مقدمة
1 - معان وألقاب
2 - أساطير ومعتقدات
3 - حياة النبلاء
4 - الأثر والموروث
5 - اضمحلال الأرستقراطية
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
1 - معان وألقاب
2 - أساطير ومعتقدات
3 - حياة النبلاء
4 - الأثر والموروث
5 - اضمحلال الأرستقراطية
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الأرستقراطية
الأرستقراطية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ويليام دويل
ترجمة
زينب عاطف
مراجعة
هاني فتحي سليمان
إحياء لذكرى ديريك ووترز؛ أحد النبلاء بالفطرة.
مقدمة
نحن نستخدم طوال الوقت كلمتي «أرستقراطية» و«أرستقراطي»، ونميل إلى استخدامهما في وصف المجموعات أو المؤسسات أو السلوكيات التي نراها متفردة وراقية ومفاخرة، وفي أغلب الأحيان ثرية. وفي أحيان كثيرة، يكون هذا الاستخدام مقرونا بنبرة إعجاب. هذه الدلالات مستمدة من مزاعم ظهرت منذ وقت طويل على يد النخب الاجتماعية التي سيطرت على المجتمعات الأوروبية وأنظمة السلطة منذ العصور القديمة وحتى وقت قريب نسبيا. في أوروبا، توجد آثارهم في كل مكان من حولنا، ونحن نتعرف على هذه الآثار بالغريزة، بل وأحيانا نعتز بها، رغم أننا لم نعد نمنحها الاحترام المطلق الذي كان أصحابها يطالبون به في وقت ما.
كان الهدف من هذه الآثار عادة هو التأثير في الآخرين. وهي ما زالت تؤدي هذا الدور، رغم أن الجمهور المستهدف من التابعين قد اختفى منذ وقت طويل. ومع هذا، فإن واجهاتها الواثقة عادة ما تخفي أكثر بكثير مما تظهر؛ فقد كانت الهيمنة الأرستقراطية دوما أكثر تقلقلا وأقل ثقة مما كانت تحب أن تبدو عليه. كذلك كان السلوك الأرستقراطي أقل صلاحا وخلوا من العيوب مقارنة بالمبادئ النبيلة التي يفترض أنها توجهه. في الواقع، تاريخ الطبقات الأرستقراطية عامر بخرافات تخدم مصالحها الشخصية، أظهر غير المنتمين لهذه الطبقات استعدادا مثيرا للدهشة لتقبلها دون نقدها. وقلما تقدم نتائج الأجيال الجديدة من الأبحاث والدراسات التاريخية مبررا للاستمرار في القيام بهذا. وهذا الكتاب الصغير - القائم على سنوات من التدريس والكتابة عن الأرستقراطيين وأساليبهم - يسعى إلى دمج هذه النتائج في دراسة مستقلة عن كيفية تنظيمهم لأنفسهم وممارستهم للسلطة، وفي النهاية عن كيفية فقدانهم لهذه السلطة.
يتتبع الفصل الأول تاريخ مصطلح الأرستقراطية وتطوره، ويحاول تقديم عناصر تعريف موضوعي لها، أما الفصل الثاني فيدرس وجهات النظر الشخصية للأرستقراطيين أنفسهم. هذا ويدور الفصل الثالث حول معايير السلوك الأرستقراطي، في حين يسلط الفصل الرابع الضوء على بعض الطرق التي أثر بها الأرستقراطيون بمبادئهم وسلوكياتهم على باقي أفراد المجتمع غير المنتمين لطبقتهم الاجتماعية. إن أهم شيء بشأن الطبقات الأرستقراطية - من منظور القرن الحادي والعشرين - هو أنها قد اختفت، وكذا تأثيرها، إلى حد كبير، وعليه يدور موضوع الفصل الأخير حول كيفية حدوث هذا، رغم أنها - على مر القرون - واجهت كثيرا من التحديات الأخرى وتغلبت عليها.
الفصل الأول
معان وألقاب
ظهرت كلمة أرستقراطية لأول مرة في بلاد الإغريق قديما. لم تكن تعني في الأصل مجموعة من الأفراد، بل أحد أشكال الحكم: حكم الصفوة. لكن، من كانوا هؤلاء الصفوة؟ (1) من دستور إلى طبقة اجتماعية
اعتقد أفلاطون (في كتابه «الجمهورية») أن أفضل الناس هم أكثرهم خبرة في تحديد المصلحة العامة والسعي وراء تحقيقها. يعرف هؤلاء باسم «الوصاة»، وهم الحكام والقادة المحترفون. وعليه، يحصل هؤلاء على تدريب طويل ودقيق، ولا يحصلون على أي ممتلكات كبيرة قد تدفعهم إلى السعي وراء مصالح شخصية بدلا من المصلحة العامة. كان معظم هذا الكلام نقدا ضمنيا لأسلوب الحكم الفعلي في الدول المدن في عهد أفلاطون. إلا أن تلميذ أفلاطون الشهير، أرسطو، لم ير أن هذه الجمهورية عملية، وفضل تقديم الوصف بدلا من تقديم العلاج، وقدم تعريفا للأرستقراطية بناء على ملاحظاته. لقد وصفها بأنها أحد أشكال الحكم «يحكم فيه أكثر من شخص، ولكن ليس كثير من الأشخاص ... وقد أطلق عليها هذا الاسم؛ إما لأن الحكام هم أفضل الرجال، أو لأنهم يعملون على تحقيق مصالح الدولة ومواطنيها.» وعليه فقد كانت الأرستقراطية حكم الأقلية الفاضلة، ولكنها انحرفت بسهولة لتصبح مجرد حكم الأقلية «عندما أصبح هدفها الاهتمام بمصالح الأغنياء فقط.» وفي نظام حكم الأقلية المتطرف تعمد الطبقة الحاكمة إلى «الاحتفاظ بالمناصب في أيديها، ويقضي القانون بأن يخلف الابن والده.» إلا أن أرسطو كان واقعيا؛ فالثراء كان أساسيا من أجل التغلب على إغراء المناصب العامة؛ لذا فإن القضاة في نظم الحكم الأرستقراطية كانوا يختارون «على أساس ثروتهم وجدارتهم». وإذا كانت «الفضيلة هي أساس الأرستقراطية»، فإن هذه الصفة كان يزيد احتمال توافرها لدى المتميزين «في المولد والتعليم»، وكان التميز في المولد يعني الانتماء إلى عائلة «عريقة تتمتع بالثراء والفضيلة».
شكل 1-1: أحد النبلاء الرومان مع أسلافه.
من ثم كان لشكل الحكم الأرستقراطي دلالات اجتماعية واضحة منذ بداية تكوينه؛ فقد ظلت نبالة المولد تميزا يحتفى به لعدة قرون في بلاد الإغريق قبل ظهور أفلاطون وأرسطو. فيصور أقدم الشعراء الكلاسيكيين، هسيود وهوميروس، ابتهاج الأبطال لانتسابهم لنسل الشخصيات الأسطورية، فضلا عن كونهم آلهة. كذلك في روما القديمة كانت السلالات المرموقة أحد أسباب الاحترام والتميز واستحقاق السلطة. وبالإضافة إلى كلمة «أرستقراطية» الإغريقية، فإن المصطلحات التي استخدمها الرومان للتعبير عن التميز الوراثي استمرت طوال كامل تاريخ الحكم في أوروبا والتنظيم الاجتماعي. لقد كانت النخبة الاجتماعية في الجمهورية الرومانية الأولى الأحفاد المزعومين للآباء المؤسسين للمدينة، الذين أطلق عليهم الأشراف. ورغم أن طبقة الأشراف كانت طبقة حصرية ويصعب الانضمام إليها، فإنها لم تتمتع قط بهيمنة مطلقة؛ إذ أجبرت هذه الطبقة بشدة، على مدى قرون النظام الجمهوري، على فتح المناصب العامة والسلطات أمام غير المنتمين إليها، فظهرت طبقة الأغنياء بمرور الوقت كنخبة ثانوية، عرف أعضاؤها بالفرسان. ترجع هذه التسمية إلى أصول نظرية مثل المحاربين الفرسان، ولم يكن هؤلاء من الأشراف، لكنهم كانوا أغنياء بما يكفي لامتلاكهم أشياء باهظة الثمن، مثل الخيل. وبعد صراعات ملحمية في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، حصل أيضا المواطنون العاديون - عامة الشعب - على المساواة السياسية؛ ونتيجة لهذا، أصبح تولي المناصب، والانحدار من سلالة من يتولون المناصب، عنصر التمييز الأبرز. وقد أطلقت الأسر المعروفة بانتمائها لمثل هذه السلالة، بصرف النظر عن نسبها، على نفسها اسم «النبلاء» (لقب نبيل في اللغة الإيطالية معناه «معروف»)، وكانت تحتفظ بأقنعة لأسلافها المشهورين في منازلها، وكانت تجعل الممثلين يجسدون شخصياتهم في المناسبات العامة. كان القنصلان (الحاكمان اللذان ينتخبان سنويا من أجل رئاسة الجمهورية) ينحدران من عائلات نبيلة، فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة. وعندما تنتهي مدة توليهما الحكم، كان القنصلان ينضمان إلى مجلس الشيوخ، وهو أعلى هيئة تداولية في الجمهورية من المفترض أنها تجمع بين المعرفة العامة لجميع المواطنين وخبرة أصحاب المناصب العليا. لم يتجاوز قط عدد أعضاء مجلس الشيوخ ألف شخص، وفي معظم تاريخه كان أقل من ذلك بكثير. وقد جعل هذا عائلات أعضاء مجلس الشيوخ أكثر النخب الرومانية حصرية على الإطلاق. لكن بوجه عام كان الأشراف والفرسان والنبلاء وأعضاء مجلس الشيوخ يرون أنفسهم ببساطة أفضل الناس (الأرستقراطيين). لقد قضى شيشرون، المتعمق في الفكر الإغريقي والمطلع على فكر أرسطو، معظم حياته المهنية في القرن الأول قبل الميلاد وهو يحاول جمع أفضل الناس لتأدية واجبهم في التصدي لموجة الديمقراطية وسيطرة العوام، وهي سلطة ما يعرف باسم الحزب الشعبي. لقد فشل شيشرون في مساعيه، لكن عقب الحروب الأهلية التي كلفته حياته، اعترف أغسطس وخلفاؤه الأباطرة بالنخب التقليدية وبمطالباتهم بالتميز. فإذا كانت طبقة النبلاء واستعراض صفاتها قد اختفيا ببطء عبر قرون النظام الإمبراطوري، فإن هوية الأشراف والفرسان، والأهم من ذلك طبقة أعضاء مجلس الشيوخ، ظلت جميعها على قمة المجتمع الروماني حتى انهياره. وستهيمن الأمثلة والنماذج الرومانية على معظم المناقشات النظرية اللاحقة التي تدور حول معنى طبقة النبلاء والطريقة التي كان يفترض أن تتصرف بها تلك الطبقة.
مع هذا، في أواخر العصور القديمة أطلقت الأسماء المقدسة المستمدة من عصور النظام الجمهوري على جماعات ومؤسسات لا يوجد إلا قدر ضئيل من التشابه بينها وبين نماذجها الأولية البعيدة. لقد أصبحت جميعها تدخل تحت فئة عامة تعرف باسم «رجال الشرف»، وهم «الرجال الأكثر احتراما»، وأدخل الأباطرة الذين جاءوا فيما بعد تقسيمات فرعية وألقابا تفاضلية تدل على رفعة المكانة. كانت هذه سابقة أيضا، لكن لم يحصل إلا لقبان فقط من الألقاب الرومانية المتأخرة على مكان في التسلسل الهرمي للألقاب فيما بعد؛ ففي بداية القرن الرابع حصل قادة الجيش على لقب دوق، في حين كان يعطى لقب الكونت لعدد كبير من الضباط. نقلت اللغة اللاتينية هذه الألقاب وخلدتها عبر عصور وأزمان أعطيت خلالها معاني مختلفة تماما. وخلال ذلك، توقف الاستخدام المعتاد لكلمة «أرستقراطية» لما يقرب من ألف سنة. وعندما ظهرت مرة أخرى، في القرن الخامس عشر، ظلت تعني أحد أشكال الحكم، لكنها كانت تستخدم إلى حد كبير في وصف الدول التي يحكمها النبلاء.
لم يختف قط استخدام كلمة «نبيل»، على الأقل بين رجال الدين اللاتينيين الذين دونوا سجلات العصور الوسطى. لقد استخدموا هذه الكلمة في وصف النخبة العلمانية في أوروبا في فترة ما بعد الكلاسيكية، وهي عائلات كانت تقدر نبالة المولد تماما مثل القدماء. لكن لم يتمتع النبلاء في العصور الوسطى بفضيلة التفكير في المواطنين، التي كان أرسطو وتلاميذه الرومان يعتقدون أنها تميز أفضل الناس. بالطبع كانوا يمتلكون الثروة التي تدعم طموحاتهم، لكن القتال كان أكثر ما يستحوذ على اهتمامهم. كانت النبالة تعني الشجاعة في ساحة المعركة. وانقسم المجتمع إلى ثلاث مجموعات وفقا للوصف التقليدي له الذي ظهر في العصور الوسطى. ونظرا لأن رجال الدين هم من كانوا يدونون هذا التعريف، فقد كانت الوظيفة الرئيسية فيه بطبيعة الحال من نصيب رجال الدين، وهم من يؤدون الصلوات. لكن جاء في المرتبة الثانية بفارق ضئيل للغاية المقاتلون، وهم طبقة النبلاء. أما باقي المجتمع، فقد كانوا ببساطة طبقة عاملة. على أرض الواقع لم يكن هذا التعريف دقيقا قط؛ ففي الوقت الذي تبلور فيه هذا التعريف، كان بالفعل ثمة بعض النبلاء الذين لا يقاتلون، وتزايدت أعدادهم بانتظام على مدار القرون التالية. مع هذا في كثير من الممالك قدم هذا التقسيم الثلاثي للوظائف الاجتماعية مبررا لتنظيم المجتمع رسميا في صورة طبقات يقرها القانون، عادة ما تكون لها أشكالها الخاصة من التمثيل المؤسسي. وظلت وظيفة المحارب عنصرا مهما في تعريف النبلاء وهويتهم منذ العصور الهمجية وحتى القرن العشرين.
وتماما مثل النخب القديمة التي كان النبلاء المتعلمون يشبهون أنفسهم بها، كان النبلاء يفترضون بطبيعة الحال أنهم أفضل الناس. لكن لم يعش إلا عدد قليل منهم في دول أرستقراطية وفقا للتعريف الأصلي. فباستثناء عدد قليل من الدول المدن التي كانت معظمها إيطالية وتحكمها جميعا النخب بالوراثة، مثل الجمهوريات في العصور القديمة، أصبحت معظم الحكومات ملكية في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن الملوك بوجه عام كانوا يعتلون العرش ويسلمونه وفقا لمبادئ الوراثة نفسها التي يطبقها النبلاء، فقد مر وقت طويل حتى رسخت فكرة أنه حتى في ظل وجود حاكم واحد فإن السلطة فعليا تكون مشتركة. حدث آخر إنجاز في عام 1748م عندما تخلى مونتسكيو رسميا عن تصنيف أرسطو للدول؛ إذ أوضح في كتابه «روح القوانين» أن الأنواع الأساسية الثلاثة للدول هي الجمهوريات والممالك والديكتاتوريات. وكانت الأرستقراطية مجرد أحد أنواع النظم الجمهورية، تحكم في ظله الأقلية بدلا من الأغلبية. وقد عرف هذه الأقلية الحاكمة بالنبلاء، لكن المصير الحقيقي للنبلاء يكون في رأي مونتسكيو في النظم الملكية. فهم يلعبون في هذه النظم دورا أساسيا بوصفهم سلطة وسيطة بين الملك والرعية، يحافظون على تطبيق القوانين، ويمنعون انحدار الدولة إلى الحكم الديكتاتوري. وقد كان شعاره الأساسي: «لا نبلاء دون ملك، ولا ملك دون نبلاء.»
مع هذا، بمجرد أن اتضح - على نحو مقنع - أن النبلاء والملوك وحدة واحدة، أصبح من الممكن التفكير أيضا في إسقاطهما معا. فعندما نجح الثوار الأمريكيون في إعلان عدم ولائهم للملك جورج الثالث، عقب مرور ثلاثة عقود فقط على ما كتبه مونتسكيو، وأقاموا الجمهورية، أعلنوا أن أي شكل من أشكال النبالة غير متوافق مع دولتهم الجديدة. كذلك بدءوا يتحدثون عن مخاطر استيلاء «طبقة أرستقراطية» من الأغنياء على السلطة؛ ولهذا حذفوا تمييز أرسطو الدقيق بين الأرستقراطية وحكم الأقلية. وفي نحو عام 1780م، بينما كانت هذه القضية لا تزال معلقة في أمريكا، بدأ المصلحون في الجمهورية الهولندية يتهمون الأقلية في بلادهم بأنهم أرستقراطيون، وهي كلمة لم تكن متعارفا عليها من قبل. وفي خلال بضع سنوات، استخدمها الثوار الفرنسيون في وصف معارضيهم. نشأ هذا الاستخدام من حقيقة أن الثورة الفرنسية كانت قد بدأت كصراع من أجل القضاء على امتيازات النبلاء الفرنسيين وسلطتهم. فأصبحت الأرستقراطية الآن تعني بوضوح أكثر من مجرد أحد أشكال الحكومة؛ إذ أصبحت تعني سلطة مجموعة اجتماعية معينة ومؤيديها. كذلك أصبحت تشير إلى هذه المجموعة بطريقة أكثر تعميما. وفي النهاية أصبح مصطلحا الأرستقراطية والنبالة مترادفين بالكامل بوصفهما مصطلحين وصفيين.
منذ ذلك الحين ظل هذا هو الاستخدام الشائع لهذا المصطلح. يستخدم بعض المحللين أو المعلقين كلمة «أرستقراطية» في التمييز بين مجموعة أوسع من رتب النبلاء؛ حيث يخصون بهذا المصطلح الأقلية الغنية من أصحاب النفوذ المؤثرين أو النبلاء. يمكن استخدام هذا في أنواع معينة من التحليل، لكن بوجه عام يفهم على نطاق واسع (وإن كان ذلك على نحو غير دقيق) أن كلمتي «أرستقراطي» و«أرستقراطية» تشيران تقريبا إلى نفس معنى لفظتي نبيل ونبالة.
يصف هذان المصطلحان النخبة الأوروبية، لكن عندما احتك الأوروبيون بثقافات أخرى حاولوا غريزيا اللجوء إلى تصنيفاتهم الخاصة من أجل فهم ما يجدونه في هذه الثقافات؛ وعليه استخدم مصطلح «الأرستقراطية» أو «النبالة» في وصف حكومات الأقلية والنخبة الاجتماعية خارج حدود أوروبا. مع هذا، في حين يكون جميع الأرستقراطيين من صفوة المجتمع، لا يكون جميع صفوة المجتمع أرستقراطيين، ويجب تعريف الأشكال غير الأوروبية ووصفها وفقا لأسمائها الخاصة، وهو ما يحتاج إلى كتاب من نوع آخر؛ ومن ثم، فإن هذا الكتاب يقتصر على عرض التجربة الأوروبية. ومع هذا، فإن كل شيء نقوله تقريبا على سبيل التعريف سيخضع لاستثناءات، وإن كان يبدو أن ثمة مبادئ عامة معينة تغطي معظم الحالات. (2) النبلاء
كان مصطلح النبلاء يعني دوما التمييز العام، بداية من العائلات «المعروفة» في روما القديمة وصولا إلى أولئك الذين ظلوا يذكرون حتى عام 1944م في دليل جوته السنوي الألماني عن النبلاء، أو حتى يومنا هذا في دليل بوتن الاجتماعي الفرنسي، أو دليل بيورك عن النبلاء، أو دليل الأعيان ملاك الأراضي. لقد كان الجميع يعترفون بتفوق أولئك المنتسبين إلى طبقة النبلاء، سواء أكان هذا الاعتراف يأتي من باقي أفراد المجتمع، أو من نفس الطبقة، أو من السلطات العامة، أو في معظم الأحيان من الفئات الثلاث مجتمعة. لا يوجد أساس موضوعي أو علمي لهذا التفوق. إن تعبير «الدم الأزرق» - الصفة التي ادعاها لأول مرة المحاربون المسيحيون في مملكة قشتالة في العصور الوسطى، ومنذ ذلك الحين تستخدم عادة كأحد الرموز الدالة على طبقة النبلاء - لم يكن قط أكثر من مجرد استعارة لونية؛ فقد اعترف المراقبون غير المتحيزين، حتى في الأوقات التي كانت فيها سلطة النبلاء لا نظير لها، أن طبقة النبلاء في النهاية لا تزيد عن كونها فكرة أو اعتقادا ملفقا. كان هذا أمرا مقنعا جدا؛ حيث كان يدعمه - كما هو الحال دوما - كم كبير من مزاعم الرفعة الأكثر واقعية.
كيف حصل هؤلاء على مثل هذا التميز المحير والحصري؟ تاريخيا حدث هذا بثلاث طرق.
على مدار السواد الأعظم من حقبة العصور الوسطى كان الناس ينضمون إلى طبقة النبلاء عن طريق أسلوب التناضح والامتصاص؛ فقد كانت العائلات تحصل على الاعتراف بها بأنها من النبلاء عن طريق تجميع مجموعة من السمات والأنشطة المعترف بأنها مناسبة؛ مثل جمع الأراضي والتابعين، وإظهار مهارات قتالية وإنجازات، وبوجه عام عيش «حياة نبيلة» (انظر الفصل الثالث). لم تختف بالكامل قط هذه الطريقة في تأكيد الحق في الحصول على مكانة النبلاء، ولم تتمكن إلا قلة من العائلات من أن تصبح من طبقة النبلاء دون إرساء عناصر نمط حياة النبلاء أولا. مع هذا، منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر (وأحيانا بعده) كان ادعاء النبالة، بناء على هذا الأساس بالكامل، يعتبر نوعا من الانتحال. لقد استمر حدوث هذا الأمر، لكن ازدادت صعوبة الحصول على هذا اللقب. يرجع السبب في هذا إلى أنه خلال هذه القرون احتكر الحكام على نحو فعال ميزة منح لقب النبلاء. وقد كان المقابل الضمني للاعتراف بالنبلاء أو منحهم الامتيازات أن يسمح النبلاء للملوك (أو المجالس السيادية في العدد القليل المتبقي من الجمهوريات، مثل البندقية أو جنوة) بالتحكم في منحهم لرتبهم.
من ثم، كانت الطريقة الثانية أن تمنح مكانة النبلاء بمنحة من الحاكم. وأكبر «دليل» لا جدال فيه على هذا، الإجازات الرسمية أو خطابات منح مكانة النبلاء التي كانت تصدر رسميا من السلطات المختصة. ويمكن تعقب جميع سلالات النبلاء تقريبا حتى وقت ظهور مثل هذه الوثيقة، وحتى من يدعون أنهم أكثر قدما من هذا، يعتمدون على الاعتراف الموثق من هذه السلطة للنبلاء الذين كانوا موجودين من قبل. إن طرق منح مكانة النبلاء رسميا وأسبابه متنوعة للغاية؛ فلم يسأل الملوك قط عن دوافعهم لمنح هذه المكانة، رغم أنهم ربما يعرضون أنفسهم لنقد لاذع إذا رفعوا الأشخاص المفضلين لديهم - كما كان يقال دوما - «من العدم». في معظم الأحيان كانت مكانة النبلاء تمنح اعترافا بالخدمات التي يؤديها الأفراد، سواء في ساحة المعركة، أو - على نحو متزايد - في مجالي السياسة أو الإدارة؛ فقد كان منح الإداريين مكانة النبلاء أمرا تلقائيا؛ فعند وصولهم إلى مستوى معين، كان هذا التمييز يأتي بحكم المنصب. إلا أن خطابات التعيين ظلت تؤكد المكانة الجديدة.
أما بخصوص الطريقة الثالثة فقد كانت مكانة النبلاء تشترى. كان من النادر أن تباع علنا، فيما عدا أوقات الضرورة المالية، لكن فعليا لم يحصل إلا عدد قليل من العائلات على هذه المكانة دون دفع مبالغ كبيرة من المال. لقد أدرك الحكام منذ مرحلة مبكرة أن التمييز بين الناس له قيمة سوقية مربحة، وأن احتكار إصدار مثل هذه الامتيازات يمكن أن يصبح مصدرا مهما للدخل؛ وعليه، فإن خطابات المنح لم تكن تصدر مطلقا إلا مصحوبة بكم كبير من الرسوم. وفي فرنسا، حيث كانت معظم المناصب الملكية في الفترة بين أواخر القرن الخامس عشر وقيام الثورة في عام 1789م معروضة للبيع، منحت آلاف عدة من أعلى وأغلى هذه المناصب مرتبة النبلاء لمشتريها.
مع هذا لا يرى إلا عدد قليل من النبلاء أنفسهم نتاج صنع دولهم. ثمة مصطلح آخر يستخدم مرادفا لمصطلح النبلاء؛ وهو «عراقة الأصل». لقد كان النبلاء رجالا فضلاء من أصل عريق، ولم تفقد هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية هذا المعنى الذي ظلت محتفظة به في اللغات اللاتينية إلا في خلال القرن الثامن عشر، وهو المعنى الذي يقتصر على «عراقة» المولد . لقد كان المولد هو أفضل صفة مؤهلة على الإطلاق؛ فالنبلاء الحقيقيون يولدون لا يصنعون. وقد اشتهر ملك فرنسا فرنسوا الأول (1515-1547م) بقوله إن الملك يستطيع صنع عدد لا حصر له من الرجال النبلاء، لكنه لا يستطيع أبدا صنع رجل عريق الأصل. (3) الوراثة
إن الأرستقراطيين هم نخبة بالوراثة؛ فهم يرثون امتيازهم عبر الأجيال، ويرثون الدماء النبيلة من أجدادهم. عادة ما تظهر مصطلحات - مثل السلالة والأصل وحتى العرق - في المناقشات النظرية التي تدور حول طبيعة طبقة النبلاء في العصر الحالي أو في الماضي. لم تكن النبالة الشخصية أمرا مجهولا؛ فقد ظهر في لائحة رتب موظفي الدولة التي ظهرت في روسيا على يد بطرس الأكبر عام 1722م، أو في الترتيب الهرمي للألقاب المماثل، إلى حد ما، لذلك الذي وضعه نابليون في إمبراطوريته عام 1808م. إلا أن هذين الابتكارين قد انتشرا نتيجة الافتراض بأن التميز الوراثي ما زال النموذج الأمثل المرغوب فيه أكثر من غيره، وكان منح رتبة النبالة بصفة شخصية مجرد محطة وسيطة على الطريق نحو الوراثة الكاملة، كما كان الحال في فرنسا في الفترة السابقة على الثورة؛ حيث كانت معظم المناصب التي تخول الحصول على لقب نبالة تقتضي الاشتغال بها لثلاثة أجيال متعاقبة من أجل منح لقب نبالة يمكن توريثه. كان نظام النبالة مدى الحياة، الذي ظهر في بريطانيا العظمى منذ عام 1958م، في فترة اضمحلال مجلس اللوردات، الوحيد الذي لم يحمل أي افتراض قط يتعلق بالتوريث. ثم أدخل قانون عام 1963م مبدأ آخر جديدا يتمثل في أن النبلاء بالوراثة باستطاعتهم الآن التخلي عن ألقابهم. بطبيعة الحال، نظرا لأن النبالة كانت صفة تورث جينيا، فلم يكن من الممكن التنازل عنها؛ فكان لأولاد النبلاء الحق في الحصول على مكانة والدهم، شريطة أن يكونوا أطفالا شرعيين. وقد كان الملوك في أغلب الأحيان يمنحون هذه المكانة لأطفالهم غير الشرعيين، لكن لم يزد قدر ما يتمتع به هؤلاء النبلاء غير الشرعيين من حقوق في الميراث من جهة والدهم عما يتمتع به الأبناء غير الشرعيين من عامة الشعب، رغم أن النبلاء كانوا دوما في مكانة تسمح لهم بطلب إعفاءات خاصة.
مع هذا في ظروف معينة يمكن فقدان النبالة؛ فقد يفقد الرجل النبيل الذي يدان بالخيانة رتبته أو على الأقل الممتلكات التي تدعم امتلاكه لها. وكان الأكثر شيوعا احتمال فقدان هذه المكانة في حال مشاركة حاملها في أنشطة تعتبر متعارضة مع النبالة؛ ففي فرنسا، كان يعرف هذا باسم الانتقاص من القدر، وكان يحدث إذا مارس الرجل النبيل عملا يدويا أو تجارة التجزئة. فقد كان الشعار المطبق أن اليد التي تحمل السيف لا يمكنها أن تمسك أيضا بالنقود، أو كما جاء في أطروحة ظهرت في أوائل القرن السابع عشر: «إنه مكسب حقير ودنيء ينتقص من نبالة المرء. إن نمط الحياة المناسب هو أن يحيا المنتمي لطبقة النبلاء اعتمادا على ما يحصل عليه من إيجارات، أو على الأقل ألا يبيع مجهوده أو عمله.» نادرا ما كانت تنتهك القوانين التي تقدس هذا المبدأ؛ فقد كانت تدعمها تحيزات قوية ضد الوظائف المهينة استمرت لفترة طويلة بعد انتهاء الحظر الرسمي في أواخر القرن الثامن عشر.
شكل 1-2: أحد النبلاء الكبار مع عائلته: فيليب هيربرت، إيرل بيمبروك الرابع، رسمها فان ديك، ويلتون هاوس، ويلتشر.
شكل 1-3: مالك أراض هرم يتودد لعروس شابة باستخدام شجرة عائلته: مشهد من لوحات «زواج عصري» لويليام هوجارت.
رغم أن التوريث كان أمرا محوريا في النموذج الأرستقراطي، فإنه كان يتخذ أشكالا عديدة متنوعة من حيث التطبيق. في أغلب الأحيان كان التوريث يحدث من جانب الأب؛ فتنتقل النبالة من جهة الذكور وليس الإناث. مرة أخرى ربما تحصل العائلات ذات الشأن على إعفاءات خاصة، لكن بينما يولد أبناء الرجل النبيل المتزوج من امرأة غير نبيلة نبلاء، فإن أبناء المرأة النبيلة التي تتزوج برجل من العامة يرثون مكانة الأب. وفي معظم الحالات يحمل جميع الأبناء الشرعيين للأب النبيل هذه المكانة بالتساوي عند ميلادهم. ظهرت أشهر الاستثناءات في ممالك بريطانيا العظمى الثلاث؛ حيث لا ينتمي إلى مكانة النبلاء إلا نبلاء الأصل، ولا يرث المكانة إلا الابن الأكبر، أو الأخ الأصغر في حالة وفاة صاحب المكانة دون إنجاب أبناء («الوريث وبديله»). قانونا، يصبح جميع الأبناء الآخرين ضمن عامة الشعب، ولا يرثون شيئا إلا الحق في ارتداء شعار النبالة الخاص بالعائلة. مع هذا في الحياة الواقعية كانت الطبقات الأرستقراطية البريطانية دائما لا تقتصر على النبلاء فحسب؛ فقد كانت رتبة البارونيت - وهي طبقة من الأعيان تتوافر بأعداد أكبر ويتمتع أصحابها بنبالة المولد، ويمكن انتقال ألقابها من جيل إلى جيل بنفس شروط رتبة النبلاء - دوما المكافئ الواضح لنبلاء القارة الأوروبية الأقل مكانة. في جولته الكبرى في أوروبا عام 1764م، قال جيمس بوزويل الذي اشتهر فيما بعد بأنه كاتب سيرة صمويل جونسون لكنه في هذا الوقت لم يكن إلا مجرد ابن قاض ومالك أراض اسكتلندي: «أعتقد أن من المناسب أن أحصل على لقب بارون في ألمانيا؛ نظرا لأن لدي الحق في الحصول عليه تماما كأي فرد في طبقة الأعيان أراه من حولي.» مع هذا كان نظام البكورة البريطاني يدفع بعناد الإخوة الأصغر سنا خارج النخبة الأرستقراطية على جميع المستويات؛ مما دفعهم للتنافس - وهو ما لم يحتج إلى فعله أبناء النبلاء في القارة الأوروبية - من أجل الحفاظ على المجد الذي حظي به أجدادهم المشهورون. لكن كان الأمل الوحيد أمامهم من أجل استعادة مكانة أجدادهم هو أن يبدءوا في تأسيس سلالة جديدة. وربما يكون المثال الأبرز على هذا دوق ولينجتون - وهو الابن الأصغر لإيرل - الذي حصل على رتبة نبيل بنفسه فقط عن طريق أفعاله النبيلة في أرض المعركة.
