فلما سمعت بربارة ذلك اختلج قلبها في صدرها من الفرح، وأحبت أن ترى المخبر فقالت: «إن الخبر إذا تحقق كان من الأهمية بمكان؛ إذ يترتب عليه عودة سيدتي أرمانوسة إلى منف.»
فقال جرجس: «هل تظنين أنها تحزن إذا مات قسطنطين؟»
قالت: «لا أدري يا سيدي، فقد تحزن لأن اقترانها بابن إمبراطور الرومان شرف عظيم، ولكن الله يفعل ما يشاء، وأود كثيرا أن أعرف الحقيقة؛ لأن أرمانوسة سيدتي وأنا وصيفتها، ويهمني هذا الخبر كما يهمها، فهل أستطيع لقاء هذا الرجل؟ وأين هو؟»
فقال الشيخ: «لا أعرف، ولكنه كان هنا منذ بضعة أيام وقد سافر لزيارة بعض الأديرة، ولا أدري أين هو الآن، على أن الخبر كان صحيحا فلا أظنه يخفى على مولانا المقوقس والمواصلات جارية بينه وبينهم، والجواسيس منبثة في سائر الأنحاء، ويغلب على ظني أن العرب أشاعوا هذا الخبر تثبيطا لعزائم الروم، وعلى كل حال فلا خفي إلا سيظهر.»
وبينما هم في الأحاديث إذ جاء أحد أبناء الشيخ حاملا علبة من الخشب قدمها إلى الشيخ وفيها شيء من الخمر المصنوعة من التمر، فتناولها الشيخ وأعطى الجنديين إياها قائلا: «إليكما قليلا من الخمر فإنها من بقايا غلة نخيلنا هذا العام، وهي لذيذة.» فتناولا العلبة وشربا قليلا وأعطيا الشيخ فشرب.
ثم قال الغلام: «إن الطعام قد حضر، فهل تتفضلون بتناوله؟» فنهض الجميع وكان الجوع قد أخذ منهم مأخذا عظيما، وعادوا إلى البيت فإذا بمصطبة صغيرة قد مد عليها سماط بسيط عليه بعض الأطعمة في آنية من خشب الجميز وأقداح من الخزف وبعضها من الخشب أيضا فيها بعض الخمر، والمصطبة مصنوعة من الخزف الملون، وقد مد فوقها سقف من جذوع النخل وسعفه، قائم على دعائم من خشب السنط.
وجعل الشيخ يعتذر لضيوفه عن تقصيره في ضيافتهم، فتناولوا ما حضر وقضوا هزيعا من الليل في الأحاديث إلى أن جاءهم النعاس فناموا. •••
فلنتركهم نياما ولنذهب بالقارئ في رفقة موكب المقوقس إلى بلبيس. أما الموكب فكان مؤلفا من عربة المقوقس وهودج أرمانوسة، ورجال الحاشية وفيهم الراكب والراجل، وكان يحمل الهودج ستة من العبيد: أربعة من الوراء واثنان من الأمام، ووراء المركبة رجل يحمل مظلة من ريش النعام. ومركبة المقوقس يجرها فرسان من جياد الخيل عليهما السروج الفضية يقودهما سائسان في زي خاص بهما، وكلما مر الموكب بقرية أو بلدة خرج أهلها لاستقباله بالزهور والرياحين، وكانوا قد برحوا عين شمس في الفجر على أن يدركوا بلبيس مساء ذلك اليوم، فمالت الشمس نحو المغيب وقد أشرفوا على بلبيس، وهي قائمة على أرض مرتفعة قليلا، وفي منتصفها قصر شامخ أعدوه لاستقبال العروس، وما دنوا من المدينة حتى خرج حاكمها وجندها ورجال حكومتها بالأزهار والموسيقى فاستقبلوا الموكب، وتقدمت جماعة من الجواري تتقدمهن نساء الحاكم بأكاليل الأزهار إلى خارج السور، فرافقته حتى اقترب من القصر فأنزلن العروس من هودجها، ودخلن الحديقة بين عزف الموسيقى وترتيل المرتلين، حتى وصلن إلى القاعة المعدة لاستقبالها، وهي مفروشة بأحسن الأثاث من الخز والديباج، ومزينة بأحسن الرسوم، ثم جاءت جواريها يعددن لها ملابسها لتغيير ثياب السفر بعد أن قدمن لها المرطبات والمنعشات، وكانت امرأة الحاكم تعد نفسها سعيدة لنزول تلك الضيفة عليها.
أما الحاكم فاستقبل المقوقس وحاشيته وأنزلهم على الرحب والسعة، وقد أووا إلى الفراش مبكرين التماسا للراحة من وعثاء السفر، وفي الصباح أوصى المقوقس حاكم بلبيس خيرا بابنته وودعها على أمل اللقاء قريبا، فبكت هي لفراقه بكاء مرا، خوفا من أن يكون الوداع الأخير لعلمها ما هي فيه وما أعد لها من الشقاء، وجلست بعد سفره وحيدة تفكر في حالها، وقد هاج بلبالها، وهي لا تستطيع بث شكواها لأحد وشعرت بافتقارها إلى بربارة خادمتها الأمينة إذ كانت لا تعلم بما جرى لها بعد دخولها الحصن، ولما تصورت الحصن تذكرت أمرها مع أركاديوس وقسطنطين، فاشتد عليها الحزن حتى بكت وهي تحاذر أن يراها أحد.
قضت سحابة ذلك اليوم في تلك الهواجس لا يهدأ لها بال، ولا تنفك مطلة تارة من هذه النافذة وطورا من تلك، تنتظر مجيء بربارة، وتحسب شجر النخيل عن بعد أشباحا آدمية لفرط قلقها.
अज्ञात पृष्ठ