها عن اضطراب روحه وثورة نفسه، قد دفعت به إلى حيث لا عذر له، فانظره في موقف من صبية حسناء يغمر ضوء القمر جسمها، فهو لا يتكلم عن الحب بمعناه، ولا عن الجمال بمعناه، وإنما يتخذ من هذا الموقف معرضا لمنطقه الخاص، حين يتكلم عن المرأة، ويعرض للمرأة، ويرى النقاد أن كل ما أسبغه على القمر وضوئه من أوصاف ينصب على المرأة ويصور طبائعها، فهي فاتنة ومفسدة كضوئه المتقلب؛ وهي في تحايلها وإغرائها ودهاء ضعفها ناعمة رخية، تنفذ إلى عقول الرجال وقلوبهم لتنفث سمومها كهذا الضوء أيضا، اسمعه وهو يقول: «ومن ثم شعشع السندس ملء عينيك، وشاع الشحوب الرائع في أديم خديك، أجل فعندما تطلعت إليه انداحت حدقتاك بصورة غريبة، فطوق تحرك بذراعيه المترققتين في حنان بالغ أورثك الحنين إلى الدموع.
وما هي إلا فورة من نشوة فياضة حتى غمر مخدعك بجو مشع من ضوئه الذعاف، ذلك الضوء الخالد الذي هتف من سبحات تفكيره قائلا:
ألا فلترتسم عليك قبلتي إلى الأبد.
وليكن لك مثل فتنتي وجمالي، ولتحبي كل ما أحب وكل ما يحبني من ماء وسحاب وليل وسكون، من البحر الزبرجدي المترامي من الماء المنطلق السيال المتعدد الأوضاع والأشكال، من المكان الذي لن تطرقيه، من العاشق الذي لن تعرفيه، من الزهور التي لم تنبتها الطبيعة، ومن العطور الفواحة المسكرة، ومن القطط المستلقية في تراخ ذات الأصوات العذبة الحاكية لتنهدات النساء.
أجل ولتكوني فتنة عشاقي، وموضع الإجلال من سماري وندمائي، ولتستوي ملكة على عرش من أفئدة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين تحويهم أحضاني كل ليلة، هؤلاء الذين يفتنهم البحر، البحر المتنائي الأطراف ذو اللجة المصطخبة الخضراء، والمكان الذي لن يغشوه، والمرأة التي لن يهتدوا إليها، وأزهار الشر المتوقدة كمجامر كاهن مجهول، والعطور المثيرة المستبدة بالغرائز، والوحوش الضارية التي ترمز شهواتها المشبوبة إلى حماقة هؤلاء المساكين.
والآن ... أيتها الصبية اللعينة العزيزة المشوبة، ذلك ما يدفعني لأن أجثو على قدميك متلمسا فيك صورة الإلهة المروعة، ربة الأرباب القاضية، ظئر السموم لكل صرعي القمر من بني البشر ...
وقد انفرد بودلير من - غير شك - بصور كلها رعب وفزع، وأسلوب عنيف، وتعبيرات توصف بالقبح أحيانا، ولكن الرجل كان صادقا، بل إن معجزته هي تلك الصور والأساليب الشاذة العنيفة؛ وفي هذه التوافه التي أقامها من ذات كلماته يبدو لنا الفن أعظم ما يكون طرافة وإبداعا وأدق وأصدق، لا من حيث التعبير فقط، بل من حيث الفكرة أو الحس الذي نقل عنه أو تأثر به.
अज्ञात पृष्ठ