يكفي وجود سلف ذكر واحد من أجل تأسيس سلالة نبيلة، ولا يمكن القضاء عليها إلا من خلال وفاة ذريته من الذكور المباشرين كلهم. مع هذا لا تكون جميع السلالات أصيلة؛ فتتمتع العائلات التي كان أول سلف معروف لها يحظى بمكانة النبيل، بنبالة بالغة القدم، عفا عليها الزمن. تبدأ جميع السلالات الأخرى - لكن من وقت بعيد - بشخص لم يولد نبيلا، بل حصل على هذه المكانة في فترة حياته؛ وعليه، فإن رفعة مكانة السلالة تعكس امتداد نسبها وعدد الأجيال النبيلة فيها. وأحد المعايير الأخرى الأساسية في ألمانيا ، رغم أنه مستحب فقط في الأماكن الأخرى، هو عدد الأسلاف النبلاء من جهة الأم تماما مثل جهة الأب. من الخارج قد تبدو الطبقات الأرستقراطية متسقة وموحدة في تفردها، لكن لا توجد أي مساواة في ترتيباتها الداخلية. (4) التسلسل الهرمي
جوهر الأرستقراطية هو عدم المساواة؛ فهي تقوم على افتراض أن بعض الناس فطريا أفضل من معظم الناس الآخرين. لكن حتى إن كان النبلاء أفضل من عامة الشعب، فإن ثمة تمايزا عميقا بين النبلاء أنفسهم. وكذا لم يكن احتقار أي نبيل لأسلاف أكثر حداثة من أسلافه مجرد فخر لعائلته، دون وجود تبعات مادية؛ فقد حصر كثير من المؤسسات المرموقة، مثل المحاكم أو الكنائس أو الأديرة أو طبقات الفرسان أو كتائب الجيش أو المدارس، الملتحقين بها في النبلاء الذين يتمتعون بحد أدنى معين لطول السلالة. كذلك قد يفرض طول السلالة أفضلية عامة، خاصة بين النبلاء الذين ليست لديهم ألقاب تميزهم. كانت روسيا حالة متطرفة؛ حيث كانت الألقاب فيها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر غير معروفة تقريبا، لكن اعتمد تبوؤ أي منصب على ما يعرف باسم نظام «مستنيتشستفو»، وهو نظام بمقتضاه لا يمكن لأي شخص عمل أحد أجداده في مستوى أدنى أن يتخطى رتبة أي شخص آخر. لقد كان هذا النظام وصفة للتعجيز، وألغي في عام 1682م. مع هذا، بعد مرور 40 عاما فقط، أسس تسلسل جديد من الرتب والألقاب.
بخلاف الاعتقاد السائد، في تاريخ الأرستقراطية كانت الألقاب أمرا نادرا نسبيا، وظهرت في وقت متأخر نسبيا؛ فالألقاب التي منحها آخر أباطرة الرومان لم تبعث في الغرب لعدة قرون عقب انهيار الإمبراطورية الرومانية، رغم أنها بقيت في الإمبراطورية المتقلصة التي تحكمها القسطنطينية. وفي أوائل العصور الوسطى في الغرب كانت ألقاب الدوق والكونت تنسب في أغلب الأحيان لأصحاب الدماء الملكية ذوي النفوذ. ولم يبدأ تسلسل هرمي في الألقاب يفرض نفسه إلا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع ظهور من يحملون لقب دوق غير ملكي. كان الهدف من ذلك أن تفوق رتبة هؤلاء أصحاب الألقاب المعترف بها الموجودة بالفعل، مثل الكونت أو (نظيره الإنجليزي) الإيرل، التي كانت تعبر عن سمو في المكانة يكون مدعوما بوجه عام بقدر أكبر من الثروة. بحلول القرن الخامس عشر كانت التسلسلات الهرمية للألقاب الوراثية تظهر في جميع أنحاء أوروبا الغربية؛ حيث كان الملوك يكافئون ولاء رعاياهم ذوي النفوذ عن طريق تحديد درجة أهميتهم بعناية. ظهر في هذا الوقت لقب المركيز بين رتبة الدوق والكونت، في حين ظهرت رتبة الفيكونت بين رتبة الكونت ورتبة البارون المتواضعة نسبيا. كانت الأمور معقدة كثيرا في ألمانيا؛ حيث ظلت الإمبراطورية الرومانية المقدسة لألف عام أعلى مستوى من السلطة حتى تفككها عام 1806م. لقد كانت مصدر شرعية النبلاء الملكيين مرتفعي الشأن، الذين كان بعضهم فعليا من الأمراء ذوي السيادة المؤثرين الذين يتمتعون بحق التصويت في انتخاب الإمبراطور، ويحكمون أراضي شاسعة بأنفسهم، بالإضافة إلى من يطلق عليهم الفرسان الإمبراطوريون الأحرار الذين لا يملكون مخصصات من الأراضي، لكن عادة تكون لديهم ضيعات خاصة واسعة. في الوقت نفسه، تزعم الأمراء الألمان المستقلون، مثل ناخبي براندنبورج (الذين أصبحوا فيما بعد ملوك بروسيا)، طبقة نبلاء خاصة بهم، أقل في المكانة من النبلاء الملكيين، لكنها كانت في بعض الأحيان أغنى منها. في معظم طبقات النبلاء كانت الألقاب تنتقل إلى الذرية من الذكور، وكانت تربط بمنح معينة من الأراضي أو ألقاب اللوردات، التي كانت تنتقل ومعها اللقب. لم يكن اللقب منفصلا عن الأراضي والصلاحيات إلا في الممالك البريطانية. كذلك في أواخر العصور الوسطى بدأت طبقات الأشراف تتشكل، وهي مجموعات متفردة من الأشخاص ذوي السلطة يتمتعون بامتيازات خاصة لا يشاركهم فيها أحد من حملة الألقاب الأخرى (إلا في بريطانيا العظمى): «أدواق ونبلاء» فرنسا، ونبلاء إسبانيا، وبارونات نابولي وصقلية.
لكن ببساطة لأن الألقاب استمدت في البداية من التراكمات الكبيرة للثروة، فإن الغالبية العظمى من النبلاء لم يتسن لهم قط مجرد الطموح إليها؛ فلم يكن اللقب المرموق يتعلق بالضرورة بطول السلالة. وقد وجد الكثير من النبلاء الشباب قليلي الثراء عزاءهم في السخرية من السلالات الحديثة والمعيبة لجيرانهم من حاملي الألقاب . في الوقت نفسه لم يسع هؤلاء إلى الترويج لوضعهم بكثير من التنميق. كانت توجد رتب الفروسية العادية، وهي ألقاب تمنح بصرامة طوال الحياة، لكنها تمنح بوجه عام للرجال النبلاء فقط. كان لقب «إسكواير» (بمعنى «حامل الدرع») يستخدم على نطاق واسع للمطالبة بالحصول على لقب النبالة أو للإشارة إلى أن «هذا الرجل لديه شعار نبالة». وفي أوروبا (وبقدر ما في اسكتلندا) كانت العلامة الأكثر تميزا هي استخدام حرف جر كعلامة دالة قبل الاسم الأخير، مثل «دو» بالفرنسية أو «فون» بالألمانية أو «أوف» بالإنجليزية؛ التي تعني جميعها «صاحب»، وتشير إلى السيادة على ممتلكات نبيلة. بدأت كثير من أشكال المخاطبة (مثل سير ومسيو وهير وسنيور) تظهر بوصفها مفردات تشير إلى الاحترام لأصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة.
من ثم، داخل رتب معظم الطبقات الأرستقراطية كانت الفروق في التسلسل الهرمي بين أعضائها تقريبا بنفس درجة أهمية ما يميز هذه الطبقات عن باقي أفراد المجتمع. لكن لم تقبل جميع التسلسلات الهرمية الرسمية (على عكس الاختلافات في درجة الثراء) دون مقاومة؛ ففي المدن الجمهورية الإيطالية، وبين نبلاء بولندا، الذين يمثلون أكبر عدد من النبلاء في أوروبا، كان ثمة دفاع شديد عن المساواة بين جميع النبلاء؛ فقد كانت الألقاب التي ظهرت في الكومنولث البولندي من أصل أجنبي، وأصبحت معترفا بها بدافع الكياسة لا لأنه منصوص عليها في القانون. وتطلب فرض التسلسلات الهرمية في الألقاب في المجر وروسيا وبروسيا إجراءات حازمة من حكام صارمين في القرون الأولى من العصر الحديث. إلا أن الملوك كانوا يعلمون أن التسلسل الهرمي هو نظام للسيطرة، تماما مثل الشبكة الواسعة من الامتيازات التي تنافس النبلاء للمشاركة فيها. (5) الامتيازات
يعني الامتياز «قانونا خاصا»، يتمتع حائزوه بالحق في أن يحصلوا على معاملة مختلفة عن غيرهم؛ ففكرة وجود طبقة أرستقراطية أو نبلاء دون امتيازات فكرة غير واردة. يقال دوما إن ما يميز النبلاء في الممالك البريطانية عن نظرائهم في أوروبا هو عدم امتلاكهم أي امتيازات. بالتأكيد كانوا دوما يتمتعون بعدد أقل من الامتيازات. لكن إذا قبلنا التعريف البريطاني لطبقة النبلاء بأنهم أشراف، فإن عضوية مجلس اللوردات، التي كانت من حق كل النبلاء الحصول عليها حتى عام 1999م، كانت بالتأكيد امتيازا له أهمية كبرى. حتى إن كنا نفضل وجود تعريف أكثر شمولا للطبقة الأرستقراطية البريطانية، فإن لقب البارونيت المنتقل بالوراثة والفروسية، وشعار النبالة الذي يسمح للرجال النبلاء بإظهاره، فضلا عن التفضيل في المناسبات العامة الذي يحصل عليه الأعيان تقليديا عقب النبلاء مباشرة؛ كلها تندرج أيضا تحت الامتيازات. وفي الفترة بين عامي 1711 و1858م كان الرجال الذين لا يملكون مساحات شاسعة من الأراضي يستبعدون رسميا من مجلس العموم، وفي الفترة من عام 1671 حتى 1832م كانت قوانين الألعاب تحظر على جميع المنتمين لطبقة الأعيان ممارسة الصيد والرماية.
كانت امتيازات ممارسة الصيد حكرا على اللوردات في جميع أنحاء أوروبا؛ وكذا الحال بالنسبة إلى الحق في استخدام أنواع معينة من شعارات النبالة، رغم أنه كان يسمح دوما لغير النبلاء بعرض شعارات نبالة أقل تميزا. الأهم من هذا أن الكثير من النبلاء في القارة الأوروبية شكلوا في أواخر العصور الوسطى طبقات قانونية منفصلة تتمتع بحقوق وامتيازات جماعية، تشمل عادة حصولهم على قاعات خاصة في المؤسسات النيابية؛ والسبب في هذا هو عملهم المستقل كمحاربين يوفرون نظريا الحماية لمجتمعهم. وفي بولندا والمجر كان التمثيل النيابي من أي نوع حكرا على النبلاء فقط. أهم من هذا أن وظيفة المحاربين المزعومة للنبلاء استخدمت كمبرر للإعفاء من الضرائب المباشرة. كان النبلاء يدفعون «ضريبة الدم»؛ ومن ثم كانوا يشعرون بأن من حقهم ألا يدفعوا أي شيء آخر. ومن الأفكار التي ظهرت في أوائل التاريخ الحديث، واستمرت لوقت طويل، المجهود المتواصل للملوك لإجبار النبلاء - بوجه عام الفئة الأغنى - على دفع الضرائب. وآجلا أو عاجلا كانوا يتوصلون لطرق تمكنهم من استغلال ثرواتهم بأسلوب غير مباشر. مع هذا فإن الضرائب المباشرة كانت تلقى مقاومة شديدة، ولا يرجع هذا فقط إلى كونها تستقطع من ثروة النبلاء، بل أيضا لأن الإعفاء الضريبي كان الاختبار الحقيقي لتقدير قيمة طبقة النبلاء نفسها. يقول شعار فرنسي: «لا يخضع أي نبيل لدفع الضريبة .» وكان لا بد من اندلاع أكبر ثورة في التاريخ من أجل تدمير هذا المبدأ.
مع هذا، بحلول عام 1789م كان الملك قد فاز بنصف المعركة في نضاله من أجل استغلال ثروة النبلاء. لقد كان النبلاء الفرنسيون يدفعون بالفعل مقدارا من الضرائب غير المباشرة، وفي بعض أجزاء من المملكة كانت الضريبة المعيارية - ضريبة الأراضي - أيا كان الوضع، تفرض على الأراضي وليس الأفراد. انتشر تصنيف الأراضي إلى أراض نبيلة وغير نبيلة في جميع أنحاء أوروبا، وفي بعض الدول كان النبلاء فقط يسمح لهم بامتلاك الأراضي النبيلة. وحتى في الأماكن التي لا يمنع فيها عامة الشعب من تملك الأراضي، كان يفرض عليهم دفع ضريبة خاصة (ضريبة التملك الحر) على ممتلكاتهم. في الوقت نفسه كان النبلاء يتمتعون بكافة أنواع الإعفاءات الأخرى، رغم أنها كانت تختلف كثيرا من مملكة لأخرى. اشتملت هذه الإعفاءات على إعفاءات من المبيت في سكن الجنود، ومن الخدمة العسكرية، ومن العقاب البدني. كانت عقوبة الإعدام تطبق بقطع الرأس وليس بالشنق. وكانت القضايا التي تتضمن نبلاء تنظر في محاكم خاصة، وكان عدد كبير من المؤسسات والهيئات الاعتبارية يمنع أي شخص من الدخول فيه عدا النبلاء. وأخيرا، كان يسمح للنبلاء بارتداء ملابس تميزهم عن الآخرين. وإذا كانت القوانين المحددة للإنفاق التي ظهرت في الفترة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر قد فشلت في منع الأغنياء من عامة الشعب من ارتداء ملابس مثل ملابس الأعلى منهم مكانة، فإن المتغطرسين فقط هم من كانوا يجرءون على خرق القوانين التي كانت تقصر حمل السيوف على النبلاء فقط. لقد كان هذا أسلوبا آخر للتباهي بوظيفة المحارب، وكان يستلزم بعض التدريب في المبارزة؛ وهو الأمر الذي ربما لا يستطيع عامة الشعب مجاراته إذا ما استلت الأسلحة.
بدأ ظهور الامتيازات بطرق عديدة ومختلفة. بعض هذه الامتيازات، مثل التمثيل السياسي أو الإعفاء الضريبي، كان جزءا لا يتجزأ من مفهوم النبالة. وبعض ثان منها كان يمنحه الملوك من أجل الحصول على الدعم، أو رضوخا منهم للمعارضة المتضافرة. ويوجد أيضا بعض ثالث منها يباع ببساطة، وهذه طريقة أقل إزعاجا يستغل بها الحكام ثروة هؤلاء الأشخاص بدلا من محاولة فرض ضرائب عندما تكون سلطتهم على الإجبار محدودة. ظهرت رتبة البارونيت البريطانية، التي تسمح بانتقال لقب «سير» بالوراثة، في عام 1611م، وكانت متاحة علنيا للبيع، رغم أنها أصبحت تمنح فيما بعد نظير الخدمات السياسية. وفي هذا الوقت باع الملك الفرنسي الوظائف الحكومية المصحوبة بامتيازات، بما في ذلك منح مكانة النبلاء، على نطاق واسع غير طبيعة النبلاء الفرنسيين بالكامل على مدى ثلاثة قرون قبل قيام الثورة، من نخبة من المحاربين إلى طبقة مفتوحة من الأثرياء. إلا أن الامتيازات التي كانت تمنح أو تباع كان من النادر حصول طبقات كاملة من النبلاء عليها؛ فقد كانت تعطى مجزأة، لمجموعات فرعية أو أفراد متعاقبين، من أجل دعم أو تعديل التسلسل الهرمي الموجود في سبيل المصلحة القصوى للسلطة الملكية؛ ونتيجة لهذا وجد عدد قليل من الأرستقراطيين أنهم يتمتعون بامتيازات أكثر بكثير من غيرهم، فما كان من هذا التوزيع غير العادل للامتيازات إلا أن زاد مشاعر الكبر والضغينة بين النبلاء؛ مما جعل المظهر الخارجي للتضامن داخل الطبقة الأرستقراطية وهما هشا. (6) الواجبات
كانت الامتيازات تمثل حقوقا؛ فقد نص عليها القانون وكانت تحميها المحاكم. ولم يتردد النبلاء قط في رفع دعاوى قضائية من أجل الدفاع عنها؛ حيث كانت أدوات أساسية في ادعاء الأرستقراطيين أنهم أرفع اجتماعيا. في المقابل، كانت الواجبات المفروضة على النبلاء قليلة للغاية وفي مجملها مبهمة. في الغرب، كانت تلك الواجبات مستمدة في الغالب من فترة ازدهار النظام الإقطاعي، بين القرنين العاشر والثالث عشر. لم تستخدم كلمة «نظام إقطاعي» قبل القرن السابع عشر إلا نادرا، ويفضل الباحثون في العصر الحديث تجنبها. مع هذا فإن الإقطاع الذي كان السمة الغالبة في هذه الفترة، والقوانين والعادات المستمدة منه، كانت جميعها تميز كافة جوانب تاريخ الطبقات الأرستقراطية تقريبا حتى نهاية القرن الثامن عشر، وأحيانا في الفترة التالية عليه ؛ فقد كان الإقطاع عبارة عن عطايا مشروطة من الأراضي والصلاحيات تقدم من اللورد لأحد المرءوسين أو التابعين بالتعاقد. وكانت عادة تشتمل على مكان محوري حصين يمكن إقامة قلعة فيه. إلا أن جوهر العقد الإقطاعي كان يتمثل في قيام التابع بإمداد اللورد، بناء على طلبه، بعدد متفق عليه من المحاربين الفرسان، الذين يطلق عليهم اسم «الخيالة» في أوروبا، و«الفرسان» في إنجلترا. كانت أراضي الإقطاع تتفاوت في أحجامها وفقا لعدد الفرسان الذين من المتوقع أن يحصلوا عليها، لكن الإقطاعيين (ملاك الإقطاع) الذين يفشلون في الوفاء بالتزاماتهم قد يجردون شرعيا من ممتلكاتهم. هيمن الفرسان والقلاع على الحروب منذ القرن العاشر وحتى القرن الرابع عشر، لكن مع ظهور أساليب قتالية جديدة وظهور البارود (بعد قرن من الزمن)، بدأت الاتفاقات الإقطاعية في الاختفاء. استمرت ممارسة الفرسان للمبارزة القاتلة بالرماح لقضاء وقت فراغهم خلال القرن السادس عشر، لكن في القرن السابع عشر عندما كانت مجموعة من الإقطاعيين تستدعى أحيانا للمشاركة، كانت النتائج ترى على أنها أكثر من مجرد إحراج لهواة. لكن في هذا الوقت كانت الألقاب المشتقة من أسماء القلاع، والفروسية بوصفها وظيفة محترمة، وحمل شعار النبالة (المستخدم في الأساس من أجل التمييز في المعركة)، والفقه المعقد للإقطاع والصلاحيات المصاحبة له، وقواعد سلوك الفرسان القويم المعروف باسم الفروسية؛ كانت جميعها جزءا من هوية النبلاء. وجاءت منها جميعا فكرة أن الرجل النبيل يتوجب عليه خدمة سيده الأعلى - الملك. وهو شعور بالواجب استمر في شكل التزام واسع النطاق للمهن العسكرية طوال القرن التاسع عشر وبعده.
شكل 1-4: فارسان يتبارزان بالرمح. القرن الخامس عشر.
لم يكن هذا ينطبق على جميع النبلاء؛ فالعدد الوافر من النبلاء الذين ظهروا في بولندا في أوائل العصر الحديث - «الشلاختا» المشهورين - اعتبروا الإعفاء من الخدمة العسكرية أحد امتيازاتهم؛ فقد كانوا يفتخرون بعدم التزامهم تجاه أي شخص عدا أنفسهم، وأطلقوا على هذا اسم «الحرية الذهبية». وبالتوغل شرقا، وتحديدا في السهول الحدودية الفوضوية، كان هذا نوعا من الرفاهية لا يستطيع أحد التمتع به؛ فقد كان النبلاء في روسيا يعرفون دوما بأنهم عبيد أو خدم للقيصر. لقد كانوا يتمتعون - مثل التابعين الإقطاعيين الأوائل في الغرب - بمنح من الأراضي وعبيد يقومون على فلاحتها مقابل إعالتهم، ولم يكن التزام النبلاء بخدمة القيصر محدودا. بالطبع كانت معظم خدماتهم عسكرية، لكنهم كانوا بالكامل تحت تصرف الحاكم لأي غرض وطيلة الوقت الذي يريده. وسع بطرس الأكبر (1682-1725م) هذا المبدأ ونظمه؛ حيث طلب من جميع النبلاء أن يعملوا لديه طوال حياتهم إما في الجيش أو «كموظفين حكوميين» (كان هذا أول استخدام لهذا المصطلح). ثبت أن هذا النظام نظام مؤقت؛ فلم تستطع الدولة تعيين كل الموظفين الموجودين مدى حياتهم، وفي عام 1762م حصل النبلاء على الحق في ترك الخدمة. لكن في هذا الوقت لم يعرف كثير منهم ما يفعلونه بخلاف هذا، وأدت عودة الكثير منهم إلى أراضيهم واستغلال عبيدهم عن قرب إلى تفاقم حدة التوتر الاجتماعي في الريف. تبعت هذا ثورات شعبية ضخمة في سبعينيات القرن الثامن عشر، وسعت كاثرين الثانية (1762-1796م) المذعورة إلى نيل ولاء النبلاء عن طريق منحهم امتيازات شاملة. هذا وقد أعطى ميثاق طبقة النبلاء في عام 1785م النبلاء في روسيا مزايا وإعفاءات على نطاق كان في هذا الوقت قد بدأ يندثر في غرب أوروبا. لقد كان الهدف من هذا الميثاق جعل هؤلاء النبلاء متحمسين لخدمة حكومتهم على كافة المستويات، لكن دون شيء من الإجبار القديم. ونظرا لأنه ضمن لهم ممتلكاتهم وحيازتهم للإقطاعيات، وأعطاهم رأيا معترفا به في الحكومة المحلية، فإن إقناع النبلاء في روسيا لم يتطلب جهدا كبيرا كي يقدموا خدماتهم طواعية.
لم يتقبل الأرستقراطيون قط الإجبار؛ فقد كانوا يرون أنهم قد ولدوا ليأمروا الآخرين لا أن يقبلوا ما يمليه عليهم الأعلى منهم؛ فهم يرون أن واجب السلطة العليا هو أن تؤكد على زعمهم التفوق والدفاع عنه، حتى إن تقبلهم السيادة الملكية نادرا ما كان يحدث دون شروط. ولم يعبر كثيرون تعبيرا واضحا أو صريحا عن هذا مثلما عبر عنه الأعيان في برشلونة خلال العصور الوسطى؛ إذ أقسموا لحاكمهم الأراجوني قائلين :
نقسم نحن، الذين لا نقل مكانة عنك، إليك، يا من لا تزيد مكانة عنا، أن نتقبل توليك الملك والسيادة علينا، شريطة أن ترعى حرياتنا وقوانيننا، لكن إن لم يحدث هذا فلن نقبل بك.
لكن لم يكن هذا قط سلوكا مستبعدا عن الأرستقراطيين، فيزخر التاريخ بثورات من النبلاء أو البارونات ضد السلطة، فضلا عن الإطاحة بالحكام أو قتلهم على يد رجال نبلاء ساخطين. فلم يتحدد سلوك وحقوق وواجبات الطبقات الأرستقراطية في صورة قواعد وتعريفات رسمية، بقدر ما تحددت بما اختار أعضاؤها أن يعتقدوه عن أنفسهم.
الفصل الثاني
أساطير ومعتقدات
إذا كان التعريف الموضوعي للطبقات الأرستقراطية هو أنها نخب ذات تسلسل هرمي تتمتع بموجب القانون بمكانة النبالة الوراثية ومجموعة متنوعة من الامتيازات والالتزامات العامة، فإنها قد سعت طوال الوقت إلى تعريف نفسها أيضا من حيث المعتقدات والسلوك. وقد كان الدخلاء، سواء من المعاصرين أو من المؤرخين، على استعداد لدرجة مذهلة لتقبل وتخليد تعريف النبلاء لأنفسهم ولمصدر نشأتهم وما يفعلونه وما يستحقونه. وحتى نقاد الأرستقراطية نزعوا إلى صياغة معارضتهم على أساس فشل هذه الطبقة في الرقي لمستوى هويتها المثالية. (1) الأصول
يعتقد الأرستقراطيون أنهم وجدوا منذ قديم الأزل؛ فهم يرون أنفسهم على أنهم أحد مظاهر الميل البشري الطبيعي لتقبل قيادة النخب التي ثبت تفوقها، وباعتبارهم المستفيدين منه. فعندما يصف الرجال النبلاء أنفسهم - كما يفعلون دوما - بأنهم أرستقراطيون أو أعضاء في مجلس شيوخ، فإنهم يشيرون إلى أنهم ينتمون إلى الطبقة نفسها من الناس التي ينتمي إليها حكام روما القديمة. بل إن القليلين منهم ادعوا أنهم ينحدرون مباشرة من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ في أواخر العصور القديمة. مع هذا، فإن معظم الطبقات الأرستقراطية الحديثة تعقبت هويتها الجماعية إلى فترة لا تصل إلى أبعد من فترة اضطرابات الغزوات البربرية في أوائل العصور الوسطى. رأى البعض أنهم من سلالة الغزاة، وأن الغزو هو الدليل والمبرر الأساسي لتفوقهم. وقد احتكر نبلاء الكومنولث البولندي (قبل اختفائه عام 1795م) السلطة على نحو أكثر اكتمالا من أي من نظرائهم في جميع أنحاء أوروبا. لقد فعلوا هذا بوصفهم أحفاد «السرماتيون» - على حد زعمهم - الذين يزعم أنهم هزموا السكان السابقين واستعبدوهم قرب نهاية الألفية الأولى. أما النبلاء في المجر، جهة الجنوب، فيزعمون زعما أكثر منطقية بأنهم أحفاد المجريين الذين روعوا أوروبا الشرقية في نفس هذه الفترة تقريبا. في الجهة الأخرى من القارة الأوروبية، يمكن تعقب جميع أشكال السلطة الشرعية والممتلكات في إنجلترا إلى فترة الغزو النورماندي في عام 1066م، الذي تلته إعادة توزيع ويليام الأول أراضي النخب الإنجليزية السابقة على معاونيه الأساسيين. اعتقد بعض الكتاب الفرنسيين في أوائل العصر الحديث أن أصول طبقة النبلاء الخاصة بهم ترجع إلى قرون اضمحلال الإمبراطورية الرومانية السالفة الذكر، وصوروهم على أنهم أحفاد الفرنكيين، الذين حلوا محل الرومان - تحت حكم كلوفيس (466-511م تقريبا) - بصفتهم حكاما على سكان بلاد الغال المحليين.
لا تستطيع إلا قلة قليلة من هذه المزاعم أن تصمد أمام فحص الباحثين وتدقيقهم. كان بعض منها، مثل فكرة الغزو الفرنكي، مثيرا للجدل منذ لحظة طرحه تقريبا. ولا يزال هذا حال كثير من أصول النبلاء الأوروبيين في العصر الحديث. لكن حتى إن كانت فكرة الغزو القبلي بسيطة للغاية، فعلى الأقل يبدو واضحا أن النبالة قد انبثقت وتطورت من بوتقة حروب العصور الوسطى ومن الحاجة لتقديم دعم مادي للمحاربين الفرسان. وفي الغرب، اجتمعت العلامات الدالة على النظام الإقطاعي ومصطلحاته، التي تشير الآثار الباقية منه كثيرا إلى روح الطبقة الأرستقراطية، في الوقت نفسه تقريبا الذي يزعم أن السرماتيين والمجريين كانوا يستقرون فيه بعيدا جهة الشرق. لقد أدت قلة المعلومات التاريخية عن هذه الفترات وغموضها الدائم إلى فتح المجال أمام اختراع أو تجميل صورة الأسلاف الأبطال. وهذا ما حدث في الحملات الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ حيث تمكن الفرسان من نيل سمعة رائعة في أبرز الحملات المسيحية مكانة: الاستيلاء على الأرض المقدسة والدفاع عنها ثم محاولة إعادة الاستيلاء عليها. تعقبت واحدة من أكثر رتب الفرسان تفردا - فرسان القديس يوحنا في القدس، الذين احتفظوا بمقر مستقل لهم في جزيرة مالطا حتى عام 1798م - أصلها وصولا إلى هذا الوقت. يمكننا أيضا أن نجد أسلافا عظماء بين الفرسان التيوتون الذين سعوا لتنصير الساحل الشرقي لبحر البلطيق بالسيف في القرن الثالث عشر، أو بين أبطال حروب استعادة السيطرة على شبه جزيرة أيبيريا من المسلمين التي استمرت لعدة قرون. خلدت طبقات فرسان حصرية وذاتية التجنيد ذكرى هذه الحملات إلى وقت بعيد في القرون التي قل فيها الصراع الديني. لكن عندما أصبحت الأرستقراطية تتعرض لهجوم مفتوح، في نهاية القرن الثامن عشر، استحوذت على معارضيها فكرة أن النبالة مستمدة من الغزو، واستخدموها في قلب الأوضاع ضد النبلاء؛ وعليه، يمكن تصوير النصر المزعوم للفرنكيين، أو في إنجلترا «استعباد النورمانديين»، على أنه اعتداءات دخيلة على حريات محلية أقدم منها.
لا تستطيع كثير من العائلات النبيلة على نحو موثوق تعقب خط نسب غير منقطع وصولا إلى أزمان سحيقة، لكن الحلم بوجود أجيال طويلة من الأجداد العظام أو الأبطال كان واسع الانتشار. يعتز النبلاء بشجرة عائلتهم، وكان علماء الأنساب يحققون دوما مكاسب جيدة من إعداد أشجار العائلة بناء على الطلب. لم يكن من اختصاصهم دحض مزاعم مستخدميهم، وتزخر السجلات التاريخية التي يفخر بها الأرستقراطيون بكثير من السلالات الزائفة أو الملفقة. كذلك لم يكن الإشباع الشخصي هو النقطة الوحيدة؛ فقد كانت التحالفات لا تقل أهمية عن عمر شجرة العائلة، وتتمثل هذه التحالفات في الزواج البيني الذي يتم بين أسر على القدر نفسه من التميز أو تفوقها تميزا. تعتمد سوق الزواج الأرستقراطي على معرفة «أصل» الأزواج المحتملين، وكانت طبقات النبلاء الأكثر حصرية، مثل نبلاء ألمانيا، تركز على الأصل النبيل لطرفي الزواج كليهما أكثر من التركيز على الأصل النبيل للزوج وحده، ويظهر ذلك في تقسيمات فرعية على شعارات النبالة. كذلك جرى الاعتماد في التمتع بامتيازات معينة على النسب المقبول؛ ففي القرن السادس عشر زاد احتفاظ الحكام بسجلاتهم الخاصة باعتمادات النبلاء، وكان يسندون هذه المهمة إلى المسئولين عن ابتكار ومنح شعار النبالة، أو الحكام المختصين بمنح شعار النبالة، أو علماء الأنساب في البلاط. كانت وظيفة كل هؤلاء تقتضي منهم التشكيك في السلالات تماما مثلما تتطلب منهم تأكيدها؛ نظرا لأن الدول والمؤسسات التي تمنح صفة النبالة بشكل حصري لا ترغب في الانتشار الزائد للامتيازات. ومع تقلص الامتيازات الأرستقراطية على مدار القرن التاسع عشر، فقدت الدول اهتمامها بتعقب المستحقين لهذه الامتيازات، وعندها استحوذ على هذه المهمة ناشرو «ألقاب النبلاء» والتقاويم والمراجع العلمية، ولم يكن جميعهم على القدر نفسه من التدقيق في تسجيل مزاعم النسب أو الاعتراف بها. وحتى أكثرها صرامة، مثل «دليل جوته الاجتماعي» الألماني عن النبلاء الذي ظل يصدر سنويا في الفترة بين عامي 1763 و1944م، كان عرضة لشكاوى ونقد مستمرين بسبب الأشياء التي تحذف أو الإضافات المثيرة للجدل؛ فيشتهر النبلاء باهتمامهم الزائد بما يشبع غرورهم أكثر من الحقيقة الموثقة أو الدقيقة.
شكل 2-1: شعار نبالة يحتوي على 16 قسما: شعار للنسب، تريرس، مقاطعة كورنوال.
لا شيء يضاهي في أفكار النبالة التميز بخط نسب ذكوري غير منقطع، لكن هذا من أندر ما يمكن؛ فمن الناحية الديموغرافية، يكون احتمال أن تنجب أي عائلة ورثة من الذكور لأكثر من ثلاثة أجيال متعاقبة، ضئيل للغاية. وتميل الأولويات الأرستقراطية إلى تقليل هذا الاحتمال أكثر من هذا؛ فقد كانت العائلات دوما تحد من حجمها من أجل حماية الممتلكات من مطالبة العديد من الورثة، كما أن وظيفة المحارب التي يشتغل بها النبلاء تعرضهم لأخطار متزايدة. وعاجلا أم آجلا، ينتهي الحال حتى بأكثر الزيجات خصوبة بإنجاب البنات فقط، وبهذا يختفي خط النسب، إلا إذا تزوجت واحدة من هؤلاء الوريثات أحد أبناء عمومتها يحمل اللقب نفسه، أو إذا غير زوجها لقبه إلى لقبها. وتدين كثير من السلالات الأشد تفاخرا ببقائها لمثل هذه الاستراتيجيات، لكن مصير معظم عائلات النبلاء كان دوما ما ينتهي بانقراضها عقب بضعة أجيال فقط. بالطبع لم يؤد هذا إلا إلى تعزيز مكانة العدد القليل من العائلات الدائمة الانحسار التي تتميز سلالتها بالعراقة وعدم الانقطاع، لكن بالنسبة إلى غالبية العائلات، في أي وقت قد تصبح السلالة الطويلة ليست أكثر من مجرد أسطورة أو طموح؛ وعليه ، فإن من الأمور الأسطورية أيضا التفرد الاجتماعي للطبقات الأرستقراطية. فأي مجموعة هشة ديموغرافيا على هذا النحو لا يمكنها البقاء إلا عن طريق نقل دم جديد بالكامل وبانتظام. وحتى في الأماكن التي أصبحت فيها رتبهم مغلقة رسميا، مثل جمهورية البندقية المقدسة، فإن «الكتاب الذهبي»، الذي تسجل فيه جميع العائلات النبيلة رسميا، كان يفتح دوريا - وإن كان هذا لوقت قصيرا - من أجل السماح بسد النقص في رتب النخب المتقلصة. إن الطبقات الأرستقراطية التي لا تملك آلية لقبول شرعي لوافدين جدد لا يسعها إلا أن تندثر مع الوقت. وهذا ما يحدث في عصرنا الحالي؛ حيث لم يعد يتم منح مكانة النبالة الأصلية في أي مكان، ولا حتى في بريطانيا العظمى. وبالطبع كان تأثير هذا أن جعل رتب النبلاء المعترف بهم أكثر حصرية من أي وقت، ما دامت موجودة. (2) الانضمام للنبلاء
رغم أن الميلاد كاف لمنح مكانة النبالة، فإن الأرستقراطيين بطبيعتهم لا يميلون إلى الاعتراف بأن النبالة لا تشير إلى أي سمة أخرى؛ فهم يميلون إلى الاعتقاد بأن أسلافهم قد استحقوا هذا التميز بسبب ما أظهروه من بسالة وفضيلة، وما قدموه من خدمات متميزة للملك و/أو المجتمع. إنهم يحبون الاعتقاد بأن هذه النزعات الفطرية إلى حد ما وراثية، أو على الأقل تنعكس على نحو جيد على أحفادهم. وهم يعترفون بوجه عام بأنهم لا يحتكرون مثل هذه الصفات، رغم أنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الاحتمال الأكبر أن توجد هذه الصفات بين أناس ينتمون لفئتهم؛ بمعنى أن «المزايا الاجتماعية تمنح عن استحقاق بواسطة الوراثة وليس الأفعال.» لدرجة أن بعضا منهم كان مستعدا لتقبل فكرة أن الأفراد من عامة الشعب الذين يتضح تمتعهم بمثل هذه الصفات ربما يستحقون الحصول على لقب نبيل اعترافا بهذا. لكن لم يهتم سوى عدد قليل من الأرستقراطيين بالاعتراف بأن الثروة من أي نوع أحد مؤهلات الانضمام لرتبتهم.
