أنت الآن تعرف السر، تعرف أين تجد نفسك، أين ستسير، وإلى أين ستصل، من ستقابل وماذا ستقول، أي روائح ستتبعها، وأي حكايات تاريخية ستراها تحدث أمامك، أين ستجد نفسك وكيف ستستعيد الطفل التائه منك. فقط أغمض عينيك، ودع الحياة تبدأ.
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
«نوة إسكندرية»، المطر الخفيف الذي يضرب شيش النافذة، يداك في جيبيك ورأسك غائص بين كتفيك وتسير مبتسما، رجل يغطي رأسه بالصحيفة ويهرول تحت زخات خفيفة، ولد يغطي رأسه ويضع في أذنه سماعات يتسرب منها صوت منير: «اللي قضى العمر هزار، واللي قضى العمر بجد، شد لحاف الشتا من البرد.» ابتسامات متبادلة ومحاولة للاختباء أسفل أي شيء في انتظار الباص، مساحات سيارة تروح وتجيء كأنها تلوح للسحاب، النشرة الجوية تنهمر من الراديو لتعلن أن السحب متكاثفة وستمطر غدا مرة أخرى، باعة الآيس كريم في «طلعت حرب»، وأطباق العدس الساخنة في محل منزو في شارع شامبليون، بائع الصحف يغطي جرائده بأكياس نايلون ويختبئ أسفل شجرة، مشهد من فيلم قديم لحبيبين يرقصان تحت زخات المطر، على أنغام موسيقى تختفي وراء صوت تساقط المطر على الأسفلت، كأنها دقات عازف ماهر.
1
هناك ألف سبب لكي تحب الشتاء، وسبب واحد لكي تكرهه وتنسى تلك الأسباب؛ وهو «الموت». ثمة وجه آخر دائما للحقيقة. غائص في سريرك بين أغطية ثقيلة، تحاول أن تدفئ قدميك، وتقبض على كوب شاي ساخن بكلتا يديك، كإعلان تليفزيوني مبهج للشتاء، وتطالع على الإنترنت، أو تشاهد في التليفزيون أخبارا عن أطفال يموتون من الصقيع. لست مهتما بالخلفيات السياسية للأمور، وليس مهما لأية جهة تنحاز، لكنه الشتاء الذي أتى حاملا قناع الموت. يشارك أصدقاؤك صور الأطفال الموتى على فيس بوك وتويتر؛ وجوه مزرقة، وعيون مغلقة، وثلج في كل مكان، ملابس شتوية ممزقة، سماء غاضبة، وموت يرفرف في كل مكان بأجنحة سوداء قاتمة.
2
في الشتاء تحب أن تمشي على البحر، أن تشتري «حمص الشام» من البائع الجنوبي على الكورنيش، أن تلتهمه في صمت، مقتنصا سخونته والمذاقات المتداخلة فيه، فيما تتأمل النار الصاعدة تحت القدر، تستمع إلى «رجعت الشتوية» قادمة من مكان مجهول، لكن الصوت يصل إليك فيدفئك. نساء بمظلات ملونة ورجال بقبعات سوداء، أولاد بمعاطف المطر، وبنات بقفازات ضاحكة، الشوق لشمس الشتاء الخجولة، بائع الخبز يمرق بدراجته سريعا قبل أن تختفي الشمس، وبائع البطاطا الساخنة ما زال واقفا في مكانه. تدرك الآن أن هذا الوقت مناسب جدا للذكريات، للحنين، للبكاء، للضحك، للابتسام، للشجن، لإزاحة الركام عن أحاسيس منسية، مختبئة من حرارة الصيف ورياح الخريف وآن لها أن تخرج، لألف شعور متداخل لا يعني شيئا إلا أننا في الشتاء.
3
أضع صور الأطفال وهم يلعبون بالثلج، بجوار صور الأطفال الذين يموتون، عيونهم مغلقة، والثلج على أفواههم. أتذكر نفسي صغيرا في انتظار بهجة الثلج الذي سيضاف على العصير صيفا، ولوح الثلج الذي أحمله من العربة إلى مدخل البيت، كأني أحمل جمرة من النار. كيف يمكن أن يحمل الثلج كل هذا التناقض داخله؟ الحياة والموت، الظمأ والارتواء، الماء والنار. حكت الشاعرة «إيمان مرسال» ذات مرة عن تفاصيل دفن كانت شاهدة عليها في كندا، وكيف أن الرجال تعبوا كثيرا في إزاحة الثلج وإقامة حفرة للجسد في الأرض، وكيف انفجر جميع من في العزاء باكين عندما تصوروا مشهد جسد المتوفاة تحت ركام من الثلج، «لا بد أن خاطرا لا منطقيا من قبيل أنها ستكون باردة ووحيدة مر بخيال البعض. بدا لي أن الثلج أكثر وحشة من التراب.»
4
अज्ञात पृष्ठ