قالت: «انظري يا بربارة، إني أثق بدرايتك وإخلاصك وثوقا تاما، وهذا أمر لا تجهلينه، ولكني غير قادرة على العمل بذلك، وهل تحسبينني إذا عجز أركاديوس عن إنقاذي أرضى بقسطنطين؟! إني وحب أركاديوس وماله من المنزلة في هذا القلب، إذا تحققت وقوعي بيد قسطنطين وقنطت من أركاديوس فلا شيء يشفي غليلي إلا الطعن بهذا الخنجر.» قالت ذلك واستلت خنجرا مرصعا كانت قد خبأته بين أثوابها، فذعرت بربارة عند رؤيتها الخنجر وقالت: «ما هذا يا مولاتي؟ أتقولين الصدق؟»
قالت: «هذا هو الصدق بعينه يا بربارة، ولكني أعدك أني لا أقدم عليه إلا إذا تحققت وقوع القدر، وأظنك عند ذلك تكونين أكبر مساعد على قتلي؛ لأن فيه خلاصي من عذاب دائم.»
فحاولت بربارة أن تأخذ الخنجر منها فلم تستطع، غير أن أرمانوسة أعطتها عهدا ألا تعمد إلى الإضرار بنفسها إلا بعد فشل كل حيلة، فوافقتها بربارة على نية أن تسرق الخنجر منها في فرصة مناسبة. •••
عرفنا أن البطريق يوقنا كان حاكما على حلب من قبل هرقل إمبراطور الرومانيين، فلما فتح المسلمون الشام تظاهر بالإسلام وسمى نفسه عبد الله وقام لنصرتهم، وهم بين مؤمن بإخلاصه وبين مرتاب فيه، فلما عزم عمرو بن العاص على فتح مصر سار في ركابه متظاهرا بنصرته، وكان عالما بخطبة قسطنطين لأرمانوسة، فحدثته نفسه أن تكون أرمانوسة عند فتح مصر غنيمة له، وكان قد سمع بجمالها، وأسرها في نفسه حتى أتى الفرما، وهو واثق أن عمرا فاتح البلاد لا محالة، ولا بد من وقوع أرمانوسة في الغنائم، ولكنه خاف أن يسبقه إليها أحد فعمد إلى الحيلة، فزور كتابا على لسان قسطنطين يطلبها كما قدمنا، ثم جاء بنفسه إلى بلبيس، وترك جند عمرو مشتغلا بحرب الفرما، معتقدا أنه يتمكن بحيلته هذه من الذهاب بأرمانوسة بعد القبض عليها، قبل وصول عمرو إلى بلبيس، وكان يظن أن عمرا سيمكث في الفرما زمنا طويلا، فلما جاءه كتاب المقوقس يوافقه على حمل أرمانوسة، بعث برسول يطلب مجيئها إليه، وبعث إلى حاكم المدينة ليسرع في ذلك، فأجابه أن السيدة أرمانوسة مريضة، فعزم على أن ينتظر شفاءها، ولكنه علم تلك الليلة أن عمرا قد فتح الفرما، ولا يلبث أن يأتي بلبيس فخاف إذا أبطأ هو في أخذ أرمانوسة أن تذهب حيلته ضياعا، فأرسل في صباح الغد كتابا إلى الحاكم شديد اللهجة يطلب منه سرعة الخروج بأرمانوسة في ذلك اليوم، وأنه إذا أبطأ في إجابة طلبه عمد إلى القوة.
فبعث الحاكم إلى أرمانوسة وأطلعها على طلب يوقنا، فاتفق رأي بربارة وأرمانوسة على أن تخرجا إلى معسكر يوقنا، وأن تستمهلاه بضعة أيام قبل السفر، ولم تعلما بما عزم عليه من الإسراع، فأقيم الاحتفال، وخرج الحاكم بأرمانوسة من قصره بالشموع والصلبان، واصطفت الجنود على الطرق، وصدحت الموسيقى، ورتل المرتلون، وأخرجوها كما يخرجون العروس في موكب العرس، فسارت أرمانوسة تجر ذيل ثوبها، وبربارة إلى جانبها، والقسيسون أمامها بالملابس الرسمية والمباخر والصلبان، حتى خرجوا من المدينة، فإذا بيوقنا قد خرج من معسكره برجاله محتفيا بها، حتى اقترب منها فأخذ بيدها وأدخلها خيمة خاصة بها، فدخلت وتظاهرت بالتعب والضعف، فتركوها في الخيمة مع جواريها وبربارة، وتركها الحاكم بعد أن ودعها وعاد برجاله، ومكثت هي في الخيمة، وانفردت ببربارة وقد اسودت الدنيا في عينيها، وعظم الأمر عليها، وخيل إليها أنها أصبحت في القفص، ولم يعد لها مفر منه، وكانت بربارة تعزيها بأنها أرسلت رسولا مستعجلا إلى أركاديوس، سيصل بعد يومين، ثم لم تمض برهة حتى سمعت ضوضاء فخرجت فرأت يوقنا قادما بنفسه، وقد لبس الثياب الرومانية وتظاهر برومانيته، وطلب مقابلة أرمانوسة فأذنت له، فدخل، فحالما رأته تشاءمت من منظره، ولا سيما لأنه رسول قسطنطين، لكنها تجلدت وتظاهرت بالضعف والتعب، وكانت مستلقية فجلست، فجلس بين يديها يتلطف ويواسي وقال: «بماذا تشعر سيدتي؟ أرجو أن تكون في خير.» قالت: «لا أزال أشعر بالضعف.»
قال: «وقاك الله من كل شر يا سيدتي، ها أنا ذا أحمل سلاما إليك وإكراما من مولانا ابن الإمبراطور.» فلم تجبه، فحمل ذلك منها محمل الحياء، وهو لا يعلم ما تضمره وقال لها: «أرجو أن تتحسن صحتك قريبا بإذن الله، ولا سيما عندما تخرجين من هذه المدينة.»
قالت: «ولكنني لا أستطيع الركوب والسفر قبل بضعة أيام.»
فقال: «أرى الإسراع في المسير أولى؛ لأن سيدي ابن الإمبراطور ينتظر قدومك بفروغ صبر على سفنه، وقد أعد لك كل ما تقر به عيناك.»
فأمسكت عن الجواب وهي لا تدري بماذا تجيب، فلاحظت بربارة التغير في وجهها فابتدرته قائلة: «ألا ترى أن سيدتي خائرة القوى لا تستطيع الركوب؟»
قال: «نعم، أرى ذلك، ولكنها ستحمل في الهودج على أكتاف الرجال، فلا تشعر بشيء من التعب.» قالت: «ألا تظن أن حر الطريق يضر بصحتها؟»
अज्ञात पृष्ठ