عمليا، لم يكن هناك شيء أكثر أهمية من ذلك. فإن كانت أصول النبالة عسكرية بشكل أو بآخر، فإنها عكست التكلفة المتزايدة للاستعداد لخوض المعارك . وإذا كان - منذ العصور الوسطى - الجنود والبحارة الناجحون المنتمون لخلفيات اجتماعية متواضعة استطاعوا أحيانا الوصول بعد كفاح لمرتبة النبلاء، فإنهم نادرا ما كانوا يحققون هذا دون جمع ثروات هائلة من الغنائم أو الجوائز على طول الطريق. في معظم تاريخ طبقة النبلاء، كان الالتحاق بها يشترى - سواء أكان هذا على نحو مباشر أو غير مباشر - ومن الناحية الاجتماعية كانت إحدى الوظائف التاريخية الأساسية للطبقة الأرستقراطية إعطاء الأثرياء الجدد مكانة مرموقة. في الحقيقة كانت عمليات الشراء الواضحة والصريحة أمرا استثنائيا. فلم يكن هناك اعتقاد قط في شرعية مبدأ «المال في مقابل الشرف»، وانتشرت صدمة بين الناس عندما باع لويس الرابع عشر الألقاب وخطابات منح لقب النبلاء في تسعينيات القرن السابع عشر، أو عندما باع عدو مجلس اللوردات، ديفيد لويد جورج، ألقاب النبالة من أجل دعم تمويل حزبه في عشرينيات القرن العشرين. وقبيل اندلاع الثورة الفرنسية كان نحو ثلثي النبلاء الفرنسيين ينحدرون من سلالة موظفين حكوميين حصلوا على لقب النبالة عن طريق شرائه على مدار القرنين الماضيين. لكن ثمة المزيد من الطرق الأخرى لشراء مكانة النبلاء بخلاف الشراء المباشر. فنادرا ما كان يتردد النبلاء الراغبون في تحسين وضعهم المالي في السعي للزواج من فتيات ثريات من عامة الشعب يقدمن مهورا كبيرة. أطلق على هذا «إعادة تنميق شعار النبالة» أو «استعادة الأمجاد»، لكن هذا لم يحافظ فقط على تجدد ثروات النبلاء، بل أيضا على تجديد جينات الطبقة الأرستقراطية. على أي حال كان الحصول على مكانة النبالة أمرا مكلفا؛ فلم يكن باستطاعة أي شخص أن يأمل في الاحتفاظ بهذه المكانة دون تمتعه بثروة هائلة، وكان الحكام يحرصون عادة على عدم منح هذه المكانة لأي شخص يفتقر للقدرة المالية على الاحتفاظ بها؛ ففي عام 1808م عندما قرر نابليون استحداث طبقة أرستقراطية لها ألقاب من أجل تنميق مزاعمه الاستعمارية المتعجرفة، حدد مستوى أدنى من الثراء لكل درجة في مقياسه لمنح الرتب. وفي القرون السابقة، حاول عدد أكبر من الملوك الشرعيين في إنجلترا وفرنسا بانتظام إجبار الرعايا أصحاب الثروات الهائلة غير المنتمين لطبقة النبلاء بالارتقاء إلى درجة الفرسان أو النبلاء، رغم أن هذا كان أيضا أحد السبل لاستغلال ثروتهم عن طريق مطالبتهم بدفع ثمن هذا الترقي. مع هذا، لم تكن الغالبية العظمى من أصحاب المستوى المطلوب من الثروة بحاجة إلى مثل هذه الحوافز؛ فقد لفتوا الانتباه بالفعل لأنفسهم عن طريق استثمار ثرواتهم في الأراضي بدلا من تركها سائلة أو مخبأة، وهذا وحده أشار إلى أن لديهم طموحات اجتماعية.
لم يكن الانضمام لإحدى الطبقات الأرستقراطية يتم بسرعة قط، فرغم الحصول على منحة رسمية بلقب النبالة، لم يكن هذا إلا خطوة واحدة على الطريق، رغم أنها بلا شك كانت الخطوة الأهم. كان الاستثمار في الأراضي، وهي من الأصول الأساسية للنبلاء، خطوة أخرى. مع هذا كان تقبل الأعضاء الآخرين في طبقة النخبة هو الدليل الوحيد على اكتمال عملية الانضمام بنجاح. ثمة قول مأثور شائع يقول إنه كي يصبح المرء من النبلاء يحتاج الأمر إلى تعاقب ثلاثة أجيال، وحتى عندها لا توجد طريقة لقياس هذا بموضوعية. لكن في النهاية يعالج الزمن مثل هذه الأمور؛ فقد يتقدم لخطبة بنات أحد الوافدين الأثرياء أناس من طبقة النبلاء، وتتحقق بالزواج صلات القرابة. يتم تقليد عناصر نمط الحياة الأرستقراطي بعناية، ويعين الأبناء في وظائف نبيلة، وبمرور الوقت قد تندثر الأصول المتواضعة وربما تنسى بالكامل. ويمكن حينئذ أن ينظر للصفات المكتسبة بعناء شديد باعتبارها فطرية. (3) الاستمرارية
تبقى مكانة النبالة إلى الأبد؛ فقد يفقدها الأفراد في ظروف معينة محددة بوضوح، لكن الصفة التي تنتقل عبر الدم لا يمكن محوها، وهذا ما اكتشفه الثوار الفرنسيون عندما حاولوا إلغاءها في عام 1790م. وقد عبر أحد الضحايا الغاضبين في هذا الوقت عن ذلك، فقال إن النبلاء «لا يمكن أن يصدقوا أن أي قوة بشرية قد تمنعهم من نقل صفة النبالة إلى نسلهم، تلك الصفة التي حصلوا عليها من الله وحده.» إن أهم واجب شخصي للابن الأول للنبيل هو تخليد السلالة، وبذلك يدعم في المستقبل مجد العائلة المتوارث من الماضي. لكن الحفاظ على مجد العائلة يعتمد بالتأكيد على الاحتفاظ بثروات مادية مناسبة، وكثير من ظروف الحياة الأرستقراطية جعل هذا الأمر صعبا.
في معظم البلدان يرث جميع الأبناء مكانة والدهم. حتى في إنجلترا؛ حيث كانت الألقاب تنتقل وفقا لنظام البكورة الذكوري الصارم، كان الأطفال الأصغر سنا لأب حامل للقب يحتفظون بشعار النبالة التابع لأسرتهم، وأحيانا يحتفظون، لجيل واحد فقط، باللقب الشرفي. لكن في حين كانت الممتلكات في إنجلترا أيضا تورث بنظام البكورة حتى عام 1925م، ولم يكن للأطفال الأصغر سنا الحق في المطالبة القانونية بها، فإن القوانين الأساسية في معظم الدول الأوروبية كانت تكفل لكل طفل الحصول على جزء من ممتلكات والده. قد يتفاوت الحجم المحدد لهذا الجزء كثيرا، بداية من المساواة الكاملة (وهو ما ساد في أوروبا الشرقية)، وحتى نصيب يكون بالغ الصغر مقارنة بنصيب الابن الأكبر أو الوريث المختار بوصية. مع هذا فإن النتيجة الحتمية كانت تقسيم ممتلكات الأسرة في كل جيل، وترك إرث لكثير من الورثة يلبي بالكاد احتياجاتهم. لم يكن الأبناء الأصغر سنا في إنجلترا حتى يحصلون على هذا، ودون موارد مالية مضمونة كانوا ينحدرون إلى رتب العامة. وفي الوقت نفسه قد يجد نظراؤهم في القارة الأوروبية وسلالتهم، الذين يمنعهم القانون أو التحيز أو كلاهما من الاتجاه إلى العمل بالتجارة من أجل الحفاظ على ثرواتهم، أنفسهم منعزلين في ظروف متواضعة أو ضيقة للغاية؛ مما يجعلهم يشعرون دوما بأنهم غير جديرين بمكانتهم. وفي الجزر البريطانية، كان من النادر وجود نبلاء فقراء بالفعل؛ فقد تحولوا إلى عامة الشعب. وفي القارة الأوروبية، كانوا يشكلون مشكلة اجتماعية أصبحت تشغل الحكومات أكثر وأكثر في الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
لا يلغي أي من هذا الصورة التقليدية عن ضيعات النبلاء الشاسعة والضخمة التي تديرها منازل كبرى. ويمكن العثور على مثل هذه الصورة في معظم الدول قبل القرن العشرين. لكن، رغم أنها كانت لافتة للانتباه، وتماما مثل القصور والقلاع التي أقيمت عليها - التي ما تزال هكذا حتى يومنا هذا - فإن متعتها كانت حكرا على عدد قليل من الأشخاص، وحتى بين هؤلاء كانت مكانة كبير العائلة لا تظل باقية إلا على حساب الإخوة الأصغر سنا. كانت الجزر البريطانية مثالا متطرفا على هذا؛ حيث كان نظام توريث الابن الأكبر يؤيد تجميع الضيعات، ودعمه في القرنين السابع عشر والثامن عشر انتشار استخدام «مبدأ التوريث الكامل للأرض»؛ وهو أحد أشكال الوقف الذي كان يقيد تصرف أي وريث في ميراث الأسرة طوال ثلاثة أجيال. لكن حتى في الأراضي التي لا ينطبق عليها نظام البكورة، أو في الأماكن التي كانت الأراضي تقتصر فيها على نقل الإقطاعات والألقاب المرتبطة بها (كما في فرنسا)، كان من الممكن في بعض الأحيان تكوين أوقاف ولكن بتكلفة باهظة؛ ففي إسبانيا كان نظام توريث الابن الأكبر، وفي جنوب إيطاليا وأراضي هابسبورج كان نظام الهبة، يسيطر كل منهما على نقل مساحات شاسعة من أراضي العائلات عبر الأجيال، أيا كان مدى سوء إدارة كبير العائلة لها. وبعدما أظهرت الثورة الفرنسية ضعف النبلاء، ظهرت حركات تساعدهم في مقاومة تقسيم ضيعاتهم. فتخلى النبلاء في بروسيا عن التزامهم طويل الأمد بالميراث القابل للتجزئة، وحصلوا على أعداد متزايدة من الأوقاف حتى عام 1914م. وحث نابليون أعضاء تسلسله الهرمي الجديد على حماية ما يملكونه من أراض عن طريق نظام التوريث للابن الأكبر. واستمرت أسرة البوربون التي استعادت مكانتها في تطبيق هذه الطريقة، حتى إنها حاولت في عام 1826م تعميم نظام البكورة على أغنى العائلات، رغم أن هذه الخطوة ثبت أنها بعيدة كل البعد عن الغالبية العظمى التي ما زالت تعيش في ظروف متواضعة.
ظل النبلاء يفضلون أكثر الأساليب تقليدية لتجنب التعرض للفقر؛ فيمكن الحد من حجم الأسرة بأساليب غير طبيعية؛ ومن ثم تقليل عدد المطالبات المحتملة فيما يتعلق بممتلكات الأب. وتوجد بعض الأدلة، منذ القرن السابع عشر، على بدء تطبيق هذا الأمر؛ فالأنصبة الأكبر حجما التي يرثها الأبناء الباقون على قيد الحياة تعطيهم أملا أفضل في زيادتها عن طريق زواج المصالح مع نظراء وضعهم مشابه. وفي الدول الكاثوليكية قبل اندلاع الثورة الفرنسية، كانت المناصب الكنسية، ومناصب الرهبان والأديرة التابعة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية الأكثر ثراء، يحتلها على نطاق واسع أبناء الأسر الأرستقراطية الذين لم يعد لهم الحق في المطالبة بأي شيء من أسرهم، وحتى في فترة ما بعد الإصلاح الديني في إنجلترا في القرن الثامن عشر كثيرا ما كان الكاهن الريفي هو الأخ الأصغر لأحد ملاك الأراضي. كذلك قد يطمح الأبناء الأصغر سنا في الارتقاء لمستوى أسلافهم عن طريق الوظيفة الأرستقراطية الأساسية: المهنة العسكرية؛ فقد تولى قيادة الجيش الأسطوري لفريدريك العظيم نبلاء تربوا على الأرض الفقيرة والمقسمة دائما في كل من براندنبورج وبروسيا. إلا أنه بالتوغل غربا كان ضباط الجيش يعينون عن طريق الشراء؛ ظل هذا يحدث في فرنسا حتى اندلاع الثورة، وفي بريطانيا العظمى حتى عام 1871م، وأدى هذا فعليا إلى التغاضي عن كثيرين ممن آمنوا بأن خلفيتهم الاجتماعية وتقاليد عائلتهم تجعلهم مرشحين بارزين لقيادة الرجال في المعارك. كان أسوأ وضع على الإطلاق في جميع العائلات ذات الإمكانيات المتواضعة من نصيب الفتيات؛ فبدون امتلاك مهور مناسبة، تكون الفتيات غير مؤهلات للزواج. حتى أديرة الراهبات كانت تطالب بتقديم مهور من أجل الالتحاق بها. وهكذا شاع النظر إلى الفتيات في العائلات الأرستقراطية، أيا كان مستوى ثروتها، على أنهن نوع من البلاء؛ فهن يستنزفن أموال العائلة سواء تزوجن أم لا، وفي كلتا الحالتين لا يفعلن أي شيء لتخليد لقب العائلة.
مع هذا، كانت أكثر الطرق بداهة لتجنب الفقر هي تلك التي تجنبها النبلاء؛ فبوصفهم ملاكا للأراضي كان بإمكانهم استغلال هذه الأصول البالغة الأهمية بطرق مباشرة ومبتكرة؛ وحيث إن الابتكارات الزراعية قد حدثت بالفعل، كان النبلاء دوما يتحملون المسئولية؛ فقد سمع الجميع عن ابتكارات فيكونت تاونسند «الملقب بفيكونت اللفت» في إنجلترا في القرن الثامن عشر. ومع هذا، كانت هذه مجرد استثناءات؛ فقد فضلت الغالبية العظمى من النبلاء الحياة اعتمادا على الزراعة بطريق غير مباشر، عن طريق تحصيل الإيجارات أو الحصول على مستحقات وخدمات من العبيد. وحتى في الأماكن التي لم يمنعوا فيها رسميا من ممارسة التجارة بموجب قوانين الانتقاص من المكانة، كان النبلاء يعزفون عن تلويث أيديهم بالتجارة. وقد حرصت الحكومات في القرن الثامن عشر على القضاء على هذا التحيز؛ إذ حث ملك فرنسا مرارا وتكرارا النبلاء في بلاده على ممارسة تجارة البيع بالجملة، وجعل هذا أمرا لا يقلل من شأنهم. وقد أباح الميثاق الروسي لطبقة النبلاء في عام 1785م للنبلاء الدخول في مجال التجارة. وبكافة الحيل والطرق غير المباشرة، ودوما بتخف متعمد، كان النبلاء أصحاب رأس المال الذي يسمح لهم بالاستثمار يسعدون بجني ثمار تشغيل هذه الأموال تجاريا، سواء في التجارة أو التمويل. هذا ويتزايد ما تكشف عنه الأبحاث الحديثة عن المستويات الاقتصادية التي بلغتها «رأسمالية النبلاء». مع هذا كانت مشكلة النبلاء الفقراء تحديدا هي عدم امتلاكهم أي نوع من رأس المال؛ فقد حصلت كثير من العائلات النبيلة على مكانتها منذ البداية عن طريق ترك «مكتب التعاملات المالية»، وكانت عودتهم إليه تعد بمنزلة الاعتراف بفشلهم الاجتماعي. قبل اندلاع الثورة في منطقة بريتاني الفرنسية، كان باستطاعة النبلاء الفقراء «تعطيل حس النبالة لديهم» بينما كانوا يستعيدون ما فقدوه من ثروات أسرتهم بالتجارة، ثم يعودون إليه مرة أخرى بعد إصلاح الضرر. إلا أن هذا كان أمرا استثنائيا إلى حد كبير؛ ففي واقع الأمر كلما زاد فقر النبيل، زاد احتمال أن يزدري ويتجنب وصمة عار التجارة؛ وبذلك يزدري السبيل الوحيد للنجاة من الفقر الأرستقراطي المدقع. سخر كم كبير من الأعمال الأدبية من هذا السلوك؛ فتصرفات البطل الهزلية في رواية «دون كيشوت» (1605-1615م) المبتذلة، التي يغلب عليها في ذات الوقت طابع تصرفات الفرسان، قد ترجمت إلى جميع اللغات الأوروبية الرئيسية. وقد قال أحد المعلقين القانونيين الفرنسيين في الوقت الذي كتبت فيه هذه الرواية الساخرة العظيمة: «ليس الفقر عيبا، ولا يتعارض مع النبالة.» لقد أحدث هذا ببساطة توترا بين الموارد المالية والتوقعات، وهو ما لا يستطيع أي شيء حله. وبعد مرور قرن ونصف من الزمن، لم تقترب المشكلة من الحل. مركيز ميرابو، والد خطيب الثورة الفرنسية الخائن، في عام 1756م كتب يقول : «دون مال لا يزيد الشرف عن كونه مرضا.» (4) الشرف
رأى النبلاء أنفسهم دوما أعلى من جميع البشر بفضل شرفهم. يعني هذا استحقاقهم لتقدير عام، لكنه ألزمهم أيضا بالتصرف بأسلوب يجعلهم جديرين به. إلا أن الشرف كان إحدى الصفات التي يستطيع الجميع التعرف عليها، لكن قلة قليلة هي من وجدت تعريفه أمرا سهلا. يمكن تعقب قدر كبير من هذا المفهوم وصولا إلى نماذج الفروسية التي ظهرت في ذروة العصور الوسطى بهدف توجيه سلوكيات الفرسان. لقد نشأت الفروسية بوصفها وظيفة عسكرية رسمية؛ وعليه، كانت أكثر الصفات قيمة هي الشجاعة والجرأة في المعارك. حقق أسلاف النبلاء أكثر المآثر مدعاة للفخر في ساحة المعركة، وكان أكثر عمل مخل بالشرف هو الجبن. وعقب انتهاء سيطرة الفرسان الخيالة على الحروب بوقت طويل، كانت رتب الفرسان أو الفروسية الحصرية، بما تشتمل عليه من ملابس خاصة وأشرطة وشارات، ضمن أكثر مظاهر التميز المرغوب فيها. واستمرت رتب جديدة في الظهور على مدى قرون طويلة. فحتى ممارسة المبارزة بالرمح لقضاء وقت الفراغ، تلك الرياضة التي تتسم بعنفها الشديد وخطورتها البالغة، لم تختف إلا بعد وقت طويل من فقدانها لقيمتها العسكرية. ولم يتوقف النبلاء عن حمل السيوف في حياتهم اليومية - كدليل على استعدادهم للقتال من أجل الدفاع عن شرفهم - إلا في أوائل القرن التاسع عشر. وقد نشأت المبارزة لأول مرة؛ وهي دفع أفراد متماثلين إلى التقاتل، كأسلوب قضائي لتسوية المنازعات بين الفرسان. وعندما تركها المحامون واتجهوا إلى أسلوب التقاضي العادي، استمر النبلاء في تفضيل المبارزات في المسائل المتعلقة بالشرف حتى أوائل القرن العشرين. لم يكن هناك ما يشين النبلاء في تحديهم عامة الشعب، ولم يكونوا يفكرون قط في الإعلان عن تحدي مثل هذه المخلوقات الأقل منهم منزلة. لكن لم يكن ممكنا رفض التحدي عندما يأتيهم من أحد نظرائهم من النبلاء دون المساس بالشرف، حتى عندما كان القانون يحظر المبارزة وكان يتم ملاحقة المنتصر الذي يقتل خصمه بتهمة القتل. ومنذ القرن السابع عشر بذلت الحكومات جهودا مضنية من أجل قمع المبارزة عن طريق توقيع عقوبات شديدة ورادعة، لكن استمر الناس في تحدي هذه القوانين. عبر عن هذا رجل فرنسي في القرن السادس عشر قائلا: «إن حياتنا وممتلكاتنا ملك للملك. أما أرواحنا فملك لله، وشرفنا ملك لنا؛ فلا سلطة للملك على شرفي.»
في الواقع كان الشرف رخصة لتحدي الملك والاستهانة بقوانينه في مواقف كان النبيل هو الحكم الوحيد فيها. وكما أشار مونتسكيو بعد مرور قرنين قائلا: «للشرف قوانينه وقواعده ولا يمكن أن ينثني ... فهو يتبع هواه الخاص، لا هوى آخر»، وهو «الشيء الذي يدين به المرء لنفسه أكثر مما يدين به لغيره.» من ثم كانت حياة الأرستقراطيين عامرة بمشاجرات حول الأسبقية في كل شيء؛ من يتحدث أولا، ومن يجلس أعلى من الآخرين، أو يجلس بدلا من أن يقف، ومن يعترف بمن، وبأي كلمات وإيماءات. كتبت ابنة أحد النبلاء الإنجليز من مدينة ريجنسبورج، التي كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام 1716م تقول:
يمكن أن يقضي النبلاء وقتا ممتعا بما فيه الكفاية لو قل اهتمامهم بالرسميات؛ لكن بدلا من الاشتراك معا في تحقيق هدف جعل هذه المدينة ممتعة لهم قدر استطاعتهم وتحسين مجتمعاتهم الصغيرة، فإن متعتهم لا تتحقق إلا بالمشاجرات المستمرة، التي يحرصون على تخليدها عن طريق تركها لخلفائهم ... أعتقد أنه من الحكمة أن يبقى المرء محايدا، لكن إذا تعين علي المكث بينهم، فإن احتمالات أن أظل هكذا ضعيفة؛ فاحتدام مشاجراتهم يجعلهم غير متحضرين تجاه من يزورون خصومهم.
تبدو هذه المنازعات تافهة للغاية من منظورنا الحديث، وعادة ما كانت تؤدي إلى منافسات تافهة ومخجلة، لكن النبلاء كانوا يرونها أساسية في تصورهم عن أنفسهم. ورغم أن مونتسكيو كان بارونا من أصل عريق، فإنه كان على استعداد للاعتراف بأن الشرف لم يكن في النهاية أكثر من مجرد نوع من التحيز. ومع هذا فقد قال إن الملوك - عن طريق دعمهم لهذا الجانب - كان بإمكانهم حث النبلاء على «الإقدام على فعل جميع أنواع التصرفات الصعبة، التي تحتاج إلى عزيمة، دون الحصول على أي مكافأة أخرى عدا الشهرة التي تمنحه إياها هذه الأفعال.» في الواقع كان مونتسكيو يرى أن الشرف هو الدعامة الرئيسية للأنظمة الملكية، التي نجحت من خلال إثابة الملك للنبلاء عن طريق الإشادة بهم أو إعطائهم مكافآت، تعرف أيضا باسم «المراتب الشرفية»، نظير خدماتهم. قد يكون دافع التشريف دافعا شخصيا، لكن لا بد من إذاعته علنا حتى يراه الآخرون. وقد كان تراث الفروسية يقضي بأنه، رغم ما يظهره الرجال الشرفاء في المعارك الشرعية من جرأة وعنف، عليهم أن يتسموا بالتهذيب والتحفظ في الحياة اليومية، والحفاظ على وعودهم، والسعي دوما للتعامل بإنصاف. ينبغي عليهم أيضا توفير الحماية للضعفاء، ومراعاة متطلبات التدين. في الواقع كان الرجال الشرفاء يتسمون بالفضيلة أيضا؛ فقد كانت الفضيلة، بوصفها إحدى صفات النبالة، صفة غير واضحة، ويصعب تعريفها تماما مثل الشرف نفسه، وفي نواح كثيرة كان الاثنان متناقضين؛ فكانت الفضيلة عادة تشير إلى نوع من الإيثار، في حين كان الشرف يتمحور حول تمجيد الذات. إلا أن كثيرا من المنظرين أشاروا إلى أن شرف النسب لا يعني شيئا إذا لم يتسم المنتمون إليه بالفضيلة.
كان قانون الفروسية يقضي أيضا بضرورة معاملة النساء باحترام خاص، أو على الأقل النساء ذوات المكانة المناسبة. لم يكن المبدأ المشين بحق مالك الأرض الإقطاعي بمعاشرة زوجة الفلاح التابع له في الليلة الأولى من زواجه موجودا إلا في الخيال الشهواني للأساطير، لكن نادرا ما كان يفكر الرجال ذوو السلطة في إغواء الخادمات اللاتي لا حول لهن ولا قوة. وإذا أبدى أحد النبلاء استعدادا - كملاذ أخير - للزواج من وريثة غنية من العامة من أجل تعويض ما اعترى ثروته من نقصان، فإنه كان دوما يفضل اختيار زوجة من نفس مستواه الاجتماعي. وعندما يصبح للنبلاء المتزوجين عشيقات يتوقف احترام الآخرين لهم، وتظهر عليهم علامات الصدمة والاستنكار. عندما يقرر الملوك تقليدا معينا، وكان هذا شأنهم دائما، لم يكن النبلاء يخجلون من أن يحذوا حذوهم. إلا أن شرف زوجات النبلاء - تماما مثل شرف الملكات - كان أمرا مختلفا؛ فقد كانت وظيفتهن الأساسية هي ولادة ورثة شرعيين، وإذا جرؤن على إقامة علاقة مع رجال بخلاف أزواجهن، فإن هذا عادة يحدث بعد الانتهاء على أكمل وجه من هذه الوظيفة الأساسية. في تقاليد الفرسان، كان أكبر مصدر للخزي والخيانة - بعد الجبن - هو إغواء زوجة أحد النبلاء. حتى في العلاقات التي تحدث خارج نطاق الزواج، اكتشف الرجال والنساء النبلاء المولد أنه من الأكثر أمنا لهم أن يقيموا علاقات مع أفراد مساوين لهم في المكانة. (5) الخدمة
كان الالتزام القانوني للتابعين بخدمة سيدهم الإقطاعي في الحرب في تراجع كامل في ممالك أوروبا الغربية منذ القرن الثالث عشر. وفي المقابل زادت في روسيا المطالبات بخدمتهم للحاكم طوال الوقت حتى عام 1762م. ولم تكن مكانتهم تزيد عن مكانة العبيد إلا قليلا في أعين نبلاء أقرب جار لروسيا من جهة الغرب؛ وهو الكومنولث البولندي الليتواني؛ ففي هذه الدولة احتفى الشلاختا «بحريتهم الذهبية» التي تقضي بعدم تقديمهم للخدمات. لكن من الناحية العملية، رغم أن ولاءهم الأساسي كان للكومنولث وليس للملك المنتخب، فإنهم كانوا على استعداد لخوض المعارك تماما مثل النبلاء في أي مكان؛ حيث كانوا على قناعة تامة بأن وظيفتهم الأساسية هي خدمة المجتمع عن طريق الدفاع عنه بدمائهم. يتألف تاريخ كثير من الدول قبل العصور الحديثة نسبيا من صدامات متكررة بين الملوك ونبلائهم الثائرين. وبعض الوثائق التأسيسية للحرية السياسية، مثل وثيقة الماجنا كارتا التي انتزعها من الملك جون في عام 1215م البارونات الأنجلو النورمانية، كانت نتيجة مقاومة النبلاء للانتهاك الملكي لاستحقاقاتهم التقليدية. صحيح أن معظم هذه الخلافات لم تكن نتائجها سامية على هذا النحو، لكن من السهل للغاية أن نرى أن ثورة الطبقات الأرستقراطية تتسم بالأنانية وانعدام المسئولية. فما كان يريده معظم الثوار النبلاء دوما هو الحفاظ على الطرق التي كانوا يريدون بها تقديم الخدمات تحت إمارة الملك. في هذه الحالات، قد تبدو الثورة مهمة إيجابية؛ دفاعا فعليا عن الشرف.
حتى بعد انحسار النظام الإقطاعي، توقع النبلاء في الغرب أن يحصلوا على فرصة القتال تحت قيادة ملوك ميالين إلى الحرب؛ فقد كان الملوك المسالمون غير مقبولين. ومع اختفاء الفرسان المسلحين والقلاع الحصينة في أواخر حروب العصور الوسطى، أصبح العثور على دور للنبلاء العاديين أكثر صعوبة، فيما عدا كونهم فرسانا مساعدين، وكانت كفاءتهم محل شك، وينشرون عادة على نحو انتحاري في مواجهة الرماح والبنادق الكثيرة التي يستخدمها مرتزقة مدربون. إلا أن ظهور الجيوش الدائمة منذ القرن السابع عشر أوجد الحاجة إلى ضباط على جميع المستويات وفي كافة الفروع العسكرية. كذلك فإن الإمبراطوريات التي تأسست حديثا عبر البحار بدأت في تقديم فرص للإخوة الأصغر سنا والأكثر فقرا لاكتساب شهرة عسكرية. وفي أواخر القرن الثامن عشر كانت جميع الدول الكبرى لديها مؤسسات عسكرية دائمة يستحوذ فيها النبلاء على الرتب العليا. وحدها الجيوش الضخمة التي أرعب بها نابليون أوروبا هي فقط التي كان يقودها رجال من أصول عادية، وحتى في هذا الوقت لم تكن تقتصر عليهم. فنظرا لأن نابليون نفسه كان من النبلاء، فإنه سعى على نحو متزايد لتعيين ضباط من «الأسماء العريقة» للنبلاء القدامى الذين كانت القيادة ضمن تقاليد عائلاتهم. وعلى ما يبدو فإن هزيمته في النهاية على يد جيوش بقيادة نبلاء أيدت المزاعم القديمة التي تقول إن الخدمة العسكرية هي الأسلوب البارز الذي كان الأرستقراطيون يخدمون به بلادهم. ولم تبدأ هذه الأسطورة الطويلة الأمد في الانهيار إلا في الحروب الأوروبية التي اندلعت في القرن العشرين.
تمثل أحد مصادر استياء الأرستقراطيين على مدى القرون في عدم استشارة الحكام لهم؛ فقد كان ينظر إلى إسداء النصيحة على أنها أحد السبل الأخرى الأساسية لتقديم الخدمات. بالطبع لم يكن معظم النبلاء يطمحون قط في الوصول إلى مسامع الملوك، لكن ذوي النفوذ كانوا يعتبرون تقديم المشورة حقا وواجبا في الوقت نفسه؛ فأثناء فترة حكم القصر، توقع كبار النبلاء بأن تعهد السلطة إليهم، جماعيا، رغم أن مشاجراتهم على الأسبقية عادة ما كانت تفسد كفاءتهم. لكنهم كانوا دائمي الشكوى من الملوك الناضجين؛ لأنهم كانوا يختارون تلقي النصح من الوزراء من ذوي الأصول المتدنية أو الأشخاص المقربين بدلا من مستشاريهم «الطبيعيين». إن رجال السلطة في حد أنفسهم ، نظرا لما لديهم من شبكات واسعة من العملاء الذين يسعون للحفاظ عليهم ومكافأتهم، كان من الواضح أنه من مصلحتهم دعم سلطتهم عن طريق الوصول إلى الحاكم؛ فقد كانوا يرون أنه يدين لهم بحقهم في خدمته، بدلا من اعتماده على من رأوا أنهم محدثو نعمة، مثل أسرة سيسل في العصر الإليزابيثي وعصر جيمس الأول في إنجلترا، أو أسرة لو تيليه أو أسرة كولبير في عهد لويس الرابع عشر في فرنسا، الذين أسسوا شبكات وأسرا حاكمة منافسة.
ظهرت هذه الأسر عبر شكل آخر من الخدمة، التي لم يبدأ التأكيد على مساواتها بالبراعة الحربية إلا في القرن السادس عشر. لقد كان مؤسسو هذه الأسر رجالا بيروقراطيين ومتعلمين، كرسوا حياتهم لإدارة المؤسسة السريعة التوسع في الدول الحديثة الأولى. كان بإمكانهم إدارة الخدمات اللوجستية في الحرب وتبعاتها الضريبية والمالية الجسيمة، لكن دون أن يذهبوا هم أنفسهم إلى أرض المعركة. وقد وطد كثير منهم أقدامه في الخدمة الملكية عن طريق شراء المناصب. في فرنسا، أصبح أصحاب الرتب العليا الحاصلون على لقب النبلاء في نظام الرشا المستمر في التوسع يعرفون في أوائل القرن السابع عشر بالنبلاء ذوي العباءات، في مقابل النبلاء حملة السيف التقليديين. عمل معظم النبلاء ذوي العباءات قضاة في المحاكم الملكية، وسرعان ما تزوجت أسرهم من أرستقراطيين ينتمون لنظام الخدمة العسكرية الأقدم. هذا وقد خدم كثير من سلالات النبلاء ملوكا متعاقبين على مدى الأجيال، حتى إلغاء المناصب التي تورث القائمة على الرشوة في عام 1789م. في هذا الوقت كان النبلاء يعملون في الرتب العليا في مجالي القضاء والإدارة في معظم الدول الأوروبية، وكانوا يرون أنها مهنتهم. إلا أن الأشراف الذين أداروا أقاليم في الجزر البريطانية بوصفهم قضاتها في وقت السلم ينكرون أي إيحاء بأنهم موظفون مدنيون. فعلى العكس من الموظفين الذين يتقاضون أجرا، كانوا يقدمون خدماتهم مجانا، ويسعدون فقط بالاعتراف بالتبعات الاجتماعية التي ينطوي عليها تعيينهم في منصب القضاء.
