أما بربارة فقد باتت والجنديين في عين شمس على نية التبكير إلى بلبيس، فلما أصبحوا أعدوا المركبة وأطعموا الثورين علفا كافيا، ولكنهم خافوا ألا يكونوا على بينة من طريقهم، فسألوا الشيخ هل يعرف أحد أولاده الطريق؟ فقال: «إن ولدي هذا يعرفها جيدا، وكثيرا ما ذهب لابتياع بعض الأقمشة وبيع ما يفيض عندنا من غلة أرضنا.» ثم ناداه فحضر فقال: «عليك يا ولدي بمرافقة أصحابنا إلى بلبيس راكبا الثور أبيس فتصل بهم إليها ثم تعود بلا إبطاء لئلا نقلق عليك.»
فلما سمع مرقس اسم أبيس تذكر اسم العجل الذي كان المصريون يعبدونه قديما فقال: «أراك دعوت ثورك باسم إله المصريين القدماء.» فضحك الشيخ ثم قال: «إنما دعوناه بذلك لحكاية غريبة اتفقت لنا وكانت سببا لنفع عظيم.»
قال: «وما هي حكايته؟» فقال: «إن هذا الثور قوي العضل، قد عودناه المناطحة ففاق جميع الثيران، ولا يخفى عليكم أن مناطحة الثيران عادة قديمة في هذه البلاد ولكنها نادرة اليوم، أما هذا الثور فقد حافظ على تقاليد أجداده من إتقان هذا الفن، فاتفق أن بعض الناس ممن يأتوننا للمبادلة على الغلة بالكرم كان عندهم ثور مناطح، وكانوا معجبين ببطشه، فطلبوا إلينا أن نراهنهم على مناطحته ثورنا فراهناهم على بقرة نأخذها منهم إذا غلب ثورنا أو نعطيهم غلة نخيلنا هذا العام كلها إذا غلب ثورهم، فقبلنا الشروط، وتناطح الثوران، وكانت الغلبة لهذا الثور؛ إذ كسر قرن ثورهم، واستولينا على البقرة، ودعوناه من ذلك الحين «أبيس» إشارة إلى براعته في المناطحة مثل أجداده ثيران المصريين القدماء.»
فعجب الجنديان لهذه الحكاية، ثم أسرع المسافرون بالرحيل بعد أن تناولوا شيئا من الطعام، وحملوا معهم التمر الجاف يتناولونه في أثناء الطريق إذا جاعوا؛ لئلا يمتنع عليهم الطعام في طريقهم، وملئوا قربتين من الماء، وساروا يتقدمهم ابن الشيخ راكبا الثور أبيس وقد كممه لئلا تخطر له المناطحة في الطريق مع الثورين الآخرين، وودعوا الشيخ والقرية وساروا.
وما انفك الجندي مرقس منذ برحوا الحصن في شغل شاغل، وكان قد تمنى عند خروجه من الحصن ألا يجد المقوقس في عين شمس رغبة منه في الشخوص إلى بلبيس لحاجة في نفسه بالقرب منها، ولكنه أسرها ولم يخبر بها أحدا، فلما جاءوا عين شمس وعلموا بإقلاع المقوقس سر كثيرا، وعند ركوبهم في الصباح عزم على أن يمر بالبلدة التي له فيها ذلك الغرض دون أن يعلم رفيقه.
فساروا سحابة يومهم، وبربارة قلقة خوفا من تأخر الرسالة، فلما كانت الظهيرة وقفوا للاستراحة والغداء بالقرب من مزرعة لبعض الفلاحين، فيها ساقية تظللها جميزة كبيرة، ثم نهضوا وواصلوا سيرهم حتى أدركهم المساء وهم على مسافة طويلة من بلبيس، فأرادت بربارة أن يواصلوا السير حتى يصلوا إليها ولو ليلا، فقال مرقس: «الأفضل أن نبيت الليلة في هذه البلدة ونصبح بلبيس في الغد؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر.» فاستحسن الرفاق رأيه وعرجوا على بلدة بالقرب منهم، وطلبوا مبيتا في منزل قسيسها فرحب بهم وبخاصة لما عرف أنهم من جند المقوقس، فنزلوا عنده، وأقامت بربارة في دار النساء فبالغن في إكرامها وهن لا يعرفنها، أما صاحب أبيس فاستأذنهم في العودة لاستغنائهم عنه فأذنوا له وحملوه السلام لوالده. •••
سر مرقس كثيرا لنجاحه في مأربه، وما كادوا يصلون إلى بيت القمص حتى ترك رفيقه هناك وسار إلى طرف البلدة الآخر، حتى بلغ منزلا على ترعة صغيرة، وقد خيم الغسق، ووجد الباب مقفلا وعليه بعض الجند، فلم يعبأ بهم بل طرق الباب طرقا خفيفا فناداه مناد من الداخل: «من الطارق؟» فأجاب: «أنا مرقس، افتحوا!» وكان ينتظر منهم أنهم حالما يسمعون صوته يتهللون فرحا، ويبادرون إلى الباب يرحبون بالقادم، ولكنهم تباطئوا وسمع لغطا وبكاء، ثم فتح الباب وإذا بصاحب البيت وهو رجل شيخ يخرج وفي يده مصباح، فلما رآه مرقس سلم عليه وهم بتقبيل يديه، فقبله الشيخ في عنقه، فشعر مرقس بدموعه تتساقط فبغت ونظر إليه وسأله عن سبب ذلك فقال: «ادخل يا ولدي لأنبئك بما جرى.» فدخلا إلى غرفة الاستقبال وأقفلا الباب وراءهما، فإذا بامرأة جالسة حزينة، ومنديلها بيدها تمسح به دموعها، فازداد ذهوله وألح في السؤال عن السبب وقال: «ما بالك يا خالة؟ ماذا جرى لكم؟ وأين هي مارية؟» فقالت المرأة وقد علا بكاؤها: «وأية مارية تعني يا ولدي؟» فأجاب وقد بغت: «أية مارية؟ أين هي مارية؟ قولي لي.» قالت وقد خنقتها العبرات: «إن مارية يا ولدي سيأخذونها بعد يومين، ولن تراها عيوننا. آه منهم.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فصاح مرقس وقد ثارت فيه الحمية: «وإلى أين يأخذونها؟ ومن هم؟»
قالت: «سيأخذونها منا ويقدمونها ضحية للنيل يا ولداه.»
فعلم مرقس أن الاختيار قد وقع عليها في هذه السنة لتلقى في النيل كما هي العادة عند المصريين؛ إذ كانوا يلقون كل سنة في النيل فتاة بحلاها استدرارا للغيث ورغبة في الفيضان، وتحقق لديه أن حبه لها وخطبته إياها قد ذهبا أدراج الرياح، ولكن الحب غلب عليه فنادى بأعلى صوته: «إنهم لن يأخذوها، وإني لأفتديها بروحي ومالي. أريد أن أراها الآن.»
अज्ञात पृष्ठ