وشبت الثورة في حريق هائل قلب الطبلية، وأطفأ المصباح، وسمع الجيران طقطقة حطبها حين علا صوته في زئير مرتفع: علي الطلاق ما انتي نايمة في بيتي.
وباتت الحاجة وابنتها عند الجيران وقبل الشروق كان القطار يحمل الأم وحدها إلى البلد، ولو كان للبنت مكان في دار أخيها لحملها هي الأخرى.
كان رمضان في نفس الوقت يتسرب من الحارة، وهو يتلفت حوله حتى لا يراه أحد، وحين قابله أبو سلطان وصبح عليه غمغم بتحية قصيرة، ورأسه منكس، وأقدامه تسعى في عجلة حتى يتوارى عن الأنظار. وكذلك فعل مع عبد الرازق بائع الجرائد، والحاج محمد الفوال، وكل الوجوه التي يعرفها والتي لا يعرفها. كانت أقل حركة فيها سره، والكلمة الواحدة فيها إشارة واضحة، والضحكة فيها سخرية منصبة عليه، كل الناس يعرفون حتى الواقف بجانبه، المتعلق معه في عامود الترام، حين زغر له بعينه والترام يميل، كان يعرف هو الآخر.
ومضى إلى صرة الميدان كالريح وهو يتمنى أن يشف ويشف حتى لا يراه أحد.
وبدأ العمل.
ومن لحظتها بدأ يحس أنه واقف في الوسط كالواجهة الزجاجية يتطفل عليه كل غاد ورائح. ويحاول كل محدق وناظر أن ينكش سره الباتع، وخيل إليه وهو يحاول ضم ضفتي نفسه ليحكم إغلاقها أن الناس يضعون عيونهم وأنوفهم بين ضفتيها، حتى تبقى مكشوفة مفتوحة. ودعاه فشله إلى صب جام غضبه على الناس، وقضى اليوم بطوله يدون المخالفات، ويهدر بأوقح الألفاظ، ويزور مركز البوليس جانيا ومجنيا عليه، وكان يومه حافلا. •••
وتلقف الميدان من ساعتها رجلا كئيبا غريبا، لا يفك وجهه الأسمر الجاف إلا ليعقده، ولا يتكسر صمته بكلمة تائهة عابرة إلا ليعود إليه الصمت يلون سمرته، ويرتعش له شاربه الذي نماه وشوشه، حتى غدا كحزمة متنافرة من عشب شيطاني.
وميدانه تحول ميدان رعب، وهو أصبح «بعبع» السائقين تخفق قلوبهم، وهم يمرون أمامه - وما أقل ما يمرون - ويتندرون بينهم وبين أنفسهم على الجاويش الأسمر أبي شوارب، وخشونته وسلاطة لسانه، وحقده المرير على كل امرأة سولت لها نفسها أن تقود عربة، أو حتى تعبر الميدان.
ثم امرأته.
آه من امرأته!
अज्ञात पृष्ठ