نادرا ما كان الأرستقراطيون يشعرون بالحاجة لإظهار جدارتهم للخدمة على نحو مسبق؛ فقبل القرن التاسع عشر كان الضباط والموظفون لا يعينون عن طريق منافسة رسمية ومفتوحة، بل عن طريق المحسوبية؛ فلقد كانت الإجراءات الموضوعية لتقييم مدى الملاءمة غير واردة، وكان الدليل الوحيد على الجدارة أو القدرة يتجلى في الأداء، وحتى عند ثبوت عدم كفاءتهم بوضوح ، نادرا ما كان يمكن التخلص من النبلاء بمجرد اعتلائهم أحد المناصب؛ من ثم لا عجب أن فرص تقديم الخدمات كانت تأتي إلى حد كبير من خلال مؤيدين ذوي سلطة، كانوا يفضلون ترشيح أقاربهم أو معارفهم أو من يدينون لهم بخدمات. أحاط دوما بأصحاب السلطة الكبار مجموعات كبيرة من التابعين - قائمة على أوجه «التقارب» أو «المصلحة» المتمثلة في الخدم المتطلعين - الذين لم يكونوا يتحكمون في مصائرهم وحدهم، بل كان يتحكم فيها أسيادهم أيضا. وجذب الأسياد بدورهم مثل هؤلاء الأتباع بإثبات قدرتهم على إشباع طموحاتهم. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، دعم ذوو النفوذ في الغرب مطالبهم عن طريق استخدام جيوش خاصة واقعية من الخدم، وهو ما أطلق عليه بعض المؤرخين اسم «إقطاعية الأبناء غير الشرعيين». وبالتوغل شرقا، استمرت مثل هذه الحاشيات لقرن آخر من الزمن، لكن عاجلا أم آجلا أسس الملوك احتكارا للسلطة الشرعية. مع هذا فإن شبكات الوصاية ظلت مفتاحا للسلطة في الكنيسة والدولة حتى ظهور الاختبارات العامة في القرن التاسع عشر، وما دامت هذه الشبكات قائمة فإن النبلاء هم المستفيدون الأساسيون منها.
تأتي المفارقة من أن النبلاء طالما اشتهروا بالكسل وعدم الرغبة في العمل. وهذا من الأمور الطبيعية؛ نظرا لعزمهم على عدم تلويث أيديهم بالعمل اليدوي المضني، وازدرائهم للأنشطة المجهدة أو التجارية، وتفضيلهم للراحة التي يتفاخرون بها. إلا أن النبلاء بوجه عام كانوا يطمحون إلى حياة يمارسون فيها أنشطة مشرفة. لقد كان قدر كبير من تكاسل الأرستقراطيين عن العمل مفروضا عليهم، وهي النتيجة الحتمية للفقر المدقع الذي جعل تكاليف الخدمة بعيدة عن متناول طبقة الأشراف ذات الرتبة المنخفضة. وعندما كانت تتاح للأرستقراطيين السبل، عادة ما كانوا يتحينون أي فرصة لإظهار أن سمو مولدهم تدعمه سمات أخرى ذات قيمة للمجتمع بأسره . كذلك كانوا يعلمون - بالطبع - أن نجاحهم فيما يقدمونه من خدمات يفتح الطريق أمام حصولهم على مكافآت مادية. لكن أيا كان الدافع فإن الأرستقراطيين وطاقاتهم شكلا القوة الأساسية المحركة للدول قبل الثورة الصناعية، وما كان لأي منها أن تدار - ربما بخلاف الجمهورية الهولندية التجارية - دونهما. ولم يبدأ استحواذهم على السلطة وأدواتها في التلاشي إلا في أثناء القرن التاسع عشر عندما تضاءل كثيرا حجم تميزهم الفطري المزعوم.
الفصل الثالث
حياة النبلاء
هذه العبارة ليست قديمة؛ فيبدو أن أول من استخدمها كان الدوق الفرنسي دي ليفي عام 1808م، عندما بدت محنة الأرستقراطيين التي استمرت 20 عاما على وشك الانتهاء مع ابتكار نابليون لتسلسل هرمي جديد من الألقاب، وقد قال: للنبالة التزامات. كان القانون يمنع الأرستقراطيين من فعل بعض الأشياء، وكانت معتقداتهم بشأن أنفسهم تثنيهم عن فعل أشياء أخرى. ومنذ اضمحلال النظام الإقطاعي، لم يفرض عليهم إلا عدد قليل من القوانين التزامات أكثر إيجابية، لكن الجميع كان يعلم أن النبلاء الحقيقيين يفترض بهم التصرف بأساليب تدعم زعمهم التميز الاجتماعي والسلطة؛ بمعنى أن تكون «حياتهم نبيلة». (1) الأرض
الأرستقراطيون في الأساس هم نخب ما قبل الثورة الصناعية؛ فتاريخيا، اعتمدت سلطتهم على السيطرة والهيمنة على المورد الاقتصادي الرئيسي في جميع المجتمعات تقريبا قبل حلول القرن التاسع عشر؛ وهذا المورد هو الأرض؛ ففي المجر كان لقب نبلاء يعني «أصحاب الأملاك». وحتى في المدن الجمهورية التي أوجدتها التجارة وأثرتها، مثل البندقية أو جنوة، كان يتوقع في النهاية من أعضاء الطبقات الحاكمة استخدام ثروتهم في الحصول على ممتلكات من الأراضي. ولم يحدث إلا في الجمهورية الألمانية أن أبقى «الأوصياء على العرش» التجاريون في المدن على أنفسهم بمنأى عن محاكاة النبلاء الفقراء نسبيا من أصحاب الأراضي في المقاطعات الداخلية.
كانت الأرض تمنح الحرية من وظائف مربحة. كانت الفكرة المثالية عن الدخل الذي يتم جنيه من الأراضي تتمثل في أنه يمنح المستفيدين منه حرية فعل أشياء أخرى؛ وكان الهدف من الرابطة الإقطاعية هو السماح للمحاربين الفرسان بخدمة أسيادهم بدلا من العمل في وظيفة لكسب قوتهم. ونظرا لأن السادة كانوا يمنحون الإقطاعات في مقابل خدمة الفرسان لهم، كان باستطاعة التابع الإقطاعي أن يمنح ممتلكاته من الباطن في مقابل الحصول على خدمة أو رسوم من الفلاحين. وبينما في الغرب على مدار القرون الأولى من العصر الحديث استعيض عن الحيازات الإقطاعية تدريجيا بالملكية التامة أو الإيجارات التعاقدية، ظل النبلاء يفضلون الإيجار على الاستغلال المباشر لممتلكاتهم. ولم يكن ينظر للزراعة المباشرة للأرض على أنها إلهاء عن أمور أكثر أهمية فحسب، بل على أنها كذلك قريبة على نحو خطير من السعي للحصول على مكسب تجاري. لم يكن هذا يعني عدم اكتراث النبلاء بالأرباح التي يمكن جنيها من ملكية الأرض؛ فرغم الأساطير التي دارت حول إسراف الأرستقراطيين وإهمالهم الأرعن للممتلكات، فإن معظم الأدلة تشير إلى أن النبلاء كانوا يتسمون بالحرص - أو حتى بالجشع - في إدارتهم لثروتهم. إلا أن هذا الحرص كان عادة ما يتخذ شكل زيادة الإيجارات لأقصى حد بدلا من التدخل لتشجيع الاستثمار في إنتاجية طويلة الأمد. في هذه الأثناء، تكونت في أوروبا الشرقية وعلى مدار الفترة نفسها قوة عاملة من الأسرى من خلال معاملة الفلاحين الأحرار سابقا على أنهم عبيد، وهو ما دعم تكاسل النبلاء لفترة طويلة بعدما لم تعد الخدمة العسكرية التزاما رسميا. استغل بعض النبلاء أراضيهم على نحو مباشر من أجل الحصول على الربح، خاصة عندما كانت مساحة هذه الأرض صغيرة. فمن بين الأرستقراطيين في بروسيا، أو العدد الوافر من النبلاء في بولندا أو المجر، كان أصحاب الأراضي الصغيرة يزرعون من أجل البيع في السوق؛ إذ كانوا إما يبيعون ما يزرعونه من حبوب أو يقومون بتقطيرها من أجل صنع المشروبات الروحية، وكانوا يحرثون الحقول حاملين سيوفا خشبية للدلالة على مكانتهم. إلا أن هذا كان بدافع الحاجة، لا بناء على رغبتهم؛ فقد كان النموذج المثالي السائد للنبلاء حيازتهم لمساحات ضخمة من الأرض يزرعها مستأجرون أو عبيد، يدفعون أجورا أو رسوما، أو يعملون في خدمة سيدهم أو وكيله الذي يعيش داخل قلعة أو منزل ريفي فخم لدرجة تعكس ثروة التملك وهيبة السيادة. كان الأغنياء الطامحون في الحصول على مكانة النبلاء في كل مكان يعلمون أنهم، عاجلا أم آجلا، لا بد لهم من استثمار ثروتهم في الأراضي ونمط الحياة المصاحب لها. مع هذا كان النبلاء الفقراء فقط هم من يقضون معظم وقتهم في الريف؛ فقد حرر الاعتماد على الإيجارات نظراءهم الأغنياء من الإشراف اليومي على ما يملكونه من أراض، وعلى أي حال كانت عادة الأراضي، التي يملكها أكثرهم ثراء، متفرقة على نطاق واسع. وقد كان التغيب عن أراضيهم - وهو الأمر الذي طالما ازدراه المؤرخون واعتبروه علامة على عدم اكتراثهم بمصادر ثروتهم - أمرا حتميا لأي إنسان لديه ممتلكات ومنازل ريفية في العديد من المقاطعات أو الإمارات. على أي حال لم يستطع إلا عدد قليل من النبلاء الأغنياء مقاومة المغريات الاجتماعية والعصرية لحياة المدينة؛ فاشتهرت العائلات الأرستقراطية في إسبانيا أو إيطاليا بأنها قلما كانت تزور ممتلكاتها في الريف، وهذا عندما يكون الطقس طيبا. كما أن المهام التي كانت توكل إلى الموظفين الحكوميين، سواء الجنود أو القضاة أو البيروقراطيون، دفعتهم إلى الابتعاد عن أراضيهم لفترات طويلة. وأحد أسباب انتشار ثورات العبيد خلال العقد الأول من حكم كاثرين الثانية في روسيا هو ظهور النبلاء مرة أخرى في الريف عقب تحررهم من الخدمة الإجبارية في عام 1762م واعتزامهم استغلال العبيد على نحو أكثر منهجية؛ وعليه، من الواضح بالتأكيد أن التغيب عن الممتلكات قد يكون - في بعض الحالات - أمرا حميدا. إلا أن الأهمية السياسية للسادة الكبار قضت بأن يقضوا معظم وقتهم في البلاط والعواصم، بصرف النظر عن كبر حجم المنازل الريفية التي بنوها وزخرفوها من أجل ممارسة سلطتهم في الريف الذي يمدهم بدخلهم الأساسي.
بالإضافة إلى هذا لم تكن الزراعة المصدر الوحيد للعائدات من الأراضي؛ ففي المنطقة المحيطة بالمدن الآخذة في الاتساع، أمكن لملاك الأرض تشييد مبان على حقولهم وتأجيرها مقابل مبالغ طائلة. لقد كون هذا ثروات أسر الدوقات في بريطانيا - أسرة بيدفورد وأسرة وستمنستر - التي حصلت على المال من توسع مدينة لندن جهة الغرب. كذلك من الأمور المربحة، التي ظهرت في الضواحي الأبعد، الرواسب المعدنية، خاصة عندما زاد الطلب في أوائل فترة التحول إلى التصنيع؛ فقد حقق تعدين الفحم ثروة لا توصف لدوق دي كروي في فرنسا في القرن الثامن عشر، أو لدوق بريدجووتر في إنجلترا؛ فقد أدى بيع بريدجووتر للفحم الذي يتم العثور عليه إلى مدينة مانشستر القريبة إلى بناء القنوات. وفي القرن التالي ساعد تصدير الفحم عبر الميناء الذي بناه مركيز بوت في كارديف في جعله أغنى رجل في بريطانيا العظمى. من ناحية أخرى، في كثير من أجزاء القارة الأوروبية، أعاقت حقيقة أن ثروات باطن الأرض لا تزال تحت نطاق السيطرة الملكية محاولات النبلاء استغلال فرصة امتلاك أراض غنية بالثروة المعدنية.
لكن لم تكن الأرض قط في أعين الأرستقراطيين مجرد مصدر للدخل؛ فقد كانت تعني السيادة أيضا، بعدما بليت الرابطة الإقطاعية التي انبثقت منها هذه العلاقة المتبادلة بوقت طويل. سيطر ملاك الأراضي الكبار على المجتمع في أحيائهم، ومارسوا حقوقهم الإقطاعية المتبقية بوصفهم سادة الضيعات، في ظل وجود حاشيتهم لتطبيق هذه الحقوق. وقد أولوا اهتماما كبيرا للإحسان والحماية اللذين يوفرونهما لمستأجريهم الخاضعين. ومع هذا أمام كل حالة يؤسس فيها منزل للفقراء وتوفر سبل التسلية للتابعين، يمكن العثور على أمثلة على نقل قرى بأكملها من أجل إفساح المجال لإقامة متنزهات، أو على تدمير الصيادين لحقول بأكملها، أو على انتزاع رسوم وخدمات إلى أقصى حد، بل وحتى أكثر من هذا. لكن، سواء أكان هذا من قبيل السخاء أو الجشع، فإن جميع هذه الحالات تظهر السلطة غير القابلة للطعن التي ظلت مصاحبة لملكية الأراضي حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وفي كثير من الأحيان إلى ما بعد ذلك. (2) وقت الفراغ
يقدر الأرستقراطيون وقت الفراغ؛ فقد تعلموا من التعليم الكلاسيكي احترام اعتزاز النبلاء الرومان بالراحة والدعة كهدف سام، في مقابل المعاناة والمشقة، أو ببساطة العمل. لقد كان وقت الفراغ مطلبا أساسيا للأرستقراطيين؛ حتى يستطيعوا القيام بالأشياء الأخرى المتوقعة منهم. وقد اشتمل هذا على سبل للترفيه عن أنفسهم، صدر عن كثير منها هوايات وأنشطة أكثر جدية يمارسها النبلاء.
كان القتل دوما إحدى الطرق المفضلة لدى النبلاء لقضاء الوقت. فحتى في وقت السلم يخاطر الفرسان بحياتهم في المبارزة بالرماح. كما ظلت المبارزة بالسيوف تعد أحد إنجازات النبالة الأساسية حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر؛ حيث كانت تستخدم المبارزات في الدفاع عن الشرف. وعندما أصبحت الأسلحة النارية أمرا واقعيا، أضحت الرماية سمة مميزة أخرى للنبلاء، تجدي نفعا في المبارزات لكنها استخدمت في الأساس مع الطيور والحيوانات الضارة للمزارعين، لكن زادت تربيتها أو سمح لها بالتكاثر لمجرد أن يطلق النبلاء النار عليها. وقبل هذا وذاك كان هناك الصيد الذي كان بمنزلة التدريب الأمثل للحروب التي يمتطي فيها المقاتلون الخيل، لكنه كان أيضا يصقل مهارات ركوب الخيل في عصور لم تكن ثمة وسيلة مواصلات أسرع من الحصان. تمتع جميع النبلاء بالقدرة على امتطاء الخيول، وكانت هيبتهم تتجلى في نوعية الخيل التي يركبونها ومدى براعتهم في امتطائها. وعندما أراد البرلمان الأيرلندي البروتستانتي في القرن الثامن عشر تدمير سلطة طبقة الأعيان الكاثوليك، منعوا أي كاثوليكي من امتلاك حصان تزيد قيمته على خمسة جنيهات. كانت الغزلان الفريسة الأساسية للصيادين، بجانب الذئاب في العصور القديمة والثعالب حديثا، عندما أدى صيد الحيوانات الأكثر وحشية إلى انقراضها. أظهر الناس عواطف جياشة تجاه الصيد، وكان السادة الأكثر ثراء يمتلكون إسطبلات كبيرة ويربون بعناية مجموعات من كلاب الصيد. وفي حين خصصت مساحات شاسعة من الغابات من أجل رفاهيتهم، فإنهم في حماس المطاردة لم يكترثوا باجتياح الحقول المزروعة أو بالدمار الذي قد يلحقونه بممتلكات غيرهم. وبالنسبة إلى الطموحين اجتماعيا كانت هذه المطاردات باستخدام كلاب الصيد إحدى الطرق المهمة لاندماجهم في المجتمع الأرستقراطي.
يمكن أيضا إقامة سباقات بين الخيول، وفي الثقافة الأرستقراطية كانت الخيول الأصيلة تقريبا في نفس أهمية رياضات الصيد. كان النبلاء الأكثر ثراء يربون خيول السباق، وأصبحت اللقاءات في السباق أماكن مهمة للتواصل الاجتماعي، بل وأيضا لإجراء مناقشات في الشئون العامة. وما زالت أندية الجوكي التي استمرت في السيطرة على سباقات الخيل أحد آخر معاقل الحصرية الأرستقراطية. نادرا ما كان النبلاء يشاركون في المنافسة، عدا طبقة الأعيان الصغيرة في المناسبات المحلية، لكنهم كانوا يتصدرون المراهنة على النتائج؛ فقد كانت المقامرة تتماشى مع الغريزة الأرستقراطية؛ بما فيها من شجاعة ومخاطرة ومجد ونجاح دون عناء أو مبالاة بالخسارة. ولم يكن هذا قاصرا على حلبة السباق فحسب؛ ففي بداية العصر الحديث، جعلت الليالي الطويلة المملة في القصور الواسعة لعب الورق أسلوبا عاما لقضاء وقت الفراغ، وفي أعلى المستويات كان يراهن على مبالغ طائلة من المال. ظهرت كثير من القصص عن ثروات ومواريث ضاعت في لعب الورق؛ فقد كان دفع الأموال مسألة تتعلق بالشرف. وكما يحدث دوما، فإن مثل هذه الحالات الشهيرة تهدف إلى التأثير في المشاعر أكثر من كونها تعبر عن الواقع. فلو لم تكن هذه القصص كذلك، لكانت دمرت طبقات كاملة من النبلاء. لقد كانت مجرد تحذيرات دورية لما يمكن أن تؤدي إليه المزاولة المفرطة للهوايات الرائجة.
بينما كان الصيد والرماية إلى حد كبير حكرا على الرجال، كانت النساء يزاولن لعب الورق بنفس حماسة الرجال. كذلك كان الرجال والنساء يتشاركون بالمثل في تذوقهم الأرستقراطي للفن المسرحي؛ فكانت العروض المسرحية جزءا أساسيا في تعليم النخبة من الجنسين منذ أواخر القرن السادس عشر، وكانت المسارح العامة، التي نشأت أثناء هذا الوقت تقريبا، بمنزلة أماكن يأتي إليها الأشخاص العصريون للقاء بعضهم البعض تماما كما يأتون لمشاهدة العرض. وعندما قام الثوريون الفرنسيون بنفي النبلاء، شارف المسرح الباريسي على الانهيار. وحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت معظم المسرحيات الناجحة تدور حول أفعال شخصيات نبيلة وما تتعرض له من مآزق، كما أن العروض المسرحية غير المحترفة، مثل العروض التي قامت على أساس جزء كبير من رواية «حديقة مانسفيلد» للكاتبة جين أوستن، بدلا من لعب الورق الذي لا نهاية له؛ كانت شائعة بين سكان المنازل الريفية طوال القرن الثامن عشر. أما الرقص بوصفه إنجازا أرستقراطيا للجنسين فتاريخه أطول من ذلك، وكان من المتوقع دوما من النساء أن يكتسبن مهارات موسيقية أولية على الأقل.
ظهر كثير من إنجازات الأرستقراطيين وسبل تسليتهم داخل المنزل منذ أواخر القرن السابع عشر في المنتجعات. لقد أعطت المياه المعدنية لبلدة صغيرة في أبرشية مدينة لييج هذا الاسم العام للمنتجعات الصحية التي بها ينابيع مياه علاجية في جميع أنحاء أوروبا، وفي هذه المنتجعات اعتاد أفراد المجتمع العصري، الذين لم يكن جميعهم يعانون من المرض، على الالتقاء هناك. إن منتجع بادن-بادن في ألمانيا، ومنتجع بانيير أو بلومبيير في فرنسا، وفوق كل هذا منتجع مدينة باث في إنجلترا - أكبر منتجع في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر - أصبحت جميعها مراكز للطبقات الراقية، شعر كل من يدعي انتماءه لطبقة النبلاء بضرورة التردد عليها. واستمتع هؤلاء الزوار المتميزون، داخل مساكن أنيقة، بحلقة منتظمة من التواصل الاجتماعي المهذب بمنأى عن الهوايات العنيفة التي مارسها أجدادهم (المزعومون) في العصور الوسطى. وكان القاسم المشترك بينهم عزمهم على التفاخر برتبتهم. (3) المظهر
تدعو الأرستقراطية للفخر، فلا بد للتميز أن يظهر نفسه ويبهر الناظرين. بدأت أقدم علامة على تميز النبلاء - شعار النبالة - كوسيلة لتحديد هويتهم في أرض المعركة، لكنها أصبحت رمزا للتزيين يوضع على كل شيء له أهمية: المباني والعربات وأزياء الخدم الرسمية، والكتب وورق كتابة الملاحظات وأختام التوقيع والمقابر. نشأ علم سري كامل للأنساب حول هذا الأمر. فضل النبلاء أيضا الأسماء المعقدة، وكانوا ينطقونها أحيانا بطرق غير متوقعة من أجل إرباك الأقل منهم مكانة غير الواعين بالنطق الصحيح لتلك الأسماء، مثل تشوملي التي تكتب تشولموندلي، وبروي التي تكتب بروجلي، وكاستري التي تكتب كاستريز. والأقل وضوحا من هذا كان سعي الأرستقراطيين دوما إلى ارتداء ملابس مميزة، اعتقادا منهم أن أعضاء مجلس الشيوخ الرومان كانوا يرتدون أثوابا فضفاضة وأحذية خاصة. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر حاولت قوانين تحديد الإنفاق في كثير من الدول منع عامة الشعب من ارتداء الأثواب الباهظة الثمن التي جرى الاعتقاد بأنها مناسبة للنبلاء، لكن كثيرا من عامة الشعب الأغنياء كان بإمكانهم شراؤها، في حين لم يستطع كثير جدا من النبلاء ذلك. أما النبلاء الذين كانت لديهم الإمكانيات المادية، فقد بحثوا عن طرق تجعل مظهرهم مختلفا عن غيرهم؛ سواء بشكل ظاهر، عن طريق حمل السيوف طوال الوقت أو ارتداء رتبهم أو الأوسمة أو المجوهرات، أو بطريقة أقل ظهورا عن طريق اختيار نوع القماش أو طريقة التصميم. وفي فرنسا ظلت موضة النعال الحمراء في بلاط لويس الرابع عشر تشير إلى النبلاء لأجيال بعد اختفاء هذه الموضة.
لقد حاول النبلاء دوما تجنب التنقل سيرا على الأقدام؛ فكانت رشاقة الحصان وسرعته، فضلا عن ثمنه، أقوى دلالة مادية على الرتبة. وعلى مدى القرون الأولى من العصر الحديث زاد انتشار العربات، وما يصاحبها من سائسين للخيل وسائقين وخدم يركضون بجوارها، وقد علق جون راسكن بامتعاض على هذا، فقال إن هذا كله لأجل «إحراج الناظرين من العامة». في الواقع كان الخدم من كافة الأنواع مرافقين أساسيين للنبلاء، وكلما زادت مكانة أحد النبلاء، أصبح من المتوقع أن يزيد حجم حاشيته. وكان لزاما على ذوي النفوذ أصحاب الضيعات المترامية الأطراف تعيين طاقم عاملين في كل أجزائها، حتى إن كان هذا فقط من أجل صيانة القلاع أو المنازل الضخمة التي كانت أحد أهم مظاهر السلطة والنفوذ الأرستقراطي.
شكل 3-1: جورج فيليرز، دوق باكنجهام (1592-1628م): أحد المقربين من العائلة المالكة يظهر أرفع وسام من أوسمة الفروسية.
إذا كان الفقر المدقع قد أجبر ملاك الأراضي في الريف على الحياة في تقشف في منازل ريفية بسيطة أو قلاع اختفت قيمتها العسكرية بسبب اختراع البارود، فإن بناء مسكن مناسب أو تحسينه كانت له الأولوية دوما لدى الأرستقراطيين الذين لديهم أموال فائضة أو سمعة طيبة. كان أصحاب النفوذ يمتلكون قصورا حضرية في المدن الرئيسية، مثل القصور التي ما زالت موجودة في أماكن متفرقة في جميع أنحاء باريس أو فيينا أو براغ أو سانت بطرسبرج. وفي لندن، يعد قصر سبنسر هو الوحيد الذي يستحضر ذكرى المنازل الكبرى التي لم تعد موجودة في العصر الحالي؛ مثل منازل دوقات ديفونشاير أو نورثمبرلاند. إلا أن القصور الأساسية لهؤلاء النبلاء كانت - وما زالت - موجودة في الريف؛ مثل منازل ألثورب وتشاتسوورث وألنويك في بريطانيا. ظهرت فعليا لأول مرة المنازل الريفية غير المحصنة البعيدة عن تهديد الحرب في القرن السادس عشر، وقد بني كثير منها على أنقاض أديرة مهدمة. وفي القرن الثامن عشر ظهرت محاكاة لها، وللحدائق المحيطة بها، في جميع أنحاء القارة الأوروبية. ويمكن زيارة أكبر هذه المنازل الريفية حتى الآن؛ مثل قصر شانتيه لأمير كوندي في فرنسا، أو قصر بولوي لأمير قرية لينية في بلجيكا، أو - أشهرها على الإطلاق - قصور إسترهازي في النمسا والمجر التي أقام فيها المؤلف الموسيقي جوزيف هايدن. استمر بناء المنازل الريفية - الأكثر فخامة أكثر من أي وقت مضى - حتى وقت أزمة العائدات الزراعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، رغم أنه كان من المتعارف عليه على نطاق واسع أن تشييد المباني هو الطريقة المؤكدة لتبديد الثروة. ومع هذا، في عالم المظاهر الأرستقراطية، وفي خضم الاهتمام الدائم بالموضة، لم يواصل سوى قلة قليلة منهم الحياة داخل حصون كئيبة، خاصة عندما كان الوافدون الأغنياء الجدد يعلنون عن انضمامهم لهذه الطبقة عن طريق تشييد منازل على أحدث صيحة. ولم يحدث إلا في القرن العشرين أن بدأ كثير من أصحاب «المساكن الفخمة» ينظرون إليها باعتبارها عبئا. وبحلول هذا الوقت، ومع عودة ازدهار ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت هذه المنازل تعتبر على نطاق واسع تراثا ثقافيا قيما، وقد دمر كثير منها أو تحول إلى مؤسسات.
ليس من قبيل المصادفة أن كثيرا من هذه المساكن تبدو ذات طابع مسرحي؛ فهي تشكل مسرحا أساسيا - أو خلفية - لمسرح العروض الأرستقراطية. فنظرا لموقع هذه المنازل في قلب الضيعات الكبرى، كان النبلاء يرفهون عن أنفسهم فيها ويظهرون أقدم القيم المرتبطة بالأرستقراطية، من سخاء وحسن ضيافة. كانت المنازل الكبرى تفتح أمام الجمهور عند الطلب، قبل قرون من فتحها أمام الزائرين الذين يدفعون تذاكر. وكان يرفه أحيانا عن المستأجرين بطعام أو مشروبات أو ألعاب أو عروض، حتى وإن اقتصرت هذه العروض على مجرد مشاهدة كلاب الصيد وهي تنطلق للصيد. اعتبر جميع النبلاء الترفيه عن ملكهم شرفا عظيما، رغم استخدام الحكام أحيانا الجولات الملكية عن عمد لاستنزاف ثروة رعاياهم المفرطي القوة الذين كانوا يستدعون للإنفاق على البلاط بأكمله؛ فقد اشتهر لويس الرابع عشر بشعوره برعب شديد من الثراء الذي أظهره فوكيه - مديره المالي - عند ترحيبه به في عام 1661م، لدرجة أنه أمر بإلقاء القبض عليه وسجنه مدى الحياة. وأخيرا، نتحدث عن مشهد الموت؛ فقد فضل النبلاء الجنازات الفخمة والمهيبة، وتوقعوا أن يدفنوا داخل أبرشية الكنائس بجوار أسلافهم، إن لم يكن في أضرحة العائلة. وقد كانوا يعلمون أن من سيبقون منهم على قيد الحياة من بعدهم سيخلدون ذكراهم بنصب تذكارية مزخرفة ونقوش لفظية تعرض فضائلهم وإنجازاتهم، مما يضيف إسهامهم بعناية إلى سجل التميز العائلي المتنامي.
شكل 3-2: قصر إسترهازي، في المجر: واحد من المنازل الريفية الكثيرة التي خصصت لقائد الأوركسترا جوزيف هايدن.
كان الحرص على المظاهر أمرا مكلفا، فحتى أغنى الأرستقراطيين كانوا يميلون إلى الإنفاق وصولا إلى حدود دخلهم، وعادة ما كانوا يتخطونها. وساد نمط أدبي قوي عن النبيل المسرف المثقل كاهله بديون يجلبها على نفسه بسبب إهماله ويتأخر في سدادها على نحو مخز، هذا إن سددها من الأساس. وفي واقع الأمر كانت الديون العرضية الوحيدة التي يسددها النبلاء في موعدها بالضبط، هي ديون القمار؛ إذ إنها تتعلق بالشرف. في المقابل كان التجار والمقاولون عادة ما ينتظرون سداد أموالهم لسنوات، وفي إنجلترا حتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن سجن النبلاء من أجل دين مسموحا به. وقد خاطر آلاف الدائنين بالتعرض للانهيار عندما يتعرض أحد النبلاء الكبار إلى الإفلاس على نحو مذهل. لكن نظرا لأن الحد الفاصل بين الإفلاس والاحتيال أصبح أقل وضوحا مما أصبح عليه الحال فيما بعد، أصابت وصمة العار نبلاء آخرين. ومع هذا فإن بيع الممتلكات من أجل تجنب الدين لم يكن أمرا سهلا طوال الوقت؛ فمعظم الضيعات الواسعة كانت محمية دوما بأوقاف محكمة الصياغة. وعلى أي حال، كانت الحكومات تعارض دوما رؤية انهيار ممتلكات النبلاء من الأراضي عن طريق البيع الإجباري، وفي أواخر القرن الثامن عشر أسس كثير من حكام أوروبا الشرقية بنوكا عقارية من أجل إقراض النبلاء ذوي الرتب المنخفضة قروضا مالية بأسعار فائدة مميزة. ونظرا لأن هذه البنوك أسست من أجل الحفاظ على ثروة النبلاء ، فإنها نادرا ما كانت تحجز على الممتلكات إذا ما تخلف المقترضون عن الدفع. وعندما تكون الضيعات موقوفة، فإن الحجز عليها على أي حال يصبح مستحيلا من الناحية القانونية. إلا أن أكبر القروض العقارية التي حصل عليها النبلاء نادرا ما كانت تستخدم لتمويل أمور تافهة، بل للتخفيف من عبء المهور والتسويات الأسرية، فضلا عن تحسين الضيعات أو توسيعها. وكان يخطط لمثل هذه القروض بعناية، وتحدد مصادرها بحكمة. وكان النبلاء أنفسهم هم من يشجعون بعناية الأساطير التي تدور حول السخاء الأرعن الذي يفضل نقاد طبقة النبلاء الخوض فيه. لكن لو كان النبلاء بالفعل بمثل هذا الإهمال في أموالهم، لما بقي عدد كبير منهم طوال هذه المدة الطويلة. (4) التعليم
كان الإنجاز دون عناء - أو على الأقل ما كان يبدو كذلك - أحد الجوانب القيمة في مظاهر النبالة؛ فلا بد أن تكون مظاهر التميز واضحة؛ فالصفة البارزة التي اتصفت بها الشخصيات اللامعة في كتاب بالداساري كاستيليوني «رجل البلاط» (1528) - الذي ربما يكون من أكثر الكتيبات خضوعا للدراسة فيما يتعلق بالسلوك الأرستقراطي - كانت «اللامبالاة المدروسة»، وهي ازدراء أي مظهر من مظاهر بذل الجهد. لم يكن للتعليم الرسمي قيمة كبيرة لدى النبلاء في العصور الوسطى؛ فالتدريب الوحيد الذي كانوا بحاجة إليه هو تجهيز أنفسهم للنجاح في ساحة المعركة، وحتى في هذا السياق طغى زعم الشجاعة الفطرية على الحاجة إلى تعلم مهنة الجندي. ولم يعزز الأدب والفن مكانتهما من جديد باعتبارهما يرتبطان بالطبقة الأرستقراطية إلا بين غير العسكريين في شمال إيطاليا، الذين اقتدوا بالنخبة في روما القديمة لكنهم كانوا يوظفون مرتزقة للقتال بدلا منهم. انتشر الأدب والفن ببطء حتى بين الفرنسيين المهتمين بأحدث الصيحات. وكان رجال البلاط الرفيعو الثقافة في كتاب كاستيليوني يتحسرون دوما على أن اهتمام جميع النبلاء الفرنسيين ينصب كله على القتال. وبعد مرور مائة عام، كان التحيز الفرنسي ضد التعليم ما زال قويا؛ فقد تأمل الكردينال ريشيليو قائلا إن الحكومة «لم تكن معنية بالرجال الذين يتقنون اللغة اللاتينية بقدر ما كانت معنية بأولئك الذين يملكون أراضي .» لكن بحلول ذلك الوقت، أصبحت اللغة اللاتينية إحدى ركائز التعليم حتى لملاك الأراضي؛ فقد كانت الدول ذات الطموحات التوسعية بحاجة إلى أفراد متعلمين من العامة لتولي إدارتها، وكانت المكافآت في المناصب العليا كبيرة بحيث يصعب على النبلاء مقاومتها. كما جعلت الانشقاقات الدينية التي حدثت نتيجة لحركة الإصلاح الديني جميع الطوائف تطمح إلى غرس مفهوم تقريبي لما يفترض الإيمان به في أذهان قادة المجتمع. ومع وضع هذا في الاعتبار جعلت جماعة الجزويت، التي أسسها جندي إسباني نبيل وثري، من واجباتها الاضطلاع بمهمة تعليم معظم النخبة الكاثوليكية في أوروبا وقواعدها العسكرية في الخارج. وهكذا شهد القرن السادس عشر توسعا مذهلا في مؤسسات التعليم الرفيع المستوى في جميع أنحاء أوروبا، وفي نهايته كان يتوقع ألا يصبح النبلاء متعلمين فحسب، بل أيضا بارعين في اللغة اللاتينية. ومع هذا لم يلتحق بالجامعة إلا عدد قليل منهم، والتحق عدد أقل بشهادات تشتمل على احتمال إجراء اختبار (رغم أنه إجراء روتيني) على يد أشخاص أقل منهم في المكانة الاجتماعية، لكن ظلت أعداد الدارسين في الكليات والأكاديميات في زيادة مستمرة؛ حيث كانت المهارات الأرستقراطية التقليدية مثل الفروسية أو المبارزة تدرس بجانب الأدب.
