الفقد يعني أن ينفد البحر فجأة، أن تشعر أنه فارغ تماما، لكنك ترى المياه أمامك، كأنك في صحراء ترى السراب، وتعرف أنه السراب، لكنك تشد الخطى إليه؛ أن تختفي الجبال، تهوي أمامك، لكن ملمس حجارتها التي تسلقتها في يدك؛ أن تشعر أن لكل كلمة قيلت معنى، كل ابتسامة كانت ذات مغزى، كل رسالة، كل علبة دواء كانت تخفي حكاية، كل طريق إلى الصيدلية، إلى المستشفى، إلى البحر، ليس إلا دليلا يصلح لتعذيبك. الفقد أن تكون موجودا ولست موجودا، هنا وهناك، فوق الأرض وتحتها، داخل التابوت ومن يصرخ عليه في الخارج، الدافن والمدفون، الضاحك والمضحوك عليه، المغني والأصم الذي لا يسمع لكنه يصفق؛ ألا تكون شيئا، سوى مجرد كتلة من الثلج، تتدحرج بحثا عن هاوية مناسبة لتسقط من فوقها.
4
في الحب مثلا، أنت لا تنام تقريبا؛ لأنك تشعر بحضور الطرف الآخر طوال الوقت؛ قبل النوم وبعده، وفي الحلم، كأن هناك طريقا قطعتماه معا قبل النوم، ثم أكملته أثناء نومك، واستيقظت لترتدي ملابسك، لتكمل ما كان في الحلم. هنا يصبح النوم جزءا من الحياة. الأصح: أنت لا تنام، أنت لا تريد أن تنام، أنت تريد أن تظل مستيقظا دائما تفكر وتتعذب وتحلم بالقرب؛ أما في الفقد فأنت لا تفعل شيئا سوى أن تنام. أنت تهرب من الحياة إلى الموت الأصغر، تريد أن تنام كي لا تتذكر شيئا، لكن هيهات، فكل الأشياء ستطاردك هناك، ستتحول الأحلام إلى كوابيس، والطرق المفتوحة الممتدة إلى أبواب سوداء صماء موصدة، ستضحي الضحكات صراخا، والكلام صمتا، صمتا مؤلما وموجعا كأنه جلدات تهوي على ظهرك فتقسمك اثنين، بعد أن كنت تشعر أنك متوحد مع آخر، لكن ها أنت ترى، كل يمضي في طريق مختلف، وأنت لا تقدر على النطق.
5
في الموت مثلا، أنت تنتظر مكالمة هاتفية، لا تعرف لماذا جاءت، ولا لماذا رددت، ولا لماذا أنت بالذات، لكنك تعرف أنك تنتظرها. ها هي في يدك كالخطيئة. يومك هذا سيتحول إلى نقطة تحول في حياتك، لتظل طوال عمرك تتعذب بالفقد، وبالشعور بالذنب؛ الشعور بالذنب لأنك دائما تتأخر عما يجب أن تفعله؛ الشعور بالذنب لأنك دائما تتأخر أيضا عن احتضان أحبتك، وتقبيل أيديهم. ستقطع الطريق كله في الباص إلى المدينة البعيدة وأنت تفكر في هذا الفراغ الكبير الذي يملؤك، الفراغ الذي تهرول فيه منذ الصباح ولا تصل، لا شيء أمامك، فقط فراغ، وأنت لا تستطيع أن تتوقف. فقط هرول، هرول، هرول أيها الأحمق، لتدرك كم أن الفقد يعذبك. في تلك الغرفة الضيقة، حينما تقف على الباب وتنظر إلى الجثمان المغطى ببطانية ملونة، لن ترى شيئا، ستشعر بأن عظامك تذوب، أن دمك يهبط منك ويملأ الأرض، أنك مجرد جلد فارغ يقف محدقا وعلى خديه تنهمر الدموع. أنت مجرد مانيكان لا شيء داخله سوى الفقد، الفقد فقط.
6
في السفر مثلا، كل شيء سيقودك إلى هناك؛ حتى لو اخترت أن تسكن في مكان بعيد لا يذكرك بغربتك ، حتى لو فضلت أن تظل وحدك حتى لا تملأ حياتك بتفاصيل الآخرين، حتى لو اخترت أن تذوب داخل نفسك بدلا من أن تذوب في مجتمع لا تعرفه. هو الفقد إذن، الفقد الذي ستشعر به عندما يهاتفك صديق، وتسمع ضجيج مقهى في الخلفية، أو صوت بائع متجول، أو عندما يرسل لك صديق رسالة يذكرك بموقف ما حدث بينكما. الفقد يبدأ من اللحظة الأولى، كأنك الأعشى يقول:
هل تطيق؟ أنت قوي، لكنك لا تطيق ولا تقوى ولا تستطيع أن تنسى، حتى إذا تحولت إلى ماكينة تعمل ليل نهار، فثمة شخص ما سيلمس سطح البحيرة بإصبعه لترى الدوائر تتسع وتتسع، حتى تكاد أن تبتلعك دائما.
7
أنت لا تفقد الآخر، أنت تفقد ذاتك. الفقد يعني أن تكون وحيدا منبوذا مطاردا صعلوكا، تتصارع داخلك عشرات المشاعر، فتأوي إلى نفسك التي تطردك وتؤنبك وتعذبك وتلومك. الفقد يعني أن تشعر أن أجزاء جسدك وروحك تتطاير بعيدا عنك، تهرب منك، فتجري وراءها لتطاردها بلا جدوى، وتظل هكذا إلى الأبد فارغا تبحث عما فقدته. الفقد يعني أن تسير على حافة الطريق بأقصى سرعة كمن يريد أن يصل إلى شيء لا يعرف ماهيته، كمن يفر من شيء غير مرئي، تركض مغمض العينين، غير محاذر من المنحدر، فربما كان فيه الخلاص.
अज्ञात पृष्ठ