ثم جيء إلى يوقنا بجواد ركبه وركب معه بعض رجاله، وخرجوا للقاء العرب، فلبث مرقس واقفا ينظر إلى موكب يوقنا ذاهبا، وجند العرب يتقدم حتى انكشف الغبار عن جند عظيم يتقدمهم الفرسان على خيول عربية تسابق الرياح، والأعلام تخفق فوق رءوسهم يحملها القواد، وفي المقدمة رجلان على هجينين فعلم أنهما الدليلان يقودان الجند، ومن ورائهما الفرسان، وفي مقدمتهم فارس على جواد من خيل اليمن، وعليه العدة والسلاح، وفي ركاب الفرسان جماعة من العبيد يسوسون الخيل، فلما التقى الفريقان ترجل يوقنا، وترجل فرسان العرب، وتقدم يوقنا إلى كبيرهم وتصافحا وتعانقا، ثم سلم على الآخرين وعاد معهم وقد أخذ كبيرهم بيده، فسأل مرقس عن اسمه فعلم أنه البطل الشهير عمرو بن العاص، وكان قد سمع به كثيرا، فتفرس فيه جيدا، فإذا هو قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كأن بها الذهب يأتلق، ومنها حلة وعمامة وجبة، وقد أحاط به وبيوقنا رجال من كبار العرب يهللون ويكبرون، فتنحى مرقس جانبا ليرى مقدار الجند، فإذا بهم يملئون الصحراء، وفيهم الفرسان والهجانة والمشاة وحملة الأعلام، وقد لبس كبارهم العمائم الخضر، وتقلدوا السيوف والخناجر، وأما المشاة ففيهم نقلة الرماح والنبال، ثم أخذوا يتفرقون كل جماعة إلى ناحية يتقدمهم علم خاص بهم، ينصبون الخيام ويضربونها، وأول خيمة ضربت فسطاط الأمير، وهو خيمة كبيرة مبطنة بالحرير الأحمر نصبوها على أعمدة من القصب الهندي، وضربوا أطنابها وفرشوا أرضها بالبسط والطنافس وهيئوها لاستقبال الأمير. أما عمرو فسار مع يوقنا حتى دخلا خيمته للاستراحة، فلبث مرقس ليشاهد بقية الجند، وقد أراد أن يعرف مقدارهم فعلم أنهم يزيدون على أربعة آلاف، وبعد أن تفرق الجند فرقا ونصبوا الخيام جماعات، وصلت جمال الساقة ومعهم الهوادج والأحمال، وفي الهوادج النساء والأولاد، وهم يصيحون.
وتحول مرقس إلى خيمة الأمير فرآها قد شغلت بقعة كبيرة من الأرض، ولكنه لم يشاهد في فرشها كرسيا ولا مقعدا كما كانت الحال بخيام الروم إذا نزلوا، وشاهد أمام الخيمة علما هائلا عليه رسوم كأنها كتابة باللسان العربي لم يفهمها. أما جند الروم فكانوا يهللون ويرحبون بجند العرب كأنهم كانوا على موعد ، ففهم من ذلك أنهم كانوا في انتظار وصولهم.
ثم تحول نحو خيمة يوقنا فرأى عمرو بن العاص قد خرج منها وسار نحو خيمته يصحبه كبار قواده، فاقترب منها جهده فإذا بعمرو قد جلس في صدرها على وسادة من الحرير، وقد وضع السيف على فخذه، وإلى كل من جانبيه رجال من العرب في مثل لباسه، ويوقنا بين يديه يرحب به، وبينهما ترجمان كان قد شاهده مع عمرو يحمل العلم، ثم علم أن اسمه «وردان» إذ سمع عمرا يدعوه به.
وبعد هنيهة سمع قراءة باللسان العربي وترتيلا، فنظر فرأى رجلا عربيا جالسا في بعض جوانب الخيمة يقرأ عن ظهر قلبه بنغم مطرب، والناس جلوس ووقوف يصغون ويطربون لسماع ذلك النغم، ثم التفت بغتة إلى من حوله فإذا بالرجل الذي كان قد شاهده بالأمس واقفا إلى جانبه، فأراد أن يخاطبه، فسأله عن اسم الرجل الجالس في صدر المكان فقال باليونانية: «هو الأمير عمرو بن العاص.» فأدرك مرقس من لهجته أنه دخيل على اللسان الرومي، فخاطبه بالقبطية وسأله عن ذلك الترتيل فقال: «إنهم يتلون كتابا عندهم اسمه القرآن، وهي عادة يتبركون بها.» فأدرك مرقس أن اللسان القبطي أيضا ليس لسانه، فرغب في الاستفهام عن حاله فقال له: «وبأي لسان يقرءون؟» قال: «باللسان العربي» فقال: «وهل تفهم لسانهم؟» قال: «نعم أفهمه جيدا، وهو لساني، وأنت ما لسانك؟» فقال: «إني من جند الروم.»
قال: «ولكنني أراك تتكلم القبطية، وملامحك قبطية، فهل أنت من أهل مصر؟» فاضطرب مرقس عند ذلك وخاف أن ينكشف أمره فقال: «قلت لك إني من جند الروم وفيه من سائر الملل.»
فتبسم الرجل وقال بالقبطية همسا: «ولكن قل ولا تخف الحقيقة، إني لا أريد بك سوءا، ولعلك إن صدقتني تنال خيرا»
فتحير مرقس ولم يعلم بماذا يجيبه وسكت لا يتكلم.
فأدرك الرجل أنه يراوغه ويريد إخفاء أمره، فأعاد سؤاله قائلا: «قل ولا تخف، فإنني أعرفك، ولو أخفيت حقيقة حالك ما خفيت علي.»
فقال مرقس: «وأظنني أعرفك أيضا وكأنني رأيتك قبل هذا اليوم في الإسكندرية.»
فقال الرجل: «أنت إذن مرقس تابع المقوقس.» فاختلج قلب مرقس في صدره وخاف عاقبة الأمر، فقال له الرجل: «لا تخف، إني لك نصير، فهل عرفتك أم أنا مخطئ؟»
अज्ञात पृष्ठ