لم يتمكن من الالتحاق بهذا النوع من التعليم العالي الكلفة سوى أغنى الأشخاص وأكثرهم طموحا. وفي العصور الوسطى، تعلم أبناء أصحاب الرتب العليا أساليب الحياة الأرستقراطية عن طريق عملهم خدما في منازل الأمراء أو أصحاب النفوذ، واستمر هذا التقليد في أوساط معينة. كذلك انتشر تعيين المدرسين الخصوصيين على نطاق واسع لتقديم تعليم أرستقراطي مميز، وكانوا يصاحبون طلابهم فيما كان يعرف ب «الجولة الكبرى» التي أصبح ينظر إليها في القرنين السابع عشر والثامن عشر على أنها ذروة تكوين أي نبيل شاب ثري. وكانت هذه الجولة تستمر مدة تتراوح بين بضعة أشهر وعدة سنوات، وكانت مخصصة لتمكين الشباب المقدر لهم شغل مهن عامة من التعرف على عالم الثقافة الرفيعة والمجتمع الراقي عن تجربة شخصية. وفي هذه الجولة، كان يفترض بهم زيارة القصور ومشاهدة التدريبات العسكرية وإتقان لغات أجنبية وفحص النصب التذكارية والحصول على تذكارات ثقافية. ويسعى الجميع إلى أن تكون محطتهم النهائية إيطاليا، بلد الفن والموسيقى والكلاسيكيات. وبالتأكيد يزورون فرنسا وأحيانا هولندا. إلا أن الهدف كان يتمثل في أن يسعوا أينما ذهبوا - على حد قول إيرل تشيسترفيلد لابنه وهو ينصحه في عام 1748م - إلى «محاكاة أوجه التميز الحقيقية لدى الصحبة الطيبة التي ربما يحصلون عليها وذلك ببصيرة وحكمة؛ تقليد ما يتسمون به من تهذيب، ومشيتهم، وأسلوب كلامهم، وأسلوبهم السلس والمهذب في الحديث.»
مع هذا كانت هذه الجولة الكبرى تتعدى دوما الإمكانيات المالية لمعظم النبلاء، وحتى بين أغنى النبلاء استمر هذا التقليد بالكاد عقب الاضطرابات التي أثارتها حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. وفي النهاية أصبحت الحكومات قلقة من تكلفة تعليم الشباب النبلاء حتى يصلوا إلى مكانتهم ويتقلدوا وظائفهم التقليدية. على مدار القرن الثامن عشر، أقيمت أكاديميات عسكرية من أجل تقديم منح دراسية وتدريب للنبلاء الفقراء. وفي واحدة من هذه المؤسسات تعلم نابليون بونابرت، الذي كان من عائلة كورسيكية قديمة لكن فقيرة، أسس وظيفة الجندي. وأظهرت المعارك العظيمة التي خاضها الأهمية المتزايدة للاحتراف العسكري، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كانت جميع القوى العظمى لديها مدارس مركزية للضباط، كان معظم طلابها العسكريين من النبلاء. لكن قبل الالتحاق بهذه المدارس، كان النبلاء يفضلون التعلم بمعزل مع أبناء طبقتهم. وفي معظم الدول كان عدد قليل من مدارس النخبة، مثل إيتون أو وستمنستر في إنجلترا، أو كليات الضفة الجنوبية الكبرى في باريس، يقبلون أعدادا متفاوتة من النبلاء. وكانت مدرسة ألكسندر الروسية، التي تأسست عام 1811م، لا تقبل إلا النبلاء. وقد أعطى المنهج الدراسي الأساسي المتمثل في دراسة الكلاسيكيات جميع من خضع له لغة خاصة وكما من المراجع مدى الحياة، في حين كان يعتقد أن أسلوب التأديب الوحشي (في القرن التاسع عشر) والترويج الجامح للرياضات والألعاب، أسلوب جيد للإعداد لحياة السلطة والأفعال المؤثرة. وربما استمرت الغالبية العظمى من النبلاء في عدم الثقة في «استقاء العلم من الكتب» بهذا القدر البالغ بوصفه أبعد ما يكون عن متطلبات الرجل النبيل، لكنهم جميعا كانوا يشعرون بأنهم مجبرون - بعدما شككت الثورة الفرنسية في الأساس المنطقي بأكمله للطبقة الأرستقراطية - على إعداد أنفسهم على نحو أكثر منهجية لمواجهة العالم الجديد.
على الأقل هذا ما فعله الرجال، أما فيما يتعلق بالنساء الأرستقراطيات، فلم يحدث تطور ملموس في متطلبات التعليم لديهن على الإطلاق؛ فكما الحال مع الرجال - أو ربما أكثر - كان يعتقد أنه من المستحب أن يتلقين تعليما مستقلا؛ فقد كانت الفتيات الأعلى مكانة، المقدر لهن منذ ولادتهن الحصول على زيجات استراتيجية لتدعيم السلالة، يحصلن على تعليم خاص، أو - في الدول الكاثوليكية - يوضعن في رعاية راهبات أرستقراطيات في أديرة خاصة. كانت السيدات اللاتي يحققن أعلى الإنجازات الثقافية يظهرن دوما في المجتمع الراقي، بداية من اللاتي قدن النقاش في قصة «رجل البلاط» لكاستيليوني، وحتى مضيفات الصالونات الأدبية اللائي فعلن الكثير من أجل الترويج لقيم التنوير في فرنسا في عصر لويس الخامس عشر. لكن حتى مستشار مهذب مثل تشسترفيلد كان يعتقد أن النساء لا يحتجن إلى معرفة اللغة اللاتينية، ومن وجهة نظر شخص ضيق الأفق مثل نابليون لم تكن هناك مهمة أخرى للنساء سوى إنجاب الأطفال؛ فكان لا بد للنساء أن يتسمن بالتهذيب، وأن يكن خاضعات، كما كان يجب عليهن أن يكن بارعات في الحساب، من أجل إدارة حسابات المنزل، وأن يكن قادرات على الرقص، ويفضل أن يبرعن في الغناء والعزف على إحدى الآلات الوترية (آلات النفخ كانت تتنافى مع التأنق). وعند ركوبهن الخيل، كن يجلسن في سرج جانبي بحيث تضع كل منهن كلتا ساقيها على نفس جانب الحصان. لكن في النهاية، كن يعلمن أن وظيفتهن الوحيدة الأساسية كأرستقراطيات، على حد وصف إحدى الدوقات الإنجليزيات في القرن الحادي والعشرين، هي إنجاب الأطفال . (5) البلاط ورجاله
لعدة قرون ظلت الصورة التقليدية للأرستقراطي - المثالي - هي صورة رجال البلاط الملكي. فمع وابل الاستنكار الذي اكتنف هجوم الثورة الفرنسية على النبلاء، كانت معظم العادات والادعاءات المنسوبة للنبلاء بوجه عام مرتبطة بالبلاط؛ مثل الازدراء المتعجرف، وعدم الاكتراث بالأقل منهم مكانة، والخنوع للأعلى منهم في المكانة، والنفاق، والجشع، والتبذير، والديون، والمحسوبية، والفساد الأخلاقي بكافة أشكاله. تستند هذه التهم على تراث أدبي طويل، صقل معظمه بعناية نبلاء ناقمون ليست لديهم القدرة على تحمل تكاليف حياة البلاط، وكانوا يطالعون تلك الحياة بمرارة من بعيد. والمفارقة أن جميعهم في النهاية وسموا بالصفات السيئة نفسها. مع هذا حدد البلاط بالفعل معيارا مثاليا حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر. حذر تشسترفيلد ولده قائلا: «اللغة والمظهر الخارجي والملابس وسلوكيات البلاط هي المعيار الحقيقي الوحيد ... فالإنسان الموهوب، الذي تربى في البلاط، وكان يصاحب أفضل الناس، سيميز نفسه ويختلف عن عامة الشعب، بكل كلمة وتصرف وحركة، بل وحتى بكل نظرة.»
كانت عوامل الجذب في البلاط هي السلطة والمكانة والأجر، وجميعها وثيقة الصلة بعضها ببعض. فكان البلاط «منزل» الملوك، الذين كانوا، بالإضافة إلى السلطة التي كانوا يستخدمونها ويوزعونها، يتفاخرون بكونهم أول نبلاء في ممالكهم - أرفع النبلاء مكانة بلا جدال - وهم من يحددون معايير المظاهر والسلوك الأرستقراطي الذي يحاكى - وفقا للموارد المالية - على مدى التسلسل الهرمي للنبلاء. لقد كانت ثقة الملوك هي مفتاح سلطتهم، وكانوا يمنحونها فقط لمن يعرفونهم. وفي المقابل شعر كبار النبلاء بأنهم أهل لهذه الثقة، لكن حتى يكتسبوها كان لا بد لهم من الوصول إلى الحاكم، وأن يشاهدوا بصحبته، ويشاركوه متعه وهواياته، وجذب انتباهه. ولم يكن البلاط قط حكرا على النبلاء؛ فقد كان نواة لشبكات واسعة من الوظائف والخدمات التي يديرها إلى حد كبير عامة الشعب. إلا أن النبلاء وحدهم هم من كانوا يشعرون بأنه من حقهم الوجود في هذا المكان، وكان يجذبهم بشدة لدرجة أن بعضا منهم كان بحاجة إلى أن يتم إبعادهم عنه. إن نظام «ألقاب البلاط الشرفية» الذي أنشأه لويس الخامس عشر في فرنسا (1715-1774م)، والذي استثنى منه أي عائلة ليست نبيلة لم تحصل على مكانة النبالة منذ القرن الخامس عشر من المثول بين يدي الملك أو الذهاب إلى الصيد معه، لم يكن يهدف لاسترضاء كبرياء العائلات بقدر كونه أداة لوجستية تهدف إلى تقليل الأعداد.
مع هذا لم تكن تبقى كثير من العائلات المؤهلة داخل البلاط حتى بعد حصولها على اعتراف شعائري؛ فقد كان المؤهل الحقيقي للبقاء داخل البلاط هو القدرة على تحمل نفقاته؛ فالتغير الدائم في الموضة، وأساليب الترفيه المترفة، والمقامرة الراقية، فضلا عن الحاجة إلى اتباع الملك في جولاته الملكية؛ كانت جميعها من الأمور الباهظة التكلفة. وشعرت أسر رجال البلاط كذلك بالحاجة إلى الاحتفاظ بمنازل في المدن الرئيسية، وهي أماكن أنيقة وباهظة التكلفة. فحتى أكبر الدخول تدمرها مثل هذه المتطلبات، وأحد الأمور التي استحوذت على اهتمام رجال البلاط المستمر حصولهم على هبات لا يحصل عليها غيرهم؛ من معاشات ومناصب ووظائف تدر دخلا جيدا دون جهد، تأتي من عائدات الملك. ومن هذا المنطلق، كلما قلت قدرتهم على تحمل نفقات البقاء في البلاط، زادت حاجتهم إلى الوجود فيه.
في ظل الحكم الملكي المطلق، الذي ساد في معظم الدول حتى القرن التاسع عشر، كان البلاط منتدى للسياسة العليا، وموقعا لجميع عناصر القوة، ومكانا للحماية والترقي والمحسوبية. فحتى في بريطانيا العظمى، التي كانت دولة برلمانية منذ أواخر القرن السابع عشر، كان شرف الجلوس مع الملك عظيما، وكانت المكافآت الشرفية والمادية الناتجة عن ذلك هائلة، على الأقل حتى وفاة زوج الملكة فيكتوريا؛ فلم يكن يطمح كثير من الوزراء حتى توليها الحكم في الاحتفاظ بأغلبية برلمانية لوقت طويل دون الدعم الصريح من الملك. وعندما نصب نابليون نفسه إمبراطورا، شعر بالحاجة إلى دعم مكانته عن طريق إحياء شيء كالبلاط الذي كانت قد دمرته الثورة الفرنسية. وجعل سقوطه الدول التي جاءت من بعده تعزف عن تقليده، وشهد القرن التاسع عشر تقلصا في حجم البلاط ودوره السياسي. ويلي هذا دور البلاط كمركز للموضة؛ ففي النهاية أصبح البلاط في الواقع يعبر بالتأكيد عن كل ما هو قديم الطراز. إلا أن هذه الآثار التي فقدت رونقها وكانت في وقت ما مسارح متألقة للسلطة، ما زالت مقرا لسلطة وراثية عليا، وفيها ظهرت بوضوح أسس الدور الاحتكاري للأرستقراطيين المنتمين للعائلات الأرستقراطية القديمة أكثر من أي وقت مضى. وحتى وقت متأخر من القرن العشرين في بريطانيا العظمى كانت ذروة موسم الأحداث الاجتماعية الحضرية تأتي عندما ترسخ السيدات الشابات من العائلات العريقة مؤهلاتهن عن طريق تقديم أنفسهن رسميا للملك على أنهن «مبتدئات» في حياة المجتمع الراقي، وذلك كما كان يطلق عليهن في لغة بلدة فيرساي القديمة. (6) التنوع
رغم دور النبلاء في وضع المعايير، لم يقترب قط من البلاط إلا قلة قليلة منهم؛ فالمؤكد أن كثيرا منهم كرهوا رجال البلاط لكونهم جشعين وطفيليات محظوظة دون إنصاف. وفي المقابل كره رجال البلاط وسخروا من التصرفات الريفية أو البرجوازية من جانب النبلاء. وإن مثل هذا العداء، الذي أطلق عليه في إنجلترا في القرن السابع عشر اسم «البلاط في مقابل الريف»، لهو أحد الفجوات التي لا تعد ولا تحصى بين الأرستقراطيين في كل بلد، وعلى جميع المستويات. فقد عمل عنصر انعدام المساواة الأساسي في أي فكرة تتعلق بطبقة النبلاء على تمييز النبلاء بعضهم عن بعض تماما كما كانوا يتميزون عن الغالبية العظمى من الشعب.
إن طبقة النبلاء نسيج رقيق من اختلافات دقيقة يعتز بها كثيرا، ويشكل كل منها أساسا لنوع من التميز أو الدونية؛ ومن الواضح أن العداوات بين البلاط والريف كانت مظهرا مهما من مظاهر التفاوت في الثراء. إلا أن النبلاء الجدد، الذين كانوا دوما أغنياء، تعرضوا أيضا لازدراء رجال البلاط وملاك الأراضي الصغار بالمثل؛ نظرا لافتقارهم أجدادا من النبلاء. فكانت شجرة العائلة تقدم طرقا لا حصر لها للنبلاء لمقارنة أنفسهم بعضهم ببعض. وقد تكون العداوات أيضا مهنية؛ فنادرا ما كان يتوافر وقت لدى العسكريين من أجل القضاة أو العاملين في وظائف إدارية كتابية مملة، الذين لا تتطلب وظائفهم أي قدر من الشجاعة ولا يحققون أي نوع من المجد، ومع هذا يتحكمون في مصير الجيوش أو المتقاضين. والمعتاد أن تحتقر العائلات الحاملة للألقاب العائلات التي لا تحمل ألقابا، وكان الوعد بالترقي داخل التسلسل الهرمي للألقاب أحد أكثر حوافز الملوك الفعالة. ظهر دور كل هذه الاعتبارات عندما فكرت العائلات في عقد تحالفات عن طريق الزواج ؛ فلم يكن أحد يرغب في الزواج من أسر أقل منه مكانة، مع هذا كان ثمة استعداد دوما للتغاضي عن أي تفاوتات ملحوظة بين الزوجين المحتملين إذا كان أحد الطرفين يتمتع بمميزات طاغية في المكانة أو الثروة في أغلب الأحيان. فحتى أكثر الأسر عراقة ورقيا - وثراء أيضا - كانت تتغاضى عن كبريائها نظير إمكانية ضم وريثة إليها أقل مكانة لكن أكثر ثراء.
لم يحدث قط أن كان هناك تشابه تام بين نبلاء دولتين مختلفتين. كانت بولندا والمجر وإسبانيا تعج بالنبلاء من ذوي الرتب المنخفضة، الذين لم يكن معظمهم بالضرورة من الأغنياء، وفي مقاطعات معينة في شمال إسبانيا، كان كل ذكر يعتبر نبيلا «هيدالجو»؛ بمعنى ابن لأب شهير. وعلى العكس من هذا، في الجزر البريطانية، لم يحظ قانونا بلقب النبلاء إلا ذوو الأصل العريق؛ لذا ظهرت بالضرورة تفاوتات كبيرة في نسبة السكان الذين تمثلهم مجموعات متباينة بهذا الوضوح، لكن النسبة لم تتخط كثيرا 1-2٪ إلا في الدول التي تتسع فيها طبقة النبلاء على نحو كبير، مثل بولندا أو أجزاء من إسبانيا، وتضاءلت فيما بعد عندما زاد العدد الإجمالي للسكان. بالإضافة إلى هذا، رغم انتشار الفكرة المثالية بالعيش من دخل الأراضي، كان يظهر دوما نبلاء لا يملكون أراضي جراء تطبيق قوانين الميراث، التي عادة ما كانت إما تقسم المواريث أو تحابي الابن الأكبر على نحو غير متكافئ. فعثر بعض هؤلاء النبلاء الذي لا يملكون أراضي على فرصة للعمل في وظيفة الجنود المحترمة، لكن الكثير منهم أجبر على العمل في وظائف تزدرى عادة في الأوساط الأرستقراطية؛ منها التجارة، سواء البيع بالجملة أو بالتجزئة. وحتى النبلاء الذين استطاعوا الحفاظ على ما يمتلكونه من أراض كما ينبغي، فقد انتزعوا الفائض الذي ينتجه المستأجرون بطرق كثيرة متنوعة؛ في أوروبا الغربية، على نحو متزايد عن طريق الإيجارات النقدية، التي تضاف بمقادير متفاوتة من الرسوم الإقطاعية المتبقية والخدمات التي يقدمها التابعون، وفي شرق نهر إلبه، من العمل الإجباري للعبيد الملازمين للأرض، أو المملوكين للأفراد (في روسيا).
شكل 3-3: الكونت ستانيسلاس بوتوتسكي، أحد أصحاب النفوذ البولنديين الكبار. رسمها جاك لوي دافيد، 1781.
كذلك فإن السلطة التي استخدمها النبلاء في مجتمعاتهم لم تكن بأي حال من الأحوال واحدة؛ ففي المدن الجمهورية، مثل البندقية أو جنوة، تمتع جميع النبلاء بسلطة جماعية؛ فقد كان الشلاختا في بولندا قبل تقسيمها يرون أنهم يمثلون دولة مكتملة، وانتخبوا ممثلين ليحكموهم على جميع الأصعدة، وصولا إلى الملك نفسه. وبالمثل كان البرلمان البريطاني تسيطر عليه إلى حد كبير مصالح الطبقة الأرستقراطية حتى أواخر القرن التاسع عشر، ولم يقض نهائيا على عرقلتهم للسلطة في مجلس اللوردات إلا في عام 1911م. وأينما وجدت مؤسسات برلمانية في أي مكان آخر قبل القرن التاسع عشر، سواء على مستوى الدولة أو الأقاليم، كان النبلاء عادة ما يحصلون على أماكن مخصصة لهم، لكن سلطاتهم المحددة لم تكن متماثلة قط. وقد أشفق النبلاء الذين تمتعوا بالحكم الذاتي الذي وصفوه بالحرية على نظرائهم الخانعين المجبرين من الحياة تحت سلطة الحكام المطلقين؛ فقد كان هؤلاء الحكام يصنفون أي مظهر من مظاهر استقلال النبلاء على أنه ثورة، أو تأييد للنظام الجمهوري. وقد عاش هؤلاء الحكام في خوف من رعاياهم المفرطي القوة. ومع هذا لم يحلم أي منهم قط بمحاولة إدارة الدولة دون تعاون النبلاء في جميع المستويات، وإذا حدث واختاروا وزراء رتبهم منخفضة، فإنهم يغدقون عليهم الألقاب والمكافآت حتى يمكنوهم من مواجهة الرعايا دون خجل. وحتى مع وجود النبلاء تحت سلطة حكام مطلقين، اختلف حكمهم الذاتي اليومي إلى حد كبير، بناء على حجم المملكة، والقوانين المختلفة للممالك التي أصبحت كيانا واحدا عن طريق اعتلاء سلالة للعرش مصادفة أو غزو غير متوقع، وقوة تقاليد الخدمة والولاء.
يبدو أن الخطوط العريضة لماهية الأرستقراطية، قديما أو في العصر الحالي ، ولسلوكيات الأرستقراطيين؛ تصبح غير واضحة المعالم عند فحصها بناء على مجرد مجموعة متنوعة من الأمثلة والاستثناءات. والنبلاء أنفسهم لم يكونوا ينخدعون؛ فقد كانوا يتعرفون على أبناء جنسهم عندما يرونهم، أيا كانت الاختلافات. وكذا الحال بالنسبة إلى باقي أفراد المجتمع، الذين تأثروا - نظرا لتقبل سيطرتهم في جميع نواحي الحياة - تأثرا عميقا بقيمهم ونماذجهم. وإلى حد ما لا يزال هذا الوضع قائما.
الفصل الرابع
الأثر والموروث
طالب الأرستقراطيون دوما باحترام الآخرين لهم بصفتهم نخبة تتمتع بالسلطة، وأيضا بوصفهم شراذم متبقية لديها ذكرى باهتة عما تمتعت به من سلطة سابقة. لقد توقعوا أن يعترف الآخرون بسمو مكانتهم صراحة. في العصور القديمة في الغرب - وحتى في العصور الأحدث في الدول المطبق فيها نظام الرقيق في أوروبا الشرقية - لم يكن النبلاء يترددون في معاملة الآخرين بالعنف إذا لم يظهروا احتراما لهم. وفي وقت ليس ببعيد في عام 1725م، أمر نبيل بلدة روهان بضرب فولتير في أحد شوارع باريس بسبب تعليق وقح. وعقب مرور خمسين عاما، علق رجل إنجليزي يرتحل في أيرلندا قائلا إن مالك الأرض الأيرلندي لا يرضى إلا «بخضوع مطلق، والاستهانة أو أي شيء يقترب من درجة الوقاحة قد يعاقب عليه إما بعصاه أو سوطه وهو مطمئن للغاية؛ فقد يتعرض الفقير إلى كسر عظامه إذا حاول رفع يده للدفاع عن نفسه.» في هذا الوقت كان مثل هذا السلوك يصدم مشاعر الإنجليز، لكن ظل الأرستقراطيون الإنجليز يتوقعون احتراما يعبر عن مكانتهم ممن هم أسفل منهم في المكانة الاجتماعية. وبعد عقد من الزمان قلب الثوار الفرنسيون هذا الاحترام رأسا على عقب، وجعلوا «الأرستقراطية» مصطلحا للإساءة السياسية كما جعلوا من النبلاء أشخاصا منبوذين لفترة قصيرة. وفي كل مكان آخر خارج فرنسا كان النبلاء يروعون ويرهبون. لم تستمر هذه النوبة طويلا، لكن ذكراها ظلت تلاحقهم طوال القرن التالي. ولم يحدث قط فيما بعد أن أصبح الاحترام لهم أمرا مسلما به تماما؛ فقد وجد دوما أناس على استعداد لإدانة الأرستقراطية دون خوف، وإذا أتيحت لهم الفرصة يجددون الهجمات التي ظهرت لأول مرة في فرنسا وقت الثورة. ومع هذا، ظل الاحترام اللاإرادي باقيا. فيصعب أن يكون الوضع بخلاف ذلك في قارة سيطر فيها النبلاء وأساليب حياتهم وقيمهم على الحكومة والمجتمع لفترة طويلة للغاية. (1) التابعون
كان الأرستقراطيون في ذروة مجدهم - بوصفهم مستهلكين أغنياء بارزين - مصدرا أساسيا دائما للحصول على وظائف. فلم يكن هناك بيت واحد للنبلاء - رغم تواضعه - يمكن إدارته دون خدم، وكان حجم الحاشية جزءا مهما من مظاهر الأرستقراطية. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كان أصحاب النفوذ يسافرون ومعهم مرافقون للموكب وخدم يصل عددهم إلى مئات الأفراد، ويرتدون جميعهم زيا رسميا. وإذا كان مثل هذا النوع من التفاخر قد أصبح في القرون التالية أمرا فجا على ما يبدو، بل ويراه الملوك المتشككون أمرا يهددهم، فإن الأرستقراطيين لم يكن يتسنى لهم الاستمتاع الكامل بممارسة ميولهم وهواياتهم دون خدم شخصيين ووصيفات وكبار خدم وطهاة وعمال حدائق ومسئولين عن التشجير وحراس للطرائد وسائسين ومسئولين عن الصيد وسائقين للعربات وحمالين وعمال مهرة. وربما عينت المنازل الأضخم أمناء مكتبات (مثل توماس هوبز في منزل تشاتسوورث) أو عازفين (مثل جوزيف هايدن، مع أوركسترا لعزف أعماله، في بلدة أيزنشتات وقصر إسترهازي في القرن الثامن عشر). ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الملابس المزخرفة التي يفضلها الأرستقراطيون بإمكانهم ارتداؤها دون مساعدة من الملبسين، وبالنسبة إلى بعض السادة المدللين كان من الممكن الاستعانة بكل الخدمات، حتى وإن كانت تتطلب جهدا بسيطا للغاية؛ فقد كان والد ألكسندر هيرزن، مؤسس الاشتراكية الروسية، يطالب حتى بأن تكون الصحف اليومية التي يقرؤها دافئة من أجل حماية أصابعه الرقيقة. وفي أماكن تركز النبلاء، مثلما الحال في البلاط الملكي، كانت الفئة الكبرى من السكان هي فئة الخدم؛ فقد عاش أكثر من 44 ألف شخص في فيرساي، وهي بلدة لم يكن بها مكان للعمل سوى البلاط، حتى عشية الثورة الفرنسية.
لم يتوقف نطاق سيطرة مئات من عائلات البلاط التي يخدمونها عند هذا الحد، فشعر معظمها بضرورة الحصول على منشأة في العاصمة القريبة. وفي هذه المنشآت دعمت مطالبهم كما كبيرا من صناعات سبل الرفاهية التي تمدهم باحتياجاتهم العصرية، بداية من المواد الغذائية اليومية وحتى الأثاث والملابس والتحف الزخرفية والحلي؛ فقد وفرت خمس أسر ممثلة لعائلات رجال البلاط خضعت مؤخرا للدراسة، عملا لنحو 1800 صانع وحرفي في أنحاء باريس في أواخر القرن الثامن عشر. وامتدت آثار صيحات البلاط حتى إلى أبعد من هذا. فعند إعلان الحداد على متوفى من أحد أعضاء الأسرة الحاكمة أو أحد الملوك الأجانب، كان البلاط يتشح بالسواد، وكانت صناعة الحرير الأساسية في ليون تتعرض لكساد مؤقت. ومن ثم، بطبيعة الحال، كان اندلاع ثورة مناهضة للأرستقراطيين يعني كارثة اقتصادية للصناع والحرفيين في أكبر مدينتين في فرنسا؛ وهما باريس ومارسيليا. وكان أحد دوافع نابليون العديدة لإقامة بلاط متألق من الأعيان ذوي الألقاب هو إعادة ازدهار صناعات الترف والكماليات. ومن ناحية أخرى، يأتي مصدر التقليد الفرنسي الراقي في تناول الطعام الفاخر من مطاعم أسسها طهاة عاطلون عن العمل عملوا لدى عائلات كبرى انحطت مكانتها بسبب اضطهاد الثورة.
على نطاق أصغر، في عواصم الأقاليم، أو في أماكن إقامة الأمراء الألمان الأقل مكانة، كان نظام الحياة يتبع احتياجات وأذواق النبلاء المحليين؛ فقد كان النبلاء دوما من أهم المتقاضين، وطالما حددت الإيقاعات الاقتصادية للمراكز القضائية عن طريق وصول مجموعة من الأعيان سنويا من أجل متابعة قضايا ترجع إلى أجيال سابقة. ربما لا يجلبون معهم حاشيات مثل تلك التي توجد لدى ذوي النفوذ الحضريين أو ما يتسمون به من نهم للترف، لكن لم يشك أحد قط فيما يصاحبهم من ثراء ورفاهية. وفي العصور السابقة على الثورة الصناعية أيضا كان النبلاء هم الرعاة الأساسيين لتعمير أو تشييد واسع النطاق أو تحسين لا نهائي لمنازلهم الريفية أو الحدائق أو المتنزهات المحيطة بها، فضلا عن منح مرافق مثل أماكن لإقامة أسواق أو بيوت للفقراء. كذلك شيدت العديد من أكثر المباني الكنسية روعة بفضل رعاية الأرستقراطيين، إما مباشرة أو عن طريق تحقيق طموحات الأساقفة أو رؤساء الأديرة أو الكهان النبلاء.
في الواقع، لم تحظ بالرفاهية الموجودة في البلاط والعواصم والكنائس الغالبية العظمى من النبلاء؛ مما زاد من كرههم وشكهم في النخبة الحاكمة الغنية في المراكز الحضرية. ومعظمهم استطاع تدبر أمره بمجموعة قليلة من الخدم أو بخادم واحد متعدد المهام، ولم تكن لديهم بدائل إلا أن يتركوا منازلهم الريفية التي تشبه القلاع تنهار من حولهم. وقد كانت حياتهم - كما وصفها معلق في أوائل القرن الثامن عشر (مركيز فرنسي يعيش في بلاط برلين) - «حياة صيد وضرب للفلاحين، وإنجاب أطفال من بنات المزارعين، واللجوء إلى القضاء ضد كهنة القرية بسبب بضعة حقوق شرفية، واحتساء الخمر مع المشرفين على ضيعاتهم في أيام الآحاد.» ومع هذا ظلوا يتوقعون احترام جيرانهم لهم، وإذا حدث وحصلوا على مال غير متوقع، كانت غريزتهم تدفعهم إلى إنفاقه على أنواع الأشياء العديمة القيمة نفسها التي ينفق عليها نظراؤهم الأكثر ثراء أموالهم. (2) آثار اقتصادية
أحد الأسئلة العديدة التي طرحها آدم سميث عام 1776م في كتابه «ثروة الأمم» يتعلق بما إذا كان إنفاق مثل هذا الكم من الدخل على المظاهر أمرا مثمرا. فكتب يقول:
في هذه البلدات، التي تدعمها في الأساس الإقامة المستمرة أو العرضية لأحد النبلاء، والتي يعيش فيها الناس الأقل رتبة في الأساس عن طريق إنفاق العوائد، يتسم هؤلاء الناس بوجه عام بالكسل والمجون والفقر ... إن كسل الجزء الأكبر من الناس الذين يعيشون على إنفاق العوائد من المحتمل أنه يفسد صناعة من يفترض بهم الحياة على توظيف رأس المال، ويجعل استثمار رأس المال في هذا المكان أقل نفعا من الأماكن الأخرى.
