فابتسم الكاهن تلك الابتسامة الشبيهة بملامس الأفعى ثم قال ممشطا لحيته الكثيفة بأصابعه: «لو كان هذا الشاب صالحا للعمل لما طرده الرهبان؛ لأن أراضي الدير وسيعة وقطعانه لا تحصى، وقد أخبرني مكاري الدير الذي بات عندي ليلة أمس بأن هذا الشاب كان يردد على مسامع الرهبان آيات الكفر مقرونة بألفاظ ثورية تدل على طيشه وخباثته، فقد تجاسر مرات عديدة وخطب فيهم قائلا: «أرجعوا حقول الدير وكرومه وأمواله إلى سكان هذه القرى الفقراء وتفرقوا إلى كل ناحية وذاك خير من الصلاة والعبادة.» وأخبرني المكاري أيضا بأن قساوة التوبيخ وأوجاع الجلد بالسياط وظلمة السجن لم تعد لهذا الكافر صوابه بل كانت تغذي الشيطان القابض على نفسه مثلما تكثر أوساخ المزابل عدد الحشرات.»
فانتصب الشيخ عباس على أقدامه ونظير نمر يتراجع قليلا إلى الوراء قبيل الوثوب بقي ساكتا هنيهة يصر أسنانه وينتفض غيظا، ثم مشى نحو باب القاعة ونادى خدامه بصوت عال فجاء ثلاثة منهم ووقفوا أمامه مستطلعين أمره، فخاطبهم قائلا: «في بيت راحيل الأرملة شاب مجرم يرتدي أثواب راهب فاذهبوا الآن وقودوه إلي مكتوفا وإن قاومتكم تلك الامرأة فاقبضوا عليها وجروها على الثلج بجدائل شعرها لأن من يساعد الشرير يكون شريرا.»
فأحنى الخدام رؤوسهم وخرجوا مسرعين ليتمموا مشيئة سيدهم، وبقي الشيخ عباس والكاهن يتحدثان عما يجب أن يفعلاه بالشاب المطرود وراحيل الأرملة.
6
توارى النهار وقدم الليل ناشرا خيالاته بين تلك الأكواخ المكتنفة بالثلوج، وظهرت النجوم في ذلك الفضاء المظلم البارد ظهور الأمل بالخلود من وراء أوجاع النزاع والموت، فأوصد الفلاحون الأبواب والنوافذ وأشعلوا السراج وجلسوا يصطلون بقرب الموقد غير حافلين بأشباح الليل السائرة حول بيوتهم.
في تلك الساعة بينما كانت راحيل وابنتها مريم وخليل جالسين حول مائدة خشبية يتناولون العشاء طرق الباب ودخل عليهم خدام الشيخ عباس، فالتفتت راحيل مذعورة وشهقت مريم مرتاعة، أما خليل فلبث هادئا كأن نفسه الكبيرة قد تنبأت وعلمت بمجيء هؤلاء الرجال قبيل مجيئهم، فاقترب أحد الخدام وألقى يده بعنف على كتف خليل وقال بصوت أجش: «ألست أنت الشاب المطرود من الدير؟» فأجابه خليل ببطء: «أنا هو فماذا تريدون؟»
فقال الرجل: «نريد أن نسير بك مكتوفا إلى منزل الشيخ عباس وإن أبديت ممانعة نجرك على الثلج كالخروف المذبوح.»
فانتصبت راحيل وقد اصفر وجهها وتجعدت جبهتها وقالت بصوت مرتجف: «أي ذنب أتاه أمام الشيخ عباس ولماذا تريدون جره مكتوفا؟»
وقالت مريم ونغمة الرجاء والاستعطاف تمازج صوتها: «هو فرد وأنتم ثلاثة فمن الجبانة أن تتحالفوا على إذلاله وتعذيبه.»
فصرخ الخادم وقد حمي غضبه: «أيوجد في هذه القرية امرأة تعارض مشيئة الشيخ عباس؟» قال هذا وانتشل من وسطه حبلا متينا وهم ليوثق به كتفي خليل، فوقف الشاب ولم تتغير ملامحه بل ظل رأسه مرفوعا كالبرج أمام الزوبعة وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة ثم قال: «أنا أشفق عليكم أيها الرجال لأنكم آلة قوية عمياء في يد مبصر ضعيف يظلمكم ويسحق الضعفاء بسواعدكم، أنتم عبيد الغباوة، والغباوة هي أشد اسودادا من بشرة الزنوج، وأكثر استسلاما للحيف والقساوة، كنت بالأمس مثلكم أيها الرجال وغدا تصيرون مثلي، أما الآن فبيننا هوة عميقة مظلمة تمتص ندائي وتحجب حقيقتي عنكم فلا تسمعون ولا تبصرون، ها أنذا فشدوا ساعدي وافعلوا بي ما شئتم.»
अज्ञात पृष्ठ