كان للقدوة أيضا تأثير؛ فعندما يطرح أغنى أعضاء المجتمع وأكثرهم سلطة ولفتا للأنظار فكرة احتقار التجارة والصناعة على اعتبار أنهما تقللان من شأنهم، فمن غير المحتمل أن يقدم أي شخص يحلم بالترقي اجتماعيا على العمل بهما بأي قدر من الحماس، أو يستمر في العمل بهما لحظة واحدة أكثر مما تقتضي الحاجة. وقد دعم معظم النبلاء ثروتهم وسلطتهم عن طريق الاستنزاف المستمر لموارد عموم الشعب الطموحين، وذلك برفع أكثر العائلات نشاطا وموارد مالية من الطبقات التجارية المتوسطة أو الطبقة البرجوازية إلى مراتب النبلاء، وقلما كان يحدث ذلك بترحيب ظاهر؛ فقد كان من الحكمة أن يستثمر الأغنياء بعضا من مواردهم المالية في أكثر أنواع الاستثمار أمانا في اقتصاد ما قبل الثورة الصناعية: الأرض. لكن لم يكن الأمر دوما بمثل هذه البساطة؛ فكان شراء الأرض يعني الإعلان عن الطموح الاجتماعي، والانضمام لملاك الأراضي المسيطرين على جميع نواحي الحياة. وفي فرنسا، بالإضافة إلى هذا، حتى عام 1789م كانت كميات كبيرة من الأموال تستثمر أيضا في شراء المناصب التي تمنح مكانة النبلاء. فعلى الأقل كان يمكن جعل الأرض منتجة اقتصاديا، حتى إن لم يكن هذا بمثل تأثير التجارة والصناعة، لكن المناصب لم تكن مثمرة على الإطلاق. كذلك كان كثير منها يشترى بمال مقترض كان من الممكن استثماره بخلاف هذا بقدر أكبر من المخاطرة. صحيح أن هذه الهيمنة الأرستقراطية لم تقف حجر عثرة في طريق الازدهار التجاري والصناعي الذي جعل بريطانيا العظمى أول نظام اقتصادي حديث. وفي الحقيقة بذل البرلمان المهيمن عليه الأرستقراطيون جهدا كبيرا من أجل إقرار وتكوين بنية تحتية تجارية سهلت مثل هذا التقدم. لكن ربما يكون الذي حافظ على وجود رأس مال في أيدي العامة وأعمالهم التجارية أكثر من أي مكان آخر هو صعوبة الحصول على الأراضي في سوق شلت حركتها الإيجارات المرتفعة ونظام منح الإرث للابن الأكبر والوقف. مع هذا، عندما أتيح لهم ذلك - بعد أن أصبحت بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر أكثر الدول إنتاجا للسلع ذات الأسعار المناسبة - أظهر رجال الصناعة البريطانيون الناجحون حرصهم أكثر من أي وقت مضى على شراء ضيعات، وبناء قصور أو توسيعها، وممارسة نمط الحياة المرفه، وإرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية ليتعلموا كيف يصبحون رجالا نبلاء ويتخلصون من أصولهم التجارية. هيمن ازدراء التجارة والعلم والتكنولوجيا على التعليم في المدارس الحكومية حتى وقت متأخر من القرن العشرين، وكان ذلك بمنزلة عنصر مهم - على حد زعم بعض المؤرخين - في تدهور الاقتصاد البريطاني.
نظرا لوجود كم كبير من الأراضي في أيدي الأرستقراطيين، كان من الصعب ألا تتأثر ممارسة الزراعة وتطويرها بتفضيلاتهم وأولوياتهم؛ فكان الهدف الثابت لمعظم ملاك الأراضي زيادة الإيجارات إلى أقصى حد في مقابل تقليل الإنفاق إلى أقل حد، ونادرا ما كانوا على استعداد للتخلي عن عائد قريب نظير إعادة الاستثمار من أجل الحصول على مكاسب طويلة المدى. وحتى عندما ارتكزت في إنجلترا في القرن الثامن عشر الزيادات المذهلة في الإنتاجية الزراعية على تسييج الأراضي العامة، وعقود الإيجار طويلة الأمد، وتأمين الحيازة، وارتفاع معدل إعادة الاستثمار؛ لم يحظ هذا النموذج بتقدير من معظم ملاك الأراضي في القارة الأوروبية، خاصة الأيرلنديين؛ فقد كانوا يفضلون منح عقود إيجار قصيرة المدى لأعلى مزايد، وكانوا لا يكترثون بنهب الوسطاء الاستغلاليين الذين كانوا يؤجرون الأرض من الباطن ويهلكون التربة ثم يتركون الأرض ويذهبون. وفي أوروبا الشرقية، كانت مزايا القوى العاملة من العبيد الأسرى الذين يعملون دون أجر أمرا مسلما به، رغم عدم كفاءتهم الواضحة التي ظهرت في كل من زراعتهم لحقول أسيادهم وإهمالهم النسبي لممتلكاتهم الشخصية. ولم تلق مواعظ الحكومات بشأن المزايا الاقتصادية لتحرير العبيد آذانا صاغية، وعندما بدأ الحكام في الحد من الطلبات التي يمكن أن يتقدم بها السادة، واجهوا مقاومة شديدة وتملصا. وفي المناطق الساحلية في أوروبا، واجهت هجمات المؤيدين للقضاء على العبودية الاستعمارية رد الفعل العنيف نفسه. استثمر النبلاء على نطاق واسع في العبودية البريطانية والفرنسية، في حين استخدم تجار الرقيق الأكثر ثراء والمزارعون الكاريبيون دوما أرباحهم في شراء أجزاء من الأراضي في الضيعات الأوروبية والانضمام لنمط الحياة الأرستقراطية في أوروبا.
لم تكن الكفاءة أحد اهتمامات الأرستقراطيين قط؛ فعندما حاول الثوار الفرنسيون إلغاء طبقة النبلاء في عام 1790م، فعلوا هذا باسم فتح المهن لأصحاب المواهب، أو ما أصبح يعرف بعد قرن ونصف باسم الحكم على أساس الجدارة والاستحقاق. كان الأرستقراطيون يسارعون دوما في ادعاء أن الجدارة متأصلة في طبيعتهم الفطرية. إلا أنهم لم يقصدوا بالجدارة نوعا من السمات الموضوعية، بل نجاحهم في التصرف على النحو المفترض من الأرستقراطيين. وكانت الجدارة بين العامة تعني الأمر نفسه. إلا أن الترقي تحت حكم الأرستقراطيين لم يعتمد على القدرة، بل على التأثير والمعارف والوصاية و«الحماية»، أو ما أطلق عليه في بريطانيا العظمى «المصالح»؛ فقد كان الأرستقراطيون يتبعون أسلوب المحاباة، وهو تفضيل دعم المنتمين لطبقتهم والتعامل معهم تجاريا، والوضع المثالي بالطبع أن يكونوا من بين أقاربهم. ورغم أن إعطاء الأولوية للحفاظ على وحدة إرث العائلة قد تسبب في إفلاس الأبناء الأصغر سنا، فإن الشعور بالتضامن الأسري عادة ما كان يدفع رؤساء العائلات إلى تدبير وظيفة للأعضاء الصغار في الأسرة. وكان التماس المحسوبية أحد الأنشطة الأرستقراطية المهمة على جميع المستويات، وكان أحد المعايير الدالة على مكانة النبيل قدرته على العثور على وظائف لأقاربه وتابعيه في الحكومة أو الكنيسة أو الجيش. قال المدافعون عن بيع المناصب إن الرشوة كانت وسيلة أكثر عدالة وفعالية لتوفير الموظفين الحكوميين من نظام الموالاة. لكن طوال فترة حكم الأرستقراطيين، لم يشعر القائمون على السلطة قط برغبة في العثور على أساليب موضوعية لتحديد القدرة والكفاءة؛ ففي النهاية دفعتهم جميع غرائزهم إلى الاعتقاد بأن هذه الصفات تكون على الأرجح وراثية. (3) الحرب
أدت أصول السلطة الأرستقراطية المستمدة من المحاربين، والأولوية التي تعطى دوما في العقيدة الأرستقراطية للشجاعة والإنجازات الحربية، إلى وجود اهتمام دائم لدى النبلاء بالحروب. وفي العصور الوسطى، كان أصحاب النفوذ دوما قادة عسكريين ويدعمون حقهم المزعوم في السلطة بجيوش خاصة مكونة من خدمهم. وكان الملوك يتحملون مخاطر التعرض لهؤلاء بالإهانة، وفي أثناء حكم القصر أو عندما افتقر الحكام أنفسهم للصفات العسكرية، كان يمكن للمنافسات البارونية أن تجر ممالك بأكملها إلى حرب أهلية. وفي أثناء الحروب الدينية التي اندلعت في فرنسا في القرن السادس عشر، علق مونتين - متخذا موقفا حياديا - على تعرض دوق جيز لمثل هذه المنافسة العنيفة ممن سيصبح في المستقبل هنري الرابع، الذي لم يكن في هذا الوقت أكثر من مجرد وريث مفترض للعرش، فقال:
لقد لجأ إلى الحرب، كملاذ أخير، بهدف الدفاع عن شرف عائلته ... لقد كانت مرارة هاتين الشخصيتين المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الحرب التي اندلعت حينذاك ... ولا يمكن وضع حد لها إلا بموت أحدهما ... أما بالنسبة إلى الدين ... الذي يتظاهر به كلاهما، فإنه ذريعة جيدة لجعل حزبيهما يتبعانهما، لكن مصلحته لا تهم أيا منهما.
إن الجنود المرتزقة الذين انحدروا من أسر نبيلة أصابها الانهيار وتنقلوا بين الصراعات الكبرى التي نشبت على مدار القرن التالي، لم يكونوا يكترثون بالمثل بالأسباب التي كانوا يتقاتلون من أجلها ظاهريا؛ فالمهم بالنسبة إليهم أن تتاح لهم فرصة التصرف على النحو المفترض من النبلاء، ولم تكن تعنيهم على الإطلاق عمليات النهب التي تحدث في الحروب للرعايا. ونظرا للقدر الكبير من التعليم ووقت الفراغ المخصص لتعلم الفروسية والصيد والمبارزة، كان من الطبيعي أن يحلم النبلاء الشباب بأي فرصة تسمح لهم بتمييز أنفسهم في ساحات المعارك الحقيقية. وكان من بين الأهداف المتعارف عليها وراء ما يعرف باسم الجولة الملكية في ألمانيا - وهي تقليد يشبه الجولة الكبرى التي ذكرت آنفا - وكان يستكمل من خلالها كثير من النبلاء الشباب تعليمهم في القرن السابع عشر، مشاهدة عمل عسكري والمشاركة فيه، إن أمكن.
صحيح أن هذا هو القرن نفسه الذي حقق فيه الملوك أخيرا احتكارا للعنف المباح؛ فقد أصبحت في هذا الوقت الجيوش الخاصة أمرا من الماضي، إلا أن إنشاء الجيوش الملكية الدائمة التي تضم مجموعات كبيرة من الضباط قدم للنبلاء منفذا جديدا وآخذا في الاتساع لإظهار طاقاتهم العسكرية، وأصبحوا يتفهمون بسهولة رجوع كثير من النزاعات التي يخوضها الملوك إلى أسباب تتعلق بالسلالة الحاكمة. بالنسبة إلى الضباط، كانت حالة الحرب تعني العمل بدوام كامل بدلا من الحصول على نصف أجر؛ فقد كانت تعني النشاط والإثارة بدلا من ملل الحياة في الحاميات العسكرية. كذلك كانت تجلب معها الفرصة الوحيدة للترقي السريع، والفرصة لتجميع ثروات غير متوقعة. وبالنسبة إلى أصحاب النفوذ الذين عادة ما كانوا يحتكرون القيادة العليا، كانت الحرب فرصة لتخليد أنفسهم وإضافة مجد لسجلات عائلاتهم التاريخية.
هكذا شكلت طبقة النبلاء مصدر ضغط قاسيا ومستمرا يدفع الدول نحو حل خلافاتها على أرض المعركة. ودائما كان من النادر نسبيا وجود دعاة سلام من النبلاء، وأصبح الملوك أو الوزراء الذين يسعون إلى حل الخلافات سلميا موضع ازدراء. فعندما قاوم الثوار الفرنسيون أوروبا بأكملها، طالب النبلاء في جميع الأماكن الأخرى بتلقين محدثي النعمة هؤلاء درسا. ورغم أن سجل الجيوش التي قادها نبلاء ضد جنرالات فرنسيين اختيروا على أساس الجدارة كان مؤسفا على مدار الجيل التالي، فإن انتصاراتهم المتعاقبة على نابليون بين عامي 1812 و1815م بدت تبرئة متأخرة للقيادة الأرستقراطية. وعلى مدار القرن التالي، اخترق غير النبلاء فيلق الضباط في الدول الأوروبية الرئيسية بأعداد متزايدة، لكن القيادات العليا ظلت بحزم في أيدي الأرستقراطيين، تماما كما بقي وضع السياسة في معظم الحكومات. ثمة حجة مقنعة تفيد بأن أحد الحوافز الرئيسية التي دفعت بالسلطات إلى الحرب في عام 1914م هو الاعتقاد بأن هذه الحرب كانت أفضل طريقة للحفاظ على هيمنة هذه النخب المهددة في مواجهة زحف قوى الليبرالية والديمقراطية والحداثة بوجه عام. بالطبع من العبث أن نلوم الأرستقراطيين وحدهم على العدوانية المتأصلة في الدول والمجتمعات، لكن طوال معظم تاريخ الأرستقراطيين هيأتهم كل من مصالحهم وأيديولوجياتهم لاستخدام سلطتهم في دعم العنف المنظم. (4) الحرية
على الرغم من أن النبلاء كانوا دوما يتوقعون الحصول على الاحترام وتقبل التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي كانوا على رأسه، فقد كانت لديهم دوما مشاعر متناقضة بشأن السلطة السياسية العليا. فلم تكن قواعد تشريفهم تعترف بأي قانون أعلى منهم، وفي العصور الوسطى لم يكن ينظر إلى الملوك باعتبارهم أعلى مكانة بكثير من نظرائهم، ونادرا ما كان ينظر إليهم باعتبارهم الأكثر نجاحا بين سادة الحرب المنافسين لهم؛ ومن ثم نادرا ما كان الأرستقراطيون يطيعونهم دون شروط. كانت ثورة البارونات تتحدى الملوك الذين طالبوا بقدر أكبر مما ينبغي من السلطة، وكانت هذه الثورة تنتهي أحيانا بالإطاحة بالملوك والاستعاضة عنهم بأبناء من العائلة الملكية أقل حزما في المطالبة بحقوقهم. وكثيرا ما كان يستسلم ملك منهزم بقبول فرض قيود رسمية على سلطته. وبلا شك كانت أشهر هذه الحالات الميثاق العظيم للحريات الذي انتزعه البارونات الإنجليز من الملك جون في عام 1215م، والذي اعتبرته فيما بعد جميع الدول الناطقة باللغة الإنجليزية - وإن كان هذا غير واقعي - الوثيقة المؤسسة لحرياتها. وبعد سبع سنوات، في الجهة الأخرى من أوروبا، منح ملك المجر حقا رسميا للتظاهر في مرسوم «الثور الذهبي» في عام 1222م. وحتى عام 1791م اعتبر الشلاختا البولنديون أن جزءا من «حريتهم الذهبية » يتمثل في حقهم في مقاومة أي قانون جديد عن طريق تكوين «تحالفات» مسلحة. وكانت حقوق المقاومة هذه نتيجة طبيعية لمزيد من الحرية تمثل في الحق في انتخاب الملك نفسه؛ فقد كان الإمبراطور الروماني المقدس ينتخبه دوما مجموعة صغيرة من الأمراء ورؤساء الأساقفة الألمان المحليين الذين كان لديهم الحق في الانتخاب. وفي المجر، اختفت الانتخابات الملكية فعليا في القرن السادس عشر، وقانونيا في القرن السابع عشر، لكن في بولندا في هذا الوقت ترسخت هذه الانتخابات باستخدام «باكتا كونفينتا»؛ وهو عقد رسمي يوافق عليه كل ملك قبل انتخابه، ويعد فيه رسميا بعدم تنفيذ أي تعديلات. لكن في جميع الأماكن الأخرى اعتاد الملوك عند تتويجهم أن يقسموا على الالتزام بقوانين أساسية معينة، وكان النبلاء هم الذين يملكون دون غيرهم القوة الكافية لضمان التزام الملوك بكلمتهم. كذلك لم يتوقف خلعهم للملوك، الذين يرون أنهم قد حنثوا بقسمهم، أو اغتيالهم مع نهاية العصور الوسطى؛ فقد قتل متآمرون من النبلاء يشتكون من الحكم المستبد، ملك السويد في عام 1792م، وقيصرين روسيين (1762-1801م)، ودبروا مؤامرة غير ناجحة لخلع قيصر ثالث في عام 1825م. وفي الوقت نفسه رأت دول أخرى لا يحكمها ملوك، مثل جمهورية هولندا أو المدن الجمهورية في شمال إيطاليا، أنها التجسيد الأمثل للحرية. إلا أن أحد الزوار النبلاء لمدينة لوكا في إيطاليا علق على هذا في عام 1786م قائلا:
من ناحية نجد ميزة الاضطهاد، ومن ناحية أخرى ضرورة المعاناة من الاضطهاد، وهذا ما يطلقون عليه هنا الحرية، كما هو الحال في جميع النظم الأرستقراطية أو النظم الاستبدادية التي يحكمها مائة شخص. إن كلمة
libertas - بمعنى الحرية - مكتوبة بحروف من ذهب على بوابات المدينة وعلى كل ناصية في الشوارع، ومن قراءة الكلمة طوال الوقت أصبح الناس يؤمنون بأنهم يتمتعون بها.
بالتأكيد لم يكن خطاب الحرية منفصلا عن النبالة؛ فقد كانت الامتيازات ذاتها التي تميز النبلاء عن غيرهم تمثل تحررهم من الأعباء العامة. هذه ليست الحرية الحديثة، التي تعني غياب الامتيازات ومشاركة الجميع بالتساوي في الحقوق. إلا أنه من الصعب أن ندرك كيف كان من الممكن للنمط الثاني أن يتشكل دون وجود النمط الأرستقراطي الأقدم واللغة المستخدمة في التعبير عنه. فعندما بدأ المعنى الأحدث في الظهور، في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، جاء في شكل مطالبات بتوسيع نطاق ما تمتعت به الأقلية حتى ذلك الوقت من امتيازات ليشمل الغالبية العظمى. وبدأ البريطانيون، الذين أعدموا ملكا وطردوا آخر بسبب تهديد حرياتهم، يدركون بعد قرن من الزمن أن المستفيد الأساسي كان الأقلية الأرستقراطية الحاكمة. وحرص الأمريكان، عند إعلانهم عدم ولائهم للتاج البريطاني باسم الحرية، في بناء جمهوريتهم الجديدة على منع تأسيس أي شكل من أشكال طبقة النبلاء، وفي خلال عقد من الزمن جعل الثوار الفرنسيون الحرية والأرستقراطية تبدوان مثل قطبين متناقضين.
بدأت الثورة الفرنسية في صورة صراع من أجل التخلص من السيطرة الأرستقراطية على إحدى الهيئات الوطنية النيابية المعروفة باسم «مجلس طبقات الأمة»، إلا أن المؤسسات البرلمانية والنيابية كانت في حد ذاتها إلى حد كبير من صنع الطبقات الأرستقراطية في العصور الوسطى؛ فقد نشأ البرلمان الإنجليزي في خضم الصراع المتواصل للبارونات الذين أهانوا الملك جون حتى يكبح جماح مزاعم ابنه. وقد أدرك النبلاء في جميع أنحاء القارة الأوروبية أن الهيئات النيابية - لا سيما إذا كانت تمثل أناسا من طبقتهم - ربما تكون أكثر فعالية في تقييد الملوك من فعاليتها في الثورات المتقطعة، وأدرك الحكام من جانبهم أن ضمان الموافقة على مطالب هؤلاء أفضل من مواجهة الثورات. وفي الفترة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر ظهرت «المجالس النيابية» أو البرلمانات في معظم النظم السياسية في غرب ووسط أوروبا. وتفاوتت كثيرا في تكوينها، لكن معظمها تكون من قاعة منفصلة أو «مجلس» للنبلاء، بجانب أعضاء الكنيسة وأهالي المدن - أو ما يعرف باسم «طبقة العوام» - وأحيانا الفلاحين، كما كان الحال في السويد. وكانت سيطرة النبلاء على هذه المؤسسات شبه حتمية. وفي البرلمان البولندي، لم يكن ثمة أي فرد لا ينتمي إلى طبقة النبلاء في أي من المجلسين؛ فقد كانت مجالس رجال الدين تشتمل عادة على العديد من الأساقفة ورؤساء الأديرة النبلاء. وحتى في إنجلترا، حيث حقق مجلس العموم شهرة مبكرة - باعتباره يمثل البلديات وليس عموم الناس - كانت كل بلدية يمثلها «فارسان»، وكانت العضوية والتصويت يتحددان إلى حد كبير - حتى منتصف القرن التاسع عشر - بتأثير النبلاء في مجلس اللوردات.
إن البرلمانات والمجالس، التي أنشئت في الأساس من أجل تقوية الحكومة بالموافقة الظاهرية على نظام ضريبي جديد، سرعان ما حاولت إعاقة هذه الموافقة أو الحد منها أو جعلها مشروطة؛ فقد أصبحت معاقل «للسلطة الدستورية الأرستقراطية»، فتعرض المظالم وتقاوم السلطة الملكية باسم قوانين وامتيازات لم يستفد منها في الغالب إلا الطبقات الحاكمة. بدأ الملوك الذين تعرضوا لهجوم شديد في القرن السادس عشر بالانقلاب عليها. قلت مرات انعقادها أكثر فأكثر. وطالما كانت تنجو المجالس المحلية من هذا، لكن في أوائل القرن الثامن عشر كانت الهيئات النيابية الوحيدة التي تشمل المملكة بأكملها، والتي تجتمع بانتظام وتتمتع بسلطة حقيقية - وإن تغيرت بوضوح بمرور الوقت - موجودة في بريطانيا العظمى وبولندا والسويد ومنطقة فورتمبيرج. أدار النبلاء جميع هذه الهيئات - لخدمة مصالحهم إلى حد كبير - رغم أنهم غلفوا سلطتهم بسوابق وإجراءات ستقدم - خاصة في حالة بريطانيا - أمثلة ونماذج لكثير من الهيئات التشريعية القادمة في جميع أنحاء العالم. حتى في فرنسا، التي لم يجتمع فيها قط أي مجلس لطبقات الأمة في الفترة بين عامي 1614 و1789م، ظلت تجرى عمليات مراقبة دستورية معتادة على السلطة الملكية على يد المجالس النيابية، وهي محاكم استئناف لها الحق في الاعتراض على القوانين الجديدة. واقتصر منصب القضاة في هذه المحاكم على النبلاء، ولم يكونوا يمثلون إلا قوة المال التي اشترت لهم هذه المناصب بالرشا . إلا أنه في فرنسا - كما في جميع الأماكن الأخرى - قطعت السلطة الملكية ارتباط النبلاء بالتمثيل النيابي عن طريق ضمان امتيازاتهم الأخرى. وبحلول عام 1789م كان النبلاء حريصين على التمثيل النيابي مرة أخرى عندما أعاد الملك بعد إضعافه إحياء مجلس طبقات الأمة. لكن عندما بدا في الوقت نفسه أنهم عازمون على الاحتفاظ بامتيازاتهم الأخرى، أصبحوا عرضة للهجمات التي أدت في خلال شهور إلى تدمير طبقة النبلاء ومعها نظام مجالس الطبقات الأقدم عمرا. قوبلت جميع محاولات منح الجمعية الوطنية - التي زعمت السيادة في الوقت الحالي - سمات تعيد إلى الأذهان مجالس طبقات الأمة السابقة - أو البرلمانات في الأماكن الأخرى - بالتصويت عليها بالرفض. هذا وقد صممت الدساتير المكتوبة، مثل المستخدمة في إنجلترا أو في أمريكا، كترياق مضاد للأرستقراطية. وعندما أعلن مجلس اللوردات، في بريطانيا العظمى، في أوائل القرن العشرين رسميا أنه أصبح «الرقيب على الدستور» في الوقت الذي يدافع فيه عن مصالح ملاك الأراضي، سخر ديفيد لويد جورج من هذا قائلا إنه لم يكن أكثر من مجرد خادم لرئيس الوزراء الحاكم. وبعد تسع سنوات، وبعدما أصبح ديفيد لويد جورج نفسه رئيسا للوزراء، سره أن ساهم في حرمان اللوردات من القدر القليل المتبقي من السلطة السياسية الفعلية. (5) الدين
طالما كان الأرستقراطيون أحد سبل الدعم الرئيسية للكنائس المعترف بها؛ فقد أدركوا أنه على الرغم من أن الجميع متساوون أمام الرب، فإن القديس بولس أمر المسيحيين بطاعة الأعلى منهم مكانة؛ فقد أقرت المنظومة الدينية وشرعت التسلسل الهرمي والتبعية، ووعدت بمكافآت في الحياة الآخرة على المظالم والآلام التي يتحملها الإنسان بصبر في الحياة. أو كما وصف نابليون بصراحته المعهودة قائلا إن دور الدين هو الحفاظ على النظام الاجتماعي. ظهر الطابع الديني في كافة جوانب حياة النبلاء والفرسان في العصور الوسطى؛ فقد وهب المحاربون مجهوداتهم للرب، وكان شن الحملات الصليبية، من أجل استرداد الأرض المقدسة من أيدي العرب، أو فيما بعد من أجل طردهم من حدود العالم المسيحي، أسمى قضية يمكن أن يكرس الفرسان الحقيقيون أنفسهم لها. وكانت الغالبية العظمى الذين لا يخرجون في هذه الحملات يظهرون تقواهم عن طريق إعطاء منح للأديرة أو أماكن الترتيل على أرواح الأموات داخل الكنائس، وإعطاء أو توريث قطعة من الأرض تظل إلى الأبد وقفا للكنيسة، وعن طريق الالتزام الدقيق والتفاخر بالطقوس الدينية. وأكثر من ذلك، أنهم ملئوا الكنائس بنصب عائلاتهم التذكارية، وشغلوا أعلى المناصب الكنسية دخلا بأفراد عائلاتهم أو أتباعهم. كانت الثروة الهائلة التي جمعتها الكنيسة في العصور الوسطى في أوائل القرن السادس عشر في الأغلب نتيجة لارتباطها الوثيق على جميع الأصعدة بالسلطة الأرستقراطية.
هذا ولم يضعف فصل الكنيسة في عصر الإصلاح الديني هذه العلاقة؛ فقد كان النبلاء أقصى المستفيدين الرئيسيين من السلب الواسع النطاق للثروات الكنسية وتدمير الأديرة اللذين حدثا في الممالك التي تحولت إلى البروتستانتية؛ فقد بدا الأمر كما لو أنهم يستردون الثروة المملوكة لكنيسة لم يعودوا يعترفون بها. وبمجرد انتهائهم من فعل هذا، أصبحت لديهم مصلحة مادية قوية في ترسيخ النظام الديني الجديد. وفي النهاية، لم يتصد إلا عدد قليل من النبلاء للعقيدة التي ظهرت في الممالك التي عاشوا فيها أيا كان شكلها، والغالبية العظمى التي أذعنت لم تتسم بأي قدر من التسامح، حتى مع إخوانهم من النبلاء المنشقين، وسيطروا حتى على المزيد من نظم الرعاية الكنسية، وعندما عزز ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية عائد ضريبة العشر التي دعمت رجال الدين في الأبرشية لمستويات رفعتهم من الفقر المدقع، أدخلوا إخوانهم وأتباعهم في حياة الثراء. وقد أحبوا الأساقفة؛ فهم يمثلون مثلهم مصدرا للسلطة التي لا جدال فيها؛ ففي بريطانيا العظمى جلس الأساقفة جوار النبلاء في مجلس اللوردات. وعندما أجبروا في النهاية على إظهار التسامح للطوائف خارج مؤسستهم، ظلوا بعيدين كل البعد عن هذه العقائد الديمقراطية. ولا عجب إذن أنه أصبح يقال إن كنيسة إنجلترا ما هي إلا حزب المحافظين وقت الصلاة.
في الوقت نفسه، في الدول التي ظلت كاثوليكية، ظلت السيطرة الأرستقراطية على الكنيسة بنفس صرامتها المعهودة؛ فقد كانت الإمارات الكنسية في ألمانيا، مثل كولونيا أو ماينتس أو ترير أو زالتسبورج ، يديرها أساقفة ينتخبهم كهان كانت متطلبات أنسابهم من أجل الالتحاق بالكنيسة الأكثر تزمتا في أوروبا. وفي كل مكان آخر كان الطلاب العسكريون النبلاء يستعمرون أفضل الكنائس الصغيرة والأديرة، في حين كان رؤساء ورئيسات الأديرة مرشحين للحصول على رعاية البلاط. كل هذا كان يعني أن النبلاء الكاثوليك كان يروق لهم ازدراء الجهد المضني الذي يبذله كهنة الأبرشية. هذا وقد أنفقت مبالغ طائلة من المال على مباني الأديرة؛ مما يعكس الذوق الأرستقراطي لسكانها. كذلك ظل تعليم الأرستقراطيين إلى حد كبير في أيدي رجال الدين؛ ففي الفترة بين أربعينيات القرن السادس عشر وسبعينيات القرن الثامن عشر، احتكر الجزويت على نحو شبه تام تعليم النخبة في العالم الكاثوليكي. وعند استرجاع أحداث الماضي، أصبح حل هذه الجماعة في عام 1773م يبدو كما لو كان الخطوة الأولى نحو شن الهجوم على جميع القيم المعترف بها التي اتسمت بها المرحلة الأكثر تطرفا في الثورة الفرنسية. وبالطبع، بالنسبة إلى ثوار عام 1789م كانت «الطبقات الغنية» من رجال الدين والنبلاء أهدافا مماثلة لتوجيه الهجوم؛ فقد أطيح بهم في وقت واحد، وخرجوا من الاضطراب الثوري وهم أكثر قناعة من أي وقت مضى بمصالحهم المشتركة. وقد فضل الأرستقراطيون الكاثوليك في القرن التاسع عشر الحصول على تعليم خاص على يد رجال الدين بدلا مما كانوا يعتبرونه مدارس حكومية ملحدة.
نظر الأرستقراطيون الكاثوليك - أكثر حتى من نظرائهم البروتستانت - إلى التسامح مع العقائد المنافسة على أنه تهديد لسيطرتهم. فعمل اتحاد تابع للشلاختا على تسريع التقسيم الأول لبولندا على يد قوى أجنبية في عام 1772م، في محاولة لمنع منح الأراضي للمسيحيين الأرثوذكس على طول الحدود الروسية. وكان رد فعل عائلة هابسبورج على تحدي طبقة النبلاء البوهيمية البروتستانتية لها، الذي بدأ حرب الأعوام الثلاثين في القرن الماضي، هو الاستعاضة عنهم بطبقة حاكمة كاثوليكية جديدة. والنظير البروتستانتي الوحيد لهذا هو مصادرة الإنجليز الممنهجة لممتلكات الأعيان الكاثوليك في أيرلندا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر لصالح «السطوة البروتستانتية»، التي تشكلت على غرار المؤسسة الإنجيلية على الشاطئ الآخر في إنجلترا. ومع هذا لم تظهر محاولات جادة لتحويل الكاثوليك الذين أصبحوا دون قائد وقتذاك إلى المذهب الإنجيلي، وعندما سحب الدعم القادم من لندن تدريجيا على مدار القرن التاسع عشر، وجدت السطوة نفسها منعزلة حتميا بين سكان يكنون لها العداء. (6) نمط الحياة والذوق
لقد عملت أساليب الحياة والعادات الأرستقراطية على «إضفاء طابعها» على باقي المجتمع، وحتى القرن التاسع عشر ظلت هي التي تحدد القواعد والمعايير الثقافية السائدة في العالم الأوروبي. وكما ظهر في ملاحم العصور القديمة، كان أبطال الروايات الرومانسية في العصور الوسطى دوما ينتمون لعائلات مرموقة، مليئة بالأسلاف الشجعان. وعلى الرغم من الازدراء والسخرية اللذين انصبا على شخصية الفارس الباحث عن أعمال بطولية، المصور في رواية «دون كيشوت» لثيربانتس في أوائل القرن السابع عشر؛ ظل النبلاء يقرءون بشغف حكايات الفرسان في القرن الثامن عشر، وبحماس إيجابي متجدد في القرن التاسع عشر. وفي المسرح، وكذلك في الأوبرا التي تمثل نوع الترفيه السامي المصمم لإدخال البهجة على رجال البلاط، كانت جميع الشخصيات الرئيسية تقريبا من النبلاء. ولم يكن ممكنا جعلهم جميعا أبطالا، لكن لم يبدأ النبلاء في الظهور إلا بالقرب من نهاية القرن الثامن عشر في أدوار الأشرار الذين تحبط مخططاتهم شجاعة ودهاء عامة الشعب. وحتى هذا الوقت أيضا كان الرعاة الرئيسيون للموسيقى الجادة من النبلاء، سواء من رجال البلاط أو الممارسين الهواة أو رجال الدين أصحاب المكانة العالية. لقد ذهل هايدن - أشهر أجير موسيقي - عندما وجد في زيارته الأولى للندن في عام 1790م أن جمهور موسيقاه فيها قد فاقوا بكثير طبقة النبلاء والأعيان. أما في فيينا، فلم تنجح محاولات موتسارت في البقاء في السوق المفتوحة دون رعاية الأرستقراطيين إلا لفترات متقطعة.
سيطرت أذواق الأرستقراطيين بالمثل على الفنون المرئية. وإذا كانت الرسومات الدينية تصنف عادة بأنها الأعلى في الأهمية، فإن أفضل الأعمال كانت دوما تأتي بتفويض من الكنائس الصغيرة أو الأديرة الغنية والمرموقة المليئة بالنبلاء، في حين أن الرعاة المدنيين (على الأقل قبل تواضع الكبرياء البشري نتيجة لحركة الإصلاح الديني) كانوا يطالبون دوما بالظهور في المشاهد المرسومة. وجاءت في المكانة التالية «الرسومات التاريخية»، التي كانت مخصصة في الأغلب لأحداث تشتمل على أبطال نبلاء من العصور القديمة أو الأساطير يتوحد معهم الأرستقراطيون بغريزتهم. ثم ظهرت الصور الشخصية، وهي عنصر أساسي في الديكور الداخلي لدى النبلاء، وبدأت بالأقنعة القديمة للأسلاف الرومانيين القدماء من النبلاء حتى وصلت إلى «الصور الشخصية بهدف التفاخر» لأسلاف متراصين، وكانت هذه الصور تزين القاعات وصالات عرض الأعمال الفنية بداية من القصور وحتى المنازل الريفية المتواضعة. ولا يمكن لصفة في أهمية سلالة النسب أن تمر دون تسجيلها بصريا، ووجد الفنانون أن فن رسم الأشخاص هو أفضل أشكال الرسم أجرا وأكثرها أمانا دون منازع. وعندما يكلف أحد من غير النبلاء رساما برسم صورة شخصية له، فإن هذه تكون إشارة أكيدة على طموحه الاجتماعي. ومن الإشارات الأخرى أيضا تزيين البيئة المحيطة بآثار وزخارف كلاسيكية؛ إذ يعكس هذا تقديرا للغات والتاريخ الموجودين في مؤسسات تعليم الصفوة. وقد عاد السائحون في الجولات الملكية من إيطاليا محملين بأعداد هائلة من التماثيل النصفية وتماثيل لجذع الإنسان، وقطع أثرية منقوشة، بالإضافة إلى صور مرسومة على قماش القنب؛ مثل البطاقات البريدية العملاقة التي تصور روما ونابولي والبندقية وغيرها من وجهات الحج الثقافي.
كان الأرستقراطيون أيضا هم الحكام على الصيحات السريعة الزوال، في الزخرفة والأثاث والملابس وسبل الترفيه، بل وحتى في أسلوب الكلام في بعض الأحيان. فحتى القرن الثامن عشر كان من أطلق عليهم تشسترفيلد «أصحاب أحدث صيحات الموضة» بلا شك رجال البلاط. فما كان يحدث في البلاط اليوم، كان العالم - أو على الأقل العالم المتاح لديه فائض للإنفاق - يفعله غدا. وربما يكون أكثر مثال لافت للنظر هو ارتداء الشعر المستعار؛ فقد ظهر لأول مرة في بلاط لويس الرابع عشر، ثم انتشر فيما بعد سريعا لباقي أنحاء أوروبا، ودام - مع تطور أنماط الأناقة رويدا رويدا - حتى تقلص حجم البلاط نفسه وأهميته في عصر الثورة الفرنسية. إلا أن إيقاع الابتكار في الموضة في هذا الوقت كان في تسارع؛ فقد بدأ النشاط التجاري المتزايد الذي اتسم به القرن الثامن عشر يوجه واضعي الصيحات الأرستقراطيين تماما كما كانوا هم أنفسهم يوجهون غيرهم، وقد بدأت صيحات البلاط تبدو رثة وغير جذابة مقارنة بالأشياء الجديدة التي لا حصر لها، التي تباع حاليا خارج نطاق هذا العالم الضيق. وقد ظلت جيوب اللوردات والسيدات المفترض أنها عامرة بالمال بمنزلة السوق المستهدفة لموفري السلع الكمالية، لكن الموردين كانوا يشكلون أذواق المستهلكين على نحو متزايد . وفي السنوات الأولى من القرن التالي، تقلصت عروض الأزياء، على الأقل تلك الخاصة بالرجال، لتقتصر على الأزياء العسكرية الرسمية، ولم يعد إلا أسلوب تفصيل القماش ونوعيته هما ما يميزان من يرتدون السترات الطويلة ذات الذيل المشقوق من النبلاء عن أي شخص آخر رتبته متواضعة؛ فقد انتهت تقريبا أيام الهيمنة الأرستقراطية الثقافية.
مع هذا ظلت الذكرى باقية؛ ففي النهاية كان إرثهم في كل مكان؛ في الموسيقى والفن والنصب التذكارية، وأهم من كل هذا، في المباني. فالمنازل العظيمة للنبلاء الأعلى مكانة - في المدن أو القرى - تقف شاهدة على الثروة والسلطة والمكانة التي حظي بها من بنيت لهم وورثتهم. استمر بناء المنازل في الريف إلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، وقد جعلتهم جميع مزايا التكنولوجيا الحديثة دوما أكبر حجما وأكثر بذخا. إلا أن النماذج الكلاسيكية كانت تهجر لصالح التصميمات القوطية؛ مما يعيد ذكرى الأوقات التي كانت فيها الأرستقراطية قوة يصعب أن يتحداها أحد قبل عام 1789م. وبعد مرور قرن أصبح الأرستقراطيون يتجنبون بناء البنايات السكنية الفخمة بسبب انهيار ثرواتهم المعتمدة على الأراضي. ومع هذا، بعد مرور نصف قرن، عقب اضطراب الحرب العالمية الأولى المشابه، كانوا يتخلون عن هذه البنايات، أو يدمرونها أو يبيعونها إلى مؤسسات أصبحت في هذا الوقت هي المؤسسات الوحيدة التي تستطيع التكيف مع حجم هذه البنايات. وعقب الحرب العالمية الثانية فقط تحول مصير المنازل الريفية، التي كانت ما تزال في أيدي أصحابها أو انتقلت ملكيتها إلى منظمات حماية عامة أو شبه عامة، مثل الجمعية الوطنية للمحافظة على التراث أو إدارات حكومية مخصصة للتراث ، إلى متاحف تشهد على أسلوب حياة النخبة المندثر.
الفصل الخامس
اضمحلال الأرستقراطية
إن الأسطورة السائدة بين الأرستقراطيين بأنهم يعبرون عن قيم أبدية ورثوها عن أجدادهم أذهلت دوما وضللت المؤرخين والمحللين الآخرين الذين يعتمدون عليهم ويثقون بهم؛ فقد مالوا إلى افتراض أنه عندما تغيرت الأوقات أو الظروف، واجه الأرستقراطيون الضيقو الأفق أزمات هددت وجودهم. وقد مرت عدة سنوات حتى تم إدراك حقيقة أنه لم يثبت أن أيا من هذه الأزمات المزعومة كان مهلكا على الإطلاق قبل القرن العشرين. لكن حاليا تجتمع الآراء على التأكيد على مدى مرونة الأرستقراطيين وقدرتهم على التكيف عند مواجهتهم لتغير اقتصادي أو مؤسسي أو ثقافي. لقد خضعت طرق تعاملهم مع هذا كله للدراسة على نطاق واسع؛ ومن ثم فإن السؤال الأخير لا يتمحور حول السبب وراء تمكن جماعة ساقت تلك المزاعم غير العقلانية عن أحقيتها في النفوذ والسلطة من استمرار التمسك بتلك المزاعم عبر تقلبات لا حصر لها، وإنما يتمحور السؤال حول سبب خضوعها في النهاية لمجموعة من القوى جعلت الأرستقراطية مجرد ذكرى غير واضحة المعالم.
قدمت الماركسية سردا مهما لهذه العملية. فبناء على افتراض أن أساس فهم التاريخ هو الصراع الطبقي، وأن الطبقات تتحدد من واقع علاقاتها بوسائل الإنتاج، يرى الماركسيون الأرستقراطيين على أنهم يمثلون طبقة إقطاعية؛ فقد هيمنوا على الاقتصاد الزراعي وبنية المجتمع عن طريق انتزاع الفائض من الفلاحين الذين لا حول لهم ولا قوة. لكن مع نمو المدن والتجارة والتصنيع، ظهرت طبقة متوسطة - أو برجوازية - تعتمد في ثروتها على رأس المال واستغلال العمالة الأجيرة. وفي النهاية، تخطت القوة الاقتصادية للطبقة البرجوازية قوة الطبقة الإقطاعية، وحدثت المأساة التاريخية الكبرى في أوائل العصر الحديث مع التحول من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، وفي هذه الأثناء استولى البرجوازيون على السلطة السياسية التي تتوافق مع قوتهم الاقتصادية. وانتهى هذا بثورات - سواء الإنجليزية في القرن السابع عشر أو الفرنسية في القرن الثامن عشر - أطيح فيها بالأرستقراطية بعنف.
رغم ما قد يكون عليه هذا التحليل من اتساق وجاذبية، ورغم دعمه بأبحاث ونقاشات خاضها باحثون منتمون للجناح اليساري خلال جزء كبير من القرن العشرين، فإنه فشل في إقناع معظم المؤرخين؛ فقد وجدوا أن تصوير الحرب الأهلية الإنجليزية على أنها ثورة برجوازية أمر بعيد الاحتمال، واستخدام الوصف نفسه مع الثورة الفرنسية هو إفراط في التبسيط. وقد أدهشهم مدى اشتراك الأرستقراطيين في أنواع معينة من النظم الرأسمالية، وعدم استخدام البرجوازيين لرأس مالهم في الإطاحة بالأرستقراطية، وإنما بالانضمام إليها. وأخيرا، أشار هؤلاء المؤرخون إلى أن الأرستقراطية نجت حتى من محاولة الثورة الفرنسية تدميرها، ومر قرن آخر قبل أن تبدأ السلطة الأرستقراطية في الاضمحلال حتى نهايتها. وكانت نهاية الأرستقراطية أكثر بطئا وأكثر فوضى وأقل قابلية للتنبؤ مقارنة بأي نظرية تاريخية كبرى. وبالتأكيد كان نوعا من الاضمحلال أكثر من كونه إطاحة. (1) الجدل
لم يمر حكم الأرستقراطيين قط دون إثارة جدل حوله، رغم ما اتصف به من تحصين شديد. وقد اتسم التاريخ المبكر للجمهورية الرومانية بمحاولات محددة كللت بالنجاح في النهاية من عامة الشعب لكسر احتكار الأرستقراطيين للسلطة. ثم في عام 73ق.م، قاد المصارع سبارتاكوس ثورة للعبيد هددت لوقت قصير البنية الاجتماعية بأكملها لإيطاليا الرومانية حتى هزيمة جيشه من العبيد على يد قوة عسكرية ساحقة. كان هذا هو مصير معظم الثورات الشعبية على مدار التاريخ، لكن قبل هزيمتهم النهائية كان الثوار عادة ما ينفذون انتقاما اجتماعيا وحشيا في سادتهم؛ فقد أعطت وحشية ثورة الفلاحين الفرنسيين في عام 1358م اسما مخيفا يطلق على أي ثورة لاحقة: «الجاكية». أما ثورة الفلاحين في إنجلترا في عام 1381م، فقد كانت أقل دموية، لكن الثوار ساروا وهم يرددون الشعار المشئوم:
في وقت آدم وحواء
أين كان النبلاء؟
لقد بثت هذه الثورة الرعب في ذاكرة الطبقات العليا لقرون. وفي ألمانيا كانت «حرب الفلاحين»، التي اجتاحت العديد من الإمارات في الفترة من عام 1524م حتى عام 1526م، لها التأثير ذاته، وكانت مبرراتها أكثر. كان عدد كبير من مظالم الثوار الأكثر إلحاحا سببها انتزاع الأسياد للأموال عنوة منهم، وحدث تدمير كبير لممتلكات النبلاء. لكن حتى هذا كان أخف وطأة مقارنة بالمرحلة الأخيرة من ثورة بوجاتشيف الكبرى في روسيا عام 1774. فبإلهام من النموذج الجريء لمقاومة القوزاق للسلطة المركزية، هجم العبيد على طول جزء كبير من نهر الفولجا على النبلاء، الذين كانت سلطاتهم وابتزازهم في زيادة مستمرة على مدى العقود الماضية. وبناء على حث بوجاتشيف للثوار الفلاحين على ذبح سادتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، شنق هؤلاء الفلاحون النبلاء بالآلاف ونهبوا ممتلكاتهم، وهرب الكثير منهم ذعرا. قال أحد الثوار لأحد النبلاء الشباب: «لقد انتهى زمانك.» لم يحدث هذا فعليا إلا بعد مرور قرن ونصف؛ حيث استعادت الجيوش النظامية النظام على الفور مرة أخرى. وكانت الأعمال الانتقامية التي تلت هذا أكثر وحشية؛ كان هذا أيضا نمطا معتادا؛ حيث كان يثأر السادة عند عودتهم للسلطة بسبب ما تعرضوا له من رعب. وقد تكرر هذا عندما ذبح الفلاحون في ترانسيلفانيا 3 آلاف نبيل بعد مرور عشر سنوات. ولم ينكسر هذا النمط إلا في فرنسا في نهاية هذا العقد. فلم يقتل إلا عدد قليل من النبلاء - رغم شعور الكثير منهم بالرعب - في الثورات الريفية التي اجتاحت الأقاليم الفرنسية في ربيع وصيف عام 1789م. إلا أن الأدوات والرموز الدالة على سلطة النبلاء، في شكل صكوك الملكية وأبراج الحمام وحتى دوارات الرياح على شكل شعار النبالة، كانت تستهدف بانتظام، وهذه المرة لم يكن هناك جيش، وفي واقع الأمر لم تكن هناك حكومة لتوجيه أي جيش من أجل إخماد الثورات. في حقيقة الأمر، اختارت الجمعية الوطنية تهدئة الثوار عن طريق إقرار إلغاء ما أطلقوا عليه اسم النظام الإقطاعي؛ وهو الكيان الكامل لحقوق اللوردات ومستحقاتهم الموروثة من العصور الوسطى. ومن ثم بدأت سلسلة من الأحداث، انتهت - في أقل من سنة - بإصدار الجمعية إلغاء لمكانة النبلاء نفسها. إلا أن الثوار الفلاحين الفرنسيين الذين انتفضوا في عام 1789م لم يطالبوا بهذا. بل لم يطالب به حتى المشاركون في الثورات السابقة عليها في أماكن أخرى. فحتى الثوار الذين ذبحوا النبلاء لم يفكروا ولو تفكيرا خاطفا في احتمال وجود عالم دون أسياد. فما أسخطهم لم تكن السيادة في حد ذاتها، بل إساءة استخدامها؛ كالنبلاء الذين لم يتصرفوا كما يفترض منهم بفرضهم إيجارات باهظة واغتصابهم الأموال عنوة، ومطالبتهم بأشياء جديدة وغير معتادة، وإسنادهم سلطتهم لوسطاء يحققون أرباحا طائلة، وإهمالهم واجبهم في العناية بمستأجريهم أو تابعيهم أو عبيدهم.
انطبق الوضع نفسه على معظم المعارضة الفكرية لحكم النبلاء قبل القرن الثامن عشر؛ فطالما تعرض النبلاء للنقد، لا لأن وجودهم كان خطأ، بل لأنهم فشلوا بطرق شتى في تحقيق المثل العليا التي زعموها، والتي تذكر من أجل تبرير وضعهم. صحيح أن مكيافيللي أطلق عليهم اسم «الهوام»، لكنه تعرض لتحقير شديد لأسباب أخرى جعلت انتقاداته القاسية بلا تأثير تقريبا. وربما وقع ضرر أكبر جراء السخرية التي انهال بها ثيربانتس على دون كيشوت، الذي كان رأسه مشوشا بأحلام عن فروسية عتيقة الطراز، ومع هذا كان كتابه مفضلا للغاية لدى قراء من النبلاء. لقد وضع نجاح فكرة جون لوك في القرن الثامن عشر، التي تقضي بأن كل البشر ولدوا متساوين - جسديا وفكريا - وليس فقط أمام الرب، أسسا مهمة لرفض أي مزاعم عن التميز الوراثي. وفي هذا الوقت فقط بدأت بعض الكتب الكلاسيكية التي كان المتعلمون يقرءونها في المدارس تبدو أكثر صلة بهذا الموضوع. فعلى سبيل المثال، في هذا الوقت فقط تبدو مشاعر ماريوس - أول فرد من غير النبلاء يصل إلى منصب القنصل في عام 111ق.م - أكثر صلة بالعصر الحديث. فعلى حد قول المؤرخ سالوست، فإن ماريوس صرح للشعب الروماني قائلا:
أعتقد أن جميع الرجال يتشاركون في طبيعة واحدة ومتماثلة، وأن فضيلة الرجولة هي سمة النبل الوحيدة ... فقد حقق أجدادكم شهرة لأنفسهم وللدولة. وبالاعتماد على هذه الشهرة من أجل خلع مجد غير مستحق على أنفسهم ... يكن النبلاء - المختلفون في شخصياتهم كثيرا عن هؤلاء الأجداد - الاحتقار لنا نحن الذين نحاكي فضائلهم، ونتوقع الحصول على جميع المناصب التشريفية، لا لأنهم يستحقونها، بل لأنهم كما لو كانوا يتمتعون بامتياز خاص للحصول عليها. يرتكب هؤلاء الرجال المتغطرسون خطأ فادحا؛ فقد ترك لهم أجدادهم كل ما يستطيعون من ثروات، وأقنعة تعكس وجوههم، وذكراهم المجيدة. أما الفضيلة، فلم يورثوها لهم، ولا يستطيعون ذلك؛ إذ إنها الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أحد أبدا إعطاءه لأحد أو الحصول عليه من أحد.
شكل 5-1: أعداء الأرستقراطية: (أ) أونوريه دي ميرابو (1749-1791م)، و(ب) ديفيد لويد جورج (1863-1945م). توفي لويد جورج وهو إيرل، رغم أنه لم يتبوأ قط مقعده في مجلس اللوردات.
مع هذا، لم يظهر نقد حديث متماسك قبل الثورة الأمريكية، لكن في هذا الوقت ألغت الولايات المتحدة الحديثة التكوين رسميا أي ألقاب للنبلاء بوصفها تتعارض مع المؤسسات الجمهورية، وعندما أنشأ الضباط في الجيش القاري جمعية سينسيناتي الوراثية، من أجل تخليد إنجازهم عبر الأجيال التالية، تعرضت لاستنكار شديد بوصفها بداية لطبقة أرستقراطية أمريكية. وطالما أعلن بنجامين فرانكلن، السفير الأمريكي في فرنسا، أن ادعاءات التميز الموروث هي «محض دعابة». وقد أجرى حسابات ليظهر أنه عقب بضعة أجيال فقط لا يبقى في عروق أي إنسان إلا قدر ضئيل من دم أجداده. وعندما وصلته أخبار عن الجدل الدائر حول جمعية سينسيناتي، قرر نقل الرسالة المناهضة للأرستقراطية إلى أوروبا. فأقنع كونت ميرابو - النبيل الثوري الذي يعيش على الكتابة - بعمل كتيب ظاهريا عن جمعية سينسيناتي، لكنه في حقيقة الأمر يشن هجوما على النبلاء بوجه عام. وفي عام 1784م ظهر كتابه «تأملات في مجتمع سينسيناتوس». وفي استنكاره لطبقة النبلاء بوصفها لا تزيد على مجرد فكرة ملفقة، أدان كونت ميرابو سجلها التاريخي الدموي والمستبد، والكبرياء والغرور اللذين نبعت منهما جميع الأفعال التي يزعم أنها نبيلة، والحماقة في تصديق أن التميز يمكن أن يورث، والمثال السيئ من الكسل والعبث الذي قدموه للمجتمع بأسره. لقد كانت مكانة النبلاء إهانة متعمدة للمساواة الفطرية، فقد انحدر أعضاؤها من قطاع للطرق، والآن هم مجرد «عبيد ذوي ألقاب للحكام الطغاة». وفي هذا الوقت - قبل خمس سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية - قام أحد الذين قدر لهم أن يكونوا ضمن قادتها الأوائل بالتنديد برتبته بأسلوب سيتبناه زملاؤه من الثوار من بعده بوقت قصير بوصفه جزءا محوريا في أيديولوجيتهم الكاملة؛ فقد أظهرت أمريكا إمكانية وجود مجتمع ناجح دون نبلاء. وكان الفرنسيون على وشك اكتشاف هل سيتحقق الأمر نفسه في أوروبا أم لا. (2) الثورة
لم يكن الهجوم معدا مسبقا، ولم يتوقعه النبلاء، فمن المعروف أن النبلاء هم من فعلوا معظم الأشياء التي عجلت بالأزمة عن طريق مقاومتهم - في نزاع تقليدي يتعلق بالدستورية الأرستقراطية - لخطط ملكية تهدف إلى تجنب الإفلاس. كانت الإصلاحات الشرعية الوحيدة - على حد زعمهم - تتطلب موافقة الهيئة الملكية التمثيلية الوحيدة: مجلس طبقات الأمة. لم يجتمع هذا المجلس منذ عام 1614م، لكن النماذج التي رصدت في هذا الوقت بدت أنها تعد النبلاء بالدور السيادي الجماعي الموجود في حكومة الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي؛ فقد كانوا ممثلين في مجلس واحد فقط من المجالس الثلاثة، لكنهم كانوا واثقين من السيطرة على رجال الدين عن طريق تحكمهم في منصب الأسقف، ويمكن أن يتخطى عدد أصوات أي طبقتين أصوات الطبقة الثالثة. إلا أن إمكانية تطبيق «نظم عام 1614م» أثارت الغضب بين أعضاء الطبقة الثالثة المتعلمة، التي رأت أن هذه النظم تدين 95٪ من الأمة بالخضوع التشريعي الدائم لمن يطلق عليهم اسم «الرتب المتميزة». وأشار أشهر كتيب عن الحملة الانتخابية في عام 1789م، الذي يحمل عنوان «ما الطبقة الثالثة؟» لأمانول سييس، إلى أنه لا يمكن لأي طبقة متميزة أن تكون جزءا من الأمة، وأن من يزعمون أنهم أحفاد الفرنكيين يجب أن يعودوا إلى الغابات الألمانية التي جاءوا منها. واستجابة للصخب الذي حدث، ضاعف الملك عدد نواب الطبقة الثالثة، لكن لم يكن لهذا أي معنى دون حق التصويت لكل فرد. تعاطف عدد قليل من النبلاء مع الطبقة الثالثة، لكن معظم الذين انتخبوا للتمثيل النيابي في طبقة النبلاء قاوموا أي محاولة لتوحيد الطبقات في جمعية وطنية واحدة حتى أسست الطبقة الثالثة من جانبها فقط هذه الجمعية عقب أزمة دامت ستة أسابيع. حتى في هذا الوقت، تطلب الوضع صدور أمر ملكي مباشر لجعل الغالبية العظمى من النبلاء يتقبلون انتهاء الطبقات المنفصلة. انتهت ثمانية أشهر من الجدل ومقاومة النبلاء لمطالب الطبقة الثالثة بإطلاق العنان لهجوم مرير من الشك والعداوة الاجتماعية. فأصبحت كلمات «أرستقراطي» و«أرستقراطية» مصطلحات عامة تشير إلى عدو من أي نوع للثورة. وفي البيان الرسمي الأصلي باسم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» (26 أغسطس 1789م) أعلن الثوار المساواة أمام القانون، والمساواة أمام مسئولي الضرائب، والمساواة في الحصول على الفرص. فجاء فيه: «يولد الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق. ولا يجوز أن تسند الامتيازات الاجتماعية إلا وفقا لاعتبارات الصالح العام.» وهكذا انتهى عالم امتيازات الهيمنة الأرستقراطية.
شكل 5-2: الدعاية المناهضة للأرستقراطية في الثورة الفرنسية: (أ) أحد الفلاحين يحمل عبء أصحاب الامتيازات على ظهره، بينما آخرون (ب) يحتفلون بإلغاء النظام الإقطاعي عن طريق تدمير رموز النبالة.
وضعت شمولية هذا التحدي النبلاء الفرنسيين في حالة من الاضطراب. ورحب عدد قليل منهم بنهاية الطبقات المنفصلة وحاولوا التعاون في إعادة صياغة المؤسسات الوطنية. في حين فضل كثيرون اجتياز هذه المحنة في سلبية، آملين انحسارها في النهاية. وقد اختارت أقلية الهجرة إلى الخارج؛ إذ أداروا ظهورهم لدولة لم تعد دولتهم، موجهين تهديدات عدوانية من خارج حدود البلاد؛ ومن ثم لم يكن النبلاء ككل في وضع يمكنهم من مقاومة النهاية المنطقية لمثل هذا القدر من المشاعر والأفعال المناهضة للأرستقراطية. وفي 20 يونيو 1790م أصدرت الجمعية الوطنية إلغاء لمكانة النبلاء نفسها، ومعها استخدام الألقاب والأزياء الرسمية وشعارات النبالة أو إظهارها.
تولى نبلاء ليبراليون زمام الأمور في هذه الحالة، عاملين بذلك على زيادة تعميق الصدع مع رفاقهم النبلاء الآخرين. إلا أن معاناة من أصبحوا حاليا من «العصر البائد» لم تنته بعد؛ ففي عام 1791م، حاول الملك نفسه الهجرة دون جدوى. وما حدث معه شجع كثيرين ممن قاوموا - حتى وقتها - ما أطلق عليه الذين ذهبوا إلى الخارج «طريق الشرف». وقد كانت الأفعال الغريبة للمهاجرين، الذين أطلقوا على أنفسهم وحدهم النبلاء، هي التي دفعت الثوار إلى الدخول في حرب ضد القوى الألمانية في عام 1792م. وقد أصبح هؤلاء المهاجرون، الذين كان يحميهم العدو حينذاك، خائنين، فصودرت أراضيهم، وفي النهاية طبق هذا أيضا على أراضي أقاربهم الذين ظلوا داخل البلاد. وعندما ساءت الأوضاع في الحرب، أصبح جميع النبلاء السابقين مثيرين للشك، وفي عهد الإرهاب من عام 1793 إلى 1794م أعدم 1200 شخص. كان هذا العدد أقل من 1٪ من عددهم، وحصدت المقصلة حياة عدد أكبر من هذا بكثير من المواطنين العاديين. إلا أن الإذلال العام وإعدام الكثير من أعضاء الطبقة الحاكمة السابقة كشف على نحو مثير ضعف الأرستقراطيين. فلم يحدث من قبل قط في التاريخ أن تعرضت سلطة النبلاء ومجدهم لكل هذا التحدي والتشويه ثم الإطاحة الكاملة؛ فلم يتخيل أحد قط إمكانية حدوث هذا. والآن بعد حدوث ما كان يبدو مستحيلا، أصبح دوما من الممكن اجتذاب طموح المتطرفين والمصلحين والثوار الآخرين، ومطاردة الأرستقراطيين المتبقين في كل مكان، فتحطمت إلى الأبد أسطورة عدم وجود بديل عن الحكم الوراثي للنخبة المالكة للأراضي. (3) رتبة تلغي رتبا أخرى
ومع هذا فقد فشل إلغاء النبالة؛ فعقب انتهاء عهد الإرهاب، بدأ المهاجرون النبلاء في العودة تدريجيا بحذر، والعثور على طرق لاستعادة ممتلكاتهم التي فقدوها. وعندما استولى نابليون - وهو أحد النبلاء الذين كونتهم الثورة بدلا من أن تدمرهم - على السلطة، دعا سريعا أي فرد لا يؤيد أسرة بوربون المعزولة إلى العودة إلى البلاد والعمل معه. وعندما نصب نفسه إمبراطورا، أراد أن يحيط نفسه برجال البلاط، وأسس نخبة جديدة تحمل ألقابا، وادعى أن هذه لم تكن طبقة من النبلاء، وأنها تهدف إلى أن تحل محل القدر المتبقي من الطبقة القديمة، لكنه كان حريصا على إدخال نبلاء العهد البائد فيها، وعند سقوطه اعتبرت أسرة بوربون التي استعادت الحكم هذا التكوين البالغ من العمر ست سنوات التكوين الأصلي.
شكل 5-3: شارل موريس تاليران (1754-1838م)، أحد النبلاء في عصر ما قبل الثورة وتحول إلى أمير في عصر نابليون.
استهزأ النبلاء المنتمون لسلالات عهد ما قبل الثورة بهذا الأمر؛ ففي اعتقادهم أنهم هم وحدهم النبلاء الحقيقيون. وسرا لم يعترفوا قط بحق الجمعية الوطنية أو حتى سلطتها في إلغاء مكانة ورثوها في دمائهم عن أجدادهم، وحتى الرب لا يستطيع سلبهم إياها. فما استطاع الثوار فعله هو إلغاء الاعتراف العام بمكانة النبالة والسبل الرئيسية في الانضمام إليها؛ ومن ثم حولوا بذلك أكثر طبقة نبلاء مفتوحة في أوروبا إلى طبقة مغلقة. هذا وقد أعيد فتح الانضمام إليها خلال فترة استرداد الحكم التي دامت 15 عاما، لكن أنماط الانضمام في فترة ما قبل الثورة لم تستعد قط. وعقب عام 1830م قلت كثيرا عمليات منح مكانة النبالة، وعقب الانتصار النهائي للنظام الجمهوري في عام 1870م، توقفت تماما.
في الوقت نفسه أصاب المشهد المروع للثورة ضد الأرستقراطيين في فرنسا جميع النبلاء الآخرين في أوروبا بالخوف، فشعروا جميعهم فجأة بالتهديد، وكذلك كان حال الملوك. فخطط الإمبراطور جوزيف الثاني التي كان الهدف منها تقويض سلطة اللوردات في أراضيه، التي تنتقل بالوراثة عن طريق تحرير العبيد، والتي أعدت في فترة الستينيات من القرن الثامن عشر وطبقت طوال فترة الثمانينيات من القرن نفسه؛ تم التخلي عنها سريعا حتى قبل وفاته في عام 1790م. هذا وقد أعلنت كاثرين الثانية إمبراطورة روسيا أن وظيفتها تتمثل في أن تكون أرستقراطية. وفي بروسيا، عزز نظام قانوني جديد في عام 1794م امتيازات النبلاء وسلطتهم على عبيدهم، في حين اغتال النبلاء في السويد ملكا بدا عازما على دعم الطموحات الديمقراطية. وفي إنجلترا أدان إدموند بيرك، الذي عاش معظم حياته معتمدا على رعاية النبلاء، الثورة الفرنسية إجمالا وهجومها على «التاج الزخرفي للمجتمع الرفيع المستوى» بوصفه عملا ناتجا عن «نزعة سيئة وخبيثة وحسودة، دون أدنى شعور بالواقع ولا بأي صورة أو تصوير للفضيلة.» وإذا كان كتاب بيرك «تأملات حول الثورة في فرنسا» قد عارضه كتاب توماس باين «حقوق الإنسان» الذي فاقه في مبيعاته بهجائه للنبالة، واصفا إياها بأنها نوع من العجز، فإنه قد ترجم إلى معظم اللغات الأوروبية وأصبح مرجعا عالميا في التحفظ الاجتماعي والمؤسسي.
نظرا لارتفاع معنوياتهم بسبب انتصاراتهم المبدئية على جيوش بروسيا والنمسا التي يقودها النبلاء، أعلن الثوار الفرنسيون في عام 1792م أهداف حربهم على أنها: «شن حرب على القلاع وتحقيق سلام للأكواخ!» وألزموا أنفسهم بقلب النظام الاجتماعي للدول التي اجتاحوها. ومع هذا فقد عانت الأكواخ أكثر من القلاع. ولم يسلم أي مستوى في المجتمع من الأذى عندما جاء الغزاة الفرنسيون، ونتيجة للحروب الفرنسية اختفت دول معينة يحكمها النبلاء، مثل المدن الجمهورية في إيطاليا أو الأسقفيات الأميرية في ألمانيا، إلى الأبد. وكذا حال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي كان معظم عملها على مدار القرن الأخير لها يتعلق بحقوق وامتيازات الأشكال المتنوعة للنبالة تحت مظلتها. وقد وجد كثير من الأمراء السابقين المحدودي السلطة المستقلين أن المناطق التابعة لهم قد «ألحقت» بأجزاء من ممالك أكبر حجما، ولم يبق لهم إلا مجرد ألقاب ورتب جوفاء. كما ضعفت الروح المعنوية لدى النبلاء العسكريين في بروسيا مؤقتا بسبب هزيمتهم على يد نابليون في عام 1806م، لكن عندما تلا هذا الغزو احتلال أو صور أخرى من صور السيطرة، وجد الفرنسيون أنه لا بديل حقيقي عن العمل عبر النخب الموجودة وشبكات سلطتهم. أضعفت المعارضة الواسعة النطاق للنبلاء في بروسيا المحاولات الأولية للمصلحين البروسيين لتحرير العبيد وفتح المهن أمام الموهوبين بهدف مقاومة الفرنسيين بالطاقات نفسها التي فجرتها الثورة؛ وعليه، عندما تعرض نابليون في النهاية إلى الهزيمة على يد تحالف دولي، كانت الجيوش الجماهيرية المشاركة لا تزال إلى حد كبير تحت قيادة النبلاء، واعتبر سقوطه على نطاق واسع انتصارا لقوات حركة المحافظين الاجتماعية. وقد عزم الأرستقراطيون في جميع الدول على استخدام انتصارهم في التأكد من أن التحدي الذي تغلبوا عليه لتوهم لن يتكرر أبدا. (4) نجاح متأخر
إلا أن عالم ما قبل الثورة لم يكن من الممكن إعادة بنائه، فكان ذلك بداية النهاية. لقد ظهر ضعف حكم الأرستقراطيين، وأي محاولة للتقليل من هذا الضعف كانت تغير لا محالة من طبيعته. أصبح حاليا يوجد مذهب فكري محكم معاد للنبلاء، وكان هذا المذهب منطقيا. وأصبح من الممكن منطقيا تفنيد جميع المزاعم العتيقة الطراز المتعلقة بالنبلاء. كذلك أصبح هناك جمهور للحجج المناهضة للنبلاء يتمتع بالثقة والانفتاح، وكان نطاقه في توسع. وكانت الأفكار عن المساواة الفطرية والمدنية تفيد على وجه الخصوص الطبقة المتوسطة المتعلمة التي تنمو بسرعة غير مسبوقة مع ما تتمتع به من توسع اقتصادي ونمو لسلطتها السياسية والاجتماعية. فعامة الشعب الذين أصبحوا أغنياء بسبب التجارة أو الصناعة، أو تحسنت مكانتهم بشغل المناصب، ظلوا عرضة لإغراء شراء الأراضي واتباع أنماط حياة النبلاء، لكن مثال الطبقة الثالثة في فرنسا في عام 1789م ألهم أعدادا متزايدة منهم؛ تلك الطبقة التي استولت على السلطة من أجل إنشاء أقوى دولة في أوروبا متحدية بذلك أنانية النبلاء وازدرائهم؛ وعليه، لم يرفضوا فقط المزاعم الأرستقراطية بالتميز الاجتماعي الموروث، وإنما عارضوا أيضا احتكار النبلاء القديم للسلطة السياسية ، وطالبوا بمؤسسات تمثيلية، أو - في حال وجدت هذه المؤسسات - بتمثيل أوسع لأصحاب الأملاك والثروة والموهبة، لكنهم لا يتمتعون بمؤهلات وراثية. ولم تكن هذه حتى هذا الوقت دعوة لديمقراطية كاملة، رغم إطلاق هذا الاسم عليها طوال الوقت. إلا أنها بالتأكيد كانت رفضا لأي شكل من أشكال الأرستقراطية.
لم يستخف النبلاء قط بالتحدي، لكنهم - كما حدث في فرنسا عام 1789م - لم يتمكنوا من الاتفاق على طريقة لمواجهته. فاتجهت الغالبية العظمى منهم بحكم الغريزة إلى الاحتفاظ بمناصبهم دون أي تنازلات، والبحث عن طرق لحماية أنفسهم مما رأوا أنه نقطة الضعف التي تسببت في المحن التي تعرضوا لها. لكن رأى آخرون أن هذا الموقف كان انتحاريا؛ فمع تعرضهم لعالم سريع التغير، كان لا بد لهم أن «يجروا إصلاحات كي يتسنى لهم الاحتفاظ بما لديهم»، أو كما جاء على لسان شخصية الأمير الصقلي الخيالية في رواية «الفهد» للامبيدوزا في عام 1860م: «إذا أردت الأمور أن تظل كما هي، فلا بد للأشياء أن تتغير.» وقد دمر قانون الإصلاح البرلماني العظيم لعام 1832م، الذي عارضه مجلس اللوردات البريطاني حتى النهاية، التأثير السياسي لكثير من النبلاء، ومنح حق التمثيل لأول مرة للمدن الصناعية المتنامية، لكن رئيس الوزراء إيرل جراي دافع عنه بوصفه لا يضر «بالمصالح الفعلية للأرستقراطيين». طرحت حجج مماثلة دفاعا عن تحرير العبيد، وانتشرت في جميع أنحاء أوروبا الشرقية وألمانيا في الفترة بين عامي 1807 و1864م. في حين شن المعارضون للتغيير هجوما ضاريا على فكرة تحول من كانوا تابعين في السابق إلى ملاك أحرار مثلهم - حيث صار باستطاعتهم حاليا تملك أراض كانت مخصصة من قبل للنبلاء - وتوقعوا حدوث دمار اقتصادي في ظل غياب الانتفاع من خدمات العمالة المجانية؛ أشار دعاة الإصلاح إلى أن انتهاء نظام الأسياد سيجعل من الأسهل على كبار ملاك الأراضي تحقيق أرباح من سوق السلع الزراعية المتوسعة في قرن يتزايد فيه تعداد السكان بشدة. أشاروا أيضا إلى أن انتهاء نظام التبعية الظالم سيقلل من احتمال تحدي الطبقات الأقل مكانة في الريف للنظام القائم. كذلك أكدت ثورات العبيد في المجر عام 1831م أو في منطقة جاليسيا عام 1846م، هذا الدرس، وأدى عجز السلطات المركزية خلال ثورات عام 1848م إلى تجدد الفوضى في الريف. ومن أجل تهدئة هذه الفوضى، أصدر إمبراطور النمسا مرسوما بتحرير العبيد في جميع الأراضي الواقعة تحت حكمه، وطبق هذا سريعا في معظم البلديات الألمانية الأصغر حجما. ورغم تعقيدات وخيبات أمل جميع الأطراف التي فرض عليها تطبيق هذا التحرير، فإن اضطراب الفلاحين هدأ إلى حد كبير.
رغم تجديد الجمهورية الفرنسية الثانية السريعة الزوال لقرار إلغاء مكانة النبلاء الذي صدر في عام 1790م لوقت قصير، فإن ثورات عام 1848م كانت موجهة في الأساس ضد الملوك لا ضد الأرستقراطيين. وعندما انتهت الاضطرابات أعاد الملوك والنبلاء تشكيل تحالفهم القديم؛ حيث وحدوا قواهم بحنق شديد مع غير النبلاء أصحاب الأملاك الذين خافوا بالمثل من الخطاب الاشتراكي الذي ظهر. احتوت الدساتير الليبرالية المتعددة التي طبقت على مدار العقود التالية عادة على نص - استنادا لاستقرار النموذج البريطاني موضع الإعجاب - خاص بمجلس نواب ينتخب من أصحاب الأملاك، ومجلس أعيان مرشح أو وراثي من الأرستقراطيين. في هذه الأوقات، استمر النبلاء في لعب دور بارز - أحيانا يكون مهيمنا وإن لم يعد احتكاريا - في الحياة العامة في جميع الدول الأوروبية. فلم يعد باستطاعتهم حاليا تجنب التعامل مع الطبقات الوسطى التي زادت ثقتها بنفسها أكثر من أي وقت مضى، إلا عن طريق التخلي عن كل شيء، تماما كما فعل أنصار الحكم الملكي الشرعي الفرنسي الذين فضلوا «الهجرة الداخلية» عقب انهيار سلالة بوربون رفيعة المقام في عام 1830م. إلا أن رباط الملكية زاد من التقريب بينهم، وأشار الازدهار الزراعي في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن ملاك الأراضي - أيا كان حجمها - كان أداؤهم جيدا. وطالما تمكن اللوردات السابقون من الاستحواذ على أي قطعة أرض يحصل عليها العبيد عند تحررهم. وفي إسبانيا، لم يؤد إلغاء نظام توريث الابن الأكبر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى التجزئة المتوقعة والمقصودة للمساحات الشاسعة من الأراضي الخاصة السيئة السمعة في شبه الجزيرة الأيبيرية، تماما كما لم يتسبب إلغاء قوانين الذرة البريطانية عام 1846م في إحداث الدمار المتوقع «لمصالح ملاك الأراضي». كذلك أصبح النبلاء حاليا يستثمرون - كما لم يحدث من قبل - في صناعات جديدة أو آخذة في التوسع، مثل السكك الحديدية أو الفحم. وباستثناء روسيا، فقد الأرستقراطيون في منتصف القرن التاسع عشر معظم العلامات الدالة المتبقية على النظام الإقطاعي؛ من حيث تنظيمهم داخل كيان قانوني، وسلطتهم على تابعيهم - من العبيد أو غيرهم - وجميع أنواع الإعفاءات والامتيازات. والآن أصبحت العلامة الدالة على تميزهم هي مجرد دفعهم ضرائب أكثر. إلا أن سيادتهم الاجتماعية كانت لا تزال معترفا بها على نطاق واسع وتحظى بالتوقير، وظلت ألقابهم أو مكانتهم تحظى بالاعتراف القانوني، كما ظلت مشاركتهم في السلطة الواسعة النطاق. فعقب أخطر أزمة تعرضت لها الأرستقراطية عبر تاريخها، بدا أنها نجت مرة أخرى، مجروحة لكن ما زالت قادرة على الحركة. (5) عذاب الأرستقراطية
تماما كما كانت محاكاة أوروبا للجدل الذي أثير في مدينة سينسيناتي في أمريكا بمنزلة دليل على بدء للهجوم المدمر الأول على الأرستقراطية، كانت الصراعات عبر الأطلسي بمنزلة دليل على انطفاء جذوة الأرستقراطية؛ ففي الوقت الذي حصل فيه العبيد في روسيا - آخر أكبر تعداد من العبيد في أوروبا - على حريتهم في عام 1861م، كانت الولايات المتحدة حبيسة حرب أهلية حول نهاية العبودية. مكنت العبودية المزارعين في جنوب الولايات المتحدة قديما من الحياة بأساليب تشبه أنماط حياة الأرستقراطيين في أوروبا، وأشارت هزيمة الاتحاد الكونفيدرالي إلى نهاية هذا العالم، وكذلك أطلقت العنان للقوة الزراعية والاقتصادية للولايات التي اتحدت مرة أخرى. وبحلول عام 1869م - بعد أربع سنوات من انتصار الاتحاد - كان المحيط الأطلسي والمحيط الهادي تربطهما خطوط سكك حديدية. وقد أطلقت طاقة البخار والصلب القدرة الإنتاجية الزراعية الهائلة للمروج، وفيما بعد القدرة الإنتاجية للمناطق الأخرى خارج القارة الأوروبية، سواء عن طريق السكك الحديدية أو السفن البخارية الأكبر حجما من أي وقت مضى، التي أصبحت مزودة في نهاية الأمر بثلاجات. أغرقت هذه الاختراعات التكنولوجية أوروبا بأطعمة زهيدة الثمن، وأدخلت الزراعة في جيل كامل من الكساد. وقد حدث انتعاش لوقت قصير لها في العقد الأول من القرن العشرين، لكنها لم تستعد ازدهارها الدائم إلا عقب الحرب العالمية الثانية.
يسلط الضغط الذي مارسته جماعات الضغط الزراعية من أجل فرض تعريفات الحماية الجمركية الضوء على مدى القوة التي ما زالت تتمتع بها النخبة من ملاك الأراضي. وخضعت معظم الحكومات لهذه الجماعات، رغم أن الأسواق الوطنية التي تمتعت في النهاية بالحماية نادرا ما كانت تقدم تعويضا لأسواق التصدير الخاسرة. وكانت بريطانيا العظمى الاستثناء الأكبر؛ حيث أصبحت التجارة الحرة في هذا الوقت أمرا معتادا، واعتاد الناخبون على الأطعمة الزهيدة الثمن. وهنا سمح لعائدات ملاك الأراضي بأن تهبط. وقد واجهت محاولات ملاك الأراضي الأيرلنديين لتعويض هذا برفع الإيجارات «حرب زراعية» شنها الفلاحون، ولم تتمكن الحكومة من تهدئتها إلا عبر سن تغييرات فتحت الطريق أمام المصادرة الفعلية لسطوة ملاك الأراضي البروتستانت. وفي إنجلترا - في الوقت نفسه - تم التخلي عن بناء المنازل الريفية إلى حد كبير، وبدأ الملاك في بيع الأراضي والأصول الأخرى مثل المكتبات أو التحف الفنية، واضعين أي قدر من الأرباح يحققونه من سوق راكدة في نوع الأصول السائلة التي تجنبها معظم أجدادهم. ولم تكد الأمور تبدأ في التحسن في تسعينيات القرن التاسع عشر، حتى أدخلت ضريبة التركات من أجل فرض الضرائب على الأصول الرأسمالية والدخل أيضا. وفي خلال عشر سنوات، بدأ لويد جورج، الذي كره ملاك الأراضي الأرستقراطيين واحتقرهم - بصفته وزيرا للمالية - في فرض مزيد من الضرائب عليهم؛ مما دفع مجلس اللوردات في النهاية إلى المقاومة الشرسة لميزانيته في عام 1909م.
شكل 5-4: زواج أحد البريطانيين من أمريكية من عموم الشعب: أسرة دوق مارلبورو التاسع، رسمها جون سينجر سارجنت.
ظل شعار «النبلاء ضد الشعب» يتردد في الأجواء منذ حاول اللوردات إعاقة توسيع حق الانتخاب البرلماني في ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ فقد رأوا بوضوح كاف أن الديمقراطية ستقضي تماما على كل ما يمثلونه. فقبل ثلاثة عقود، أعلن ماركيز ساليسبري، الذي قدر له أن يكون آخر رئيس للوزراء يحكم من فئة اللوردات، قائلا: «إن الطبقات التي تمثل التحضر ... لديها الحق في المطالبة بضمانات لحمايتها من أن تطغى عليهم حشود لا تملك المعرفة التي توجهها ولا حصة في الرخاء العام تتحكم فيها.» لكن الزمن سيعلمها أنها لا تستحق مثل هذا الحق. وعلى حد وصف المؤرخ ألكسي دي توكفيل (1805-1859م) - الذي كان أرستقراطيا حتى أطراف أصابعه، لكنه كان أكثر من يتمتعون برؤية واضحة في عصره - فإن العالم أصبح مدفوعا «بقوة غير معروفة - ربما يمكن تنظيمها أو تهدئتها، لكن لا يمكن التغلب عليها - نحو تدمير الأرستقراطيين.»
قوض العالم الصناعي بقسوة النخبة الزراعية؛ فنظرا لأن التغيرات في تكنولوجيا النقل دمرت الأشكال التقليدية للثروة، أصبح من حققوا الثراء عن طريق التمويل والتجارة والصناعة في هذا الوقت - لأول مرة في التاريخ - أكثر ثراء حتى من أكبر ملاك الأراضي. وربما استمرت العائلات النبيلة، التي حبتها الصدفة بمخزون من الفحم أو المعادن، أو ضيعات في طريق المدن الآخذة في التوسع، في تجميع ثروات هائلة، لكن بالنسبة إلى باقي العائلات، تزايد تفوق رجال الأعمال عليها. وإذا حدث وحصلت الفئة الثانية على منازل ريفية، فإنها لم تكن تنفق عليها من أرباح الزراعة. في الوقت نفسه، في معظم أنحاء أوروبا التحقت الطبقة المتوسطة المتعلمة - بأعداد غير مسبوقة - بطبقة النخبة عن طريق حصولها على مكانة النبلاء، وحتى دون هذا، تسربت إلى الرتب العليا للبيروقراطيين والقوات المسلحة على نحو لم يحدث من قبل. وإذا كانت مناصب القيادة العليا لا تزال على نحو مذهل وإلى حد كبير في أيدي أصحابها التقليديين، فإن الرتب التي كانت من قبل حكرا على النبلاء أصبحت الغالبية العظمى التي تشغلها من غير النبلاء، حتى وإن كان السبب هو زيادة أعداد تلك المناصب بمعدلات لا تستطيع أعداد النبلاء مضاهاتها.
ثم نشبت الحرب العالمية الأولى. قيل إن هذا الصراع بدأ كمحاولة حازمة من الأرستقراطيين في أوروبا لإعادة تأكيد سيطرتهم المتداعية؛ فقد كانت «رد فعل أرستقراطيا نبع من رد الفعل المبالغ فيه للنخبة القديمة إزاء الأخطار المبالغ في تقديرها لأوضاعهم ذات الامتيازات المفرطة»، و«قصدت الطبقات الحاكمة والمسيطرة القديمة ... حل الأزمة في أوروبا لما فيه صالحها، وإن اقتضى هذا التحريض على الحرب.» وجد معظم المؤرخين هذه الفرضية مثيرة للاهتمام أكثر من كونها مقنعة. لكن حتى إن كان إنقاذ الأرستقراطية من قوى العالم الجديد هو الهدف الذي يفترض بالحرب تحقيقه، فإن سوء التقدير كان هائلا؛ فكل ما حدث أن تعززت جميع التوجهات التي ظلت تقوض النفوذ والسلطة الأرستقراطية لمدة نصف قرن تقريبا. وقد ثبت أن حرب الخنادق هي محرقة للضباط الشباب؛ إذ إنها قضت على جيل من ورثة الأسماء الشهيرة في جميع الدول المشاركة. عجلت الحرب بالثورة الروسية، وهي حركة واعية مناهضة للأرستقراطية نتج عنها مصادرة لضيعات النبلاء وإعادة توزيعها وتعذيب ملاكها، وأدى هذا إلى انتشار المهاجرين في كافة أنحاء أوروبا الغربية وأبعد منها. ونتيجة للحرب اختفت النظم الملكية في جميع أنحاء ألمانيا ووسط أوروبا، وألغت الجمهوريات غير المستقرة التي تلتها ألقاب النبلاء والأوقاف التي حافظت على بقاء ضيعات الأرستقراطيين وحدة واحدة؛ فالدول القومية الجديدة التي نشأت من تفكك إمبراطورية هابسبورج كانت تنظر إلى الأسر الكبرى الحاكمة ذات النفوذ التي هيمنت عليها لفترة طويلة باعتبارها آثارا لحكم أجنبي؛ ومن ثم أزاحتها عن سدة الحكم. ولم تخرج الأرستقراطية إلى النور من جديد وهي تتمتع بالقوة إلا في بولندا والمجر؛ حيث تحولت الدول ذات السيادة المعاد تكوينها مرة أخرى إلى النخبة المحلية التي حافظت على تقليد «حريتها الذهبية» السابقة. لكن حتى في هذه الدول ثبت أن هذا الإحياء سريع الزوال؛ فقد ثبت أن شجاعة الشلاختا التي استعادت نشاطها غير مجدية أمام غزو الألمان والروس في الحرب العالمية الثانية؛ ونتيجة لهذا خضعت كل من بولندا والمجر لنظم الحكم الشيوعية، التي عزمت على محو أي آثار باقية للحكم الأرستقراطي، كما حدث في روسيا.
كان تفكك المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا صادما بالقدر نفسه تقريبا؛ ففي أيرلندا، حيث كانت سطوة ملاك الأراضي البروتستانت تتدهور سريعا قبل الحرب، صاحبت تأسيس الدولة الحرة هجمات واسعة النطاق على المنازل الريفية، وتبعتها المصادرة النهائية لأملاك معظم ملاك الأراضي؛ وهو تدمير يكاد يكون كاملا كالذي حدث في روسيا. وعلى الشاطئ الآخر في إنجلترا، نظرا لأن ضرائب التركات ارتفعت في أثناء الحرب وبعدها إلى مستويات عقابية، ترك ملاك الأراضي عددا من الأفدنة بين عامي 1918 و1922م يفوق عدد الأفدنة التي نقلت ملكيتها في فترة مماثلة منذ ثلاثينيات القرن السادس عشر. وقد زادت النظرة إلى المنازل الكبرى على أنها مقتنيات نفيسة مكلفة لا طائل منها، وبيع كثير منها أو دمر أو وهب منذ أواخر ثلاثينيات القرن العشرين إلى الجمعية الوطنية للحفاظ على التراث نظير استمرار استئجار الأسرة لها. وعلى الرغم من أن الأسر الأكثر ثراء - التي كان معظمها من أسر الدوقات - ظلت باقية رغم تقلص حجم الضيعات بين الأثرياء في الدولة، فإن طبقة الأعيان القدامى تضاءل حجمها، وأصبحت طبقة الأرستقراطيين بأكملها محبطة إلى حد كبير. انتقل عدد قليل من الذين باعوا ممتلكاتهم إلى المستعمرات الأفريقية؛ حيث كان لا يزال باستطاعتهم الحياة بأسعار زهيدة نسبيا، وصيد الحيوانات البرية بحرية، واقتناء حاشيات وفيرة من الخدم المطيعين. لكن حتى عمليات الانسحاب المغرية هذه من العالم الحديث لم تدم أكثر من بضعة عقود؛ إذ انهارت أيضا الإمبراطورية التي أمدت الأبناء الأصغر سنا بكثير من الفرص لأكثر من قرنين من الزمن.
شكل 5-5: النبلاء والنازيون: أدولف هتلر مع يونيتي ميتفورد، ابنة اللورد ريديسدال.
أحد ردود الفعل التلقائية الأخرى للأرستقراطيين المحاصرين بين الحروب تقبلهم للفاشية؛ ففي النهائية ثبت أن الشيوعية والأشكال الأخرى من الاشتراكية - نادرا ما كانوا يفرقون بين الاثنتين - أكثر أعدائهم شراسة، في حين كانت الأشكال المتنوعة للفاشية تعد بقوة بعودة النظام. في الواقع أنقذت الأرستقراطية في إسبانيا من التهديدات الديمقراطية بفضل انتصار فرانكو في الحرب الأهلية؛ لذا بدت عودة النظام الملكي في حد ذاته منطقية تماما بعد وفاته. وفي البلاد الناطقة بالألمانية أيضا رحب كثير من ضباط الجيش النبلاء باستعادة هتلر لتقدير الذات العسكرية. إلا أن سياساته المدمرة في وقت الحرب دفعت في النهاية مجموعة صغيرة من الضباط الذين شعروا بالخزي إلى محاولة اغتياله. وقد كانت هذه - حتى الآن - آخر مؤامرة أرستقراطية في تاريخ أوروبا . لكن في الوقت الذي فشلت فيه، بدت هزيمة هتلر على أي حال حتمية إلى حد كبير. شنت جبهة أخرى هجوما حاسما ضد الاحتلال الألماني لأوروبا من بريطانيا العظمى؛ حيث قاد ونستون تشرشل - الذي كان حفيدا لدوق - ومجموعة معظمها من الجنرالات الأرستقراطيين الأيرلنديين (حصلوا جميعا على مكافأة في صورة ألقاب ومقاعد في مجلس اللوردات) كفاحا يتسم بالعزم ولا يخلو أحيانا من اليأس من أجل بقاء الوطن. إلا أن النصر في هذه الحرب قد صار فعليا من نصيب قوى تستنكر الأرستقراطية وكافة أساليبها: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكانت مكافأة تشرشل على إنقاذه لبلده تصويت رفاقه الديمقراطيين على إقالته من منصبه. وبعد تسع سنوات، قبل تركه لمنصبه للمرة الأخيرة، عرضت عليه الملكة إليزابيث الثانية دوقية. كانت لفتة لا معنى لها - رغم ما بها من إطراء - حيث إنها كانت قد تأكدت مسبقا من أنه سيرفض. والمفارقة أن أتلي - أحد أفراد العامة والذي حل محله كرئيس للوزراء في عام 1945م - قد انتهى الحال بحصوله على لقب إيرل. (6) الآثار الباقية والذكريات والأحكام
من ثم أكملت الحرب العالمية الثانية تدمير الأرستقراطية بوصفها كيانا مترابطا له مفهوم اجتماعي أو سياسي. وفي أعقاب الحرب، حددت عمليات الاستحواذ الشيوعية مصير الأرستقراطية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، كما أن نظم الحكم الديمقراطية الاشتراكية، التي حصلت على السلطة على فترات منتظمة في الغرب، بدت بالكاد أكثر تعاطفا. وقد فقد آخر معقل مؤسساتي للسلطة الأرستقراطية - مجلس اللوردات البريطاني - معظم سلطته التشريعية المتبقية فيما يتعلق بعرقلة القوانين، وذلك على يد حكومة حزب العمال في عام 1948م، وفقد معظم أعضائه بالوراثة بعد نصف قرن، ويبدو أنه في سبيله إلى فقدان آخر المنتمين إليه في الوقت الذي يطبع فيه هذا الكتاب.
شكل 5-6: تتويج الملكة إليزابيث الثانية عام 1953م: النبلاء المحاصرون يركضون للاحتماء.
ما زال ممكنا العثور على كثير من الأرستقراطيين حاليا؛ فأمراء ليشتنشتاين وموناكو، الذين كانوا في وقت ما تابعين لملوك كبار، يحكمون حاليا دولا صغيرة ذات سيادة. كما أن أغنى رجل في بريطانيا وأكبر مالك للأراضي كليهما دوقان . وفي كل مكان يحتفظ لقب أو حتى شعار نبالة بمكانة مميزة معينة، وما زالت الشركات تسعد بوجود «أحد اللوردات ضمن مجلس إدارتها». أيضا ما زال الأرستقراطيون يفضلون الزواج بعضهم من بعض، رغم أنه لم يعد باستطاعتهم مقاومة الزواج من وريثة ثرية من خارج الطبقة أكثر من أي وقت مضى. كما أنهم ما زالوا يفضلون إرسال أطفالهم إلى مجموعة محددة من المدارس الخاصة ذات المكانة المرموقة. ورغم أن معظمهم حاليا أصبحوا يكسبون عيشهم من شتى مجالات الحياة المعروفة، فإنهم ما زالوا يستمتعون في وقت فراغهم بممارسة أكثر الأنشطة تميزا، التي تشمل الصيد وسباقات الخيول والرياضات التي تمارس في الهواء الطلق، وحياة الريف بوجه عام. لكن مع توقف منح مكانة النبالة المتوارثة في كل مكان في الوقت الحالي، فإن مصير هذه الطبقات المنغلقة سيئول إلى تضاؤل حجمها ببطء حتى اختفائها بالكامل.
إلا أن الآثار المادية والمرئية لأجدادهم - سواء الشخصية أو الجماعية - يمكن العثور عليها في كل مكان في صورة نصب تذكارية ونقوش وأضرحة وأسماء شوارع وحانات ومتنزهات، وفوق كل هذا المنازل الريفية أو «المنازل الفخمة»؛ فرغم اختفاء المئات منها في القرن العشرين، لا يزال عدد كاف منها باقيا من أجل تذكير المواطنين في الدول الديمقراطية - التي استاء معظم ملاك هذه المنازل بمرارة من تأسيسها - بمن كانوا يعطون الأوامر لأجدادهم. أصبح الكثير منها حاليا مفتوحا أمام عامة الشعب مقابل تذاكر، واخترع من بقي من أصحابها وظيفة جديدة لأنفسهم وهي الوصاية على تراث ثقافي يفترض أنه شيد بعناية فائقة على أيدي أجيال من الأسلاف. في الواقع، كان كثير من هؤلاء الأسلاف لا يزيدون عن كونهم مجرد جامعين معتادين للمال، ولم يكترث عدد أكبر منهم - مؤخرا على الأغلب - بنوعية ما ورثوه ونظروا إليه على أنه عبء حقيقي. ومع هذا فإن الثراء الفني والثقافي الذي تحتويه هذه المنازل وتمثله ما زال - رغم مرور أكثر من قرن من الدمار الاقتصادي والسياسي - مبهرا ومهيبا في بعض الأحيان. إنها تسلط الضوء على الكيفية التي استطاع بها الأرستقراطيون على مدى قرون استغلال عمل الآخرين وتحقيق ربح منه في سبيل رفاهيتهم ومصلحتهم. ومع هذا يبدو أن الصور والمصنوعات والمعروضات الزخرفية لم تكن هي صاحبة أكبر تأثير على الزوار في العصر الحديث؛ فقد كانوا أكثر اهتماما بالمطابخ وغيرها من محتويات الدور السفلي المخصص للخدم؛ فهم يستطيعون التعرف بسهولة أكبر على هذا المكان، مدركين أن مأوى الخدم كان المكان المخصص لأسلافهم، الذين ولدوا ليخدموا كبرياء وغطرسة من يعيشون في الأعلى منهم.
على الرغم من سلوكيات التوقير الفطرية المتبقية والمتقطعة، قلما نجد أناسا في العصر الحديث يؤمنون بأي نوع من التميز الفطري. وهم يكرهون أي شيء يوحي بأن ثمة أشخاصا ما زالوا يدعون مثل هذا التميز. فلا وقت لديهم «لبقايا النظام الإقطاعي»، كما وصفت ابنة اللورد ريديسدال الصغرى والدها بعدم اكتراث في حضوره. في الواقع، نظرا لكون هذا اللورد من بارونات الجيل الثاني، فإنه كان مثل معظم الأرستقراطيين لا ينطبق عليه هذا الوصف. مع هذا فإن الأرستقراطيين يحبون التعتيم على آثارهم السحيقة، التي قامت عادة على العنف والجشع والاستغلال القاسي للأضعف منهم. كرس كاتب اليوميات جيمس ليز-ميلن - ابن أحد رجال الصناعة المتنكر في صورة أحد النبلاء ملاك الأراضي، لكنه تعلم (في جامعتي إيتون وأكسفورد وانضم للحرس) ليصبح نبيلا حقيقيا - حياته الطويلة لإنقاذ المنازل الريفية؛ فقد كان يقابل ملاك هذه المنازل يوميا تقريبا، وكان على معرفة وثيقة ببعض من أكبر الملاك؛ لذا فإن أحكامه جديرة بالاحترام. وقد كتب في عام 1996م - قبل عام من وفاته - قائلا: «لقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأرستقراطية كانت دوما هراء، وأنا أعترف أنني أيضا قد خدعت بها. مع هذا ما زلت أؤكد على أن المحترمين والمتعلمين منهم يحققون مستوى من السعادة والنجاح لا يمكن لأي طبقة أخرى في العالم أن تفوقه.»
المراجع
(1) الفصل الأول
The Republic,
iv.
Aristotle,
iii, 7; iv, 6; ii, 11; iv, 7; iv, 8.
Montesquieu,
De’Esprit des Lois (1748), ii, 4.
Charles Loyseau,
A Treatise of Orders and Plain Dignities (1610; ed. and tr. Howell A. Lloyd, 1994), 111.
Frederick A. Pottle (ed.),
Boswell on the Grand Tour: Germany and Switzerland, 1764 (1953), 116. (2) الفصل الثاني
M. L. Bush,
The English Aristocracy: A Comparative Synthesis (1984), 4.
Quotation of 1790 in William Doyle,
Aristocracy and Its Enemies in the Age of Revolution (2009), 241.
Marquis de Mirabeau,
L’Ami des Hommes (1762 edn.), i, 123.
The Complete Letters of Lady Mary Wortley Montagu,
ed. Robert Halsband, 3 vols (1965), i, 257.
Blaise de Monluc, cited in Lucien Bély (ed.),
Dictionnaire de l’Ancien Régime (1996), 641.
Montesquieu,
Esprit des Lois,
iii, 6-8; iv, 2. (3) الفصل الثالث
Duc de Lévis,
Maximes et Réflexions (1808), no. 73.
Ruskin, quoted in Richard Mullen and James Munson,
The Smell of the Continent: The British Discover Europe (2009).
Baldassare Castiglione,
The Book of the Courtier (Everyman edn., 1965), 68-9.
Cardinal Richelieu,
Maximes d’État ou Testament Politique (1974), 198.
Earl of Chesterfied,
Letters Written by the Earl of Chesterfield to His Son, Philip Stanhope (1774), 12 October 1748.
Napoleon, quoted in J. Christopher Herold,
The Mind of Napoleon (1955), 14.
Duchess (now dowager) of Bedford (then Marchioness of Tavistock) in the television series
Country House (2000). (4) الفصل الرابع
Constantia Maxwell (ed.),
Arthur Young, A Tour in Ireland (1925), 190-1.
Alexander Herzen,
Childhood, Youth, and Exile (1956), 73-4.
The consumption of great Parisian familes in Natacha Coquéry,
L’Hôtel aristocratique: Le marché de luxe á Paris au xviiie siècle (1998).
Marquis d’Argens,
Lettres Juives (1738), iv, 15-16.
Adam Smith,
An Enquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations (1776), ii, 3.
On public school education, Martin Wiener,
English Culture and the Decline of the Industrial Spirit, 1850-1980 (1981).
Montaigne, quoted in Stuart Carroll,
Noble Power during the French Wars of Religion: The Guise Affinity and the Catholic Cause in Normandy (1998), 255.
C. J. B. M. Mercier-Dupaty,
Lettres sur l’Italie (1788), letter xxiii.
Chesterfield,
Letters to His Son,
12 November 1750. (5) الفصل الخامس
Russian Rebels, 1600-1800 (1972), 237.
Niccolò Machiavelli,
The Discourses,
ed. Bernard Crick (1970), 245-6.
Sallust,
The Jugurthine War,
tr. S. A. Handford (1963), 118, 120.
Benjamin Franklin: Writings,
ed. J. A. Leo Lemay (1987), 1269.
Considerations on the Order of Cincinnatus, translated from the French of the Count de Mirabeau (1785), 78.
Edmund Burke,
Reflections on the Revolution in France (1790), 205.
Thomas Paine,
Rights of Man (1791-2; 1915 edn.), 90.
Giuseppe di Lampedusa,
The Leopard (English tr., 1960), 28.
Marquess of Salisbury, quoted in Dominic Lieven,
The Aristocracy in Europe, 1815-1914 (1992), 237.
Alexis de Tocqueville, quoted in David Cannadine,
The Decline and Fall of the British Aristocracy (1990), 698-9.
Arno J. Mayer,
The Persistence of the Old Regime: Europe to the Great War (1981), 304-5.
Jessica Mitford,
Hons and Rebels (1977), 57.
James Lees-Milne,
The Milk of
(2005), 203, 3 January 1996.
قراءات إضافية
معظم التاريخ الأوروبي الذي كتب قبل القرن العشرين هو تاريخ الأرستقراطيين. تمحور ذلك التاريخ حول السلطة وممارستها، وكان هذا الأمر حكرا دوما على الطبقة الأرستقراطية . فقط عندما تعرضت السلطة الأرستقراطية لتراجع تام اعتبر تاريخ أو أنشطة الجماعات الأخرى على القدر نفسه من الأهمية، وعندها - على نحو غريب - بدا أن التاريخ الاجتماعي الجديد يشتمل على دراسة كل شيء عدا النخب التقليدية. وهكذا بدأت الأبحاث التي تناولت طبقة النبلاء في وقت متأخر نسبيا. لكن منذ منتصف القرن الماضي، تناول كم هائل من دراسات الحالة كل جانب من سلوك النبلاء في عدد كبير من السياقات التاريخية والجغرافية، مستبعدة العديد من الأساطير التي تخدم مصالحها الذاتية التي قامت عليها الانطباعات والافتراضات المبكرة بشأن هذا السلوك. ولا يمكن لأية قائمة كتب مختصرة أن تشير إلى أكثر من مجرد مختارات صغيرة وعشوائية من هذه الأبحاث. كل المراجع المذكورة هنا باللغة الإنجليزية، على الرغم من نشر المواد المهمة بالعديد من اللغات الأخرى. وسيجد من يستطيعون قراءة هذه اللغات بطبيعة الحال الأشياء الأكثر أهمية في الفهارس والحواشي السفلية في الدراسات المتخصصة. (1) عام
T. B. Bottomore,
Elites and Society (1964). Lucid introduction to the study of elites in general, putting aristocracies into context.
Michael Bush,
Noble
(1983) and
Rich Noble, Poor Noble (1988). First two volumes of an unfinished trilogy,
The European Nobility,
a quite indispensable compendium of comparative information.
Jack Goody, Joan Thirsk, and E. P. Thompson (eds.),
Family and Inheritance: Rural Society in Western Europe, 1200-1800 (1976). Contains essays of first-rate importance.
Frederic Cople Jaher (ed.),
The Rich, the Well Born and the Powerful (1973). Wide chronological range of informative essays.
Robert Lacey,
Aristocrats (1983). Book of a popular television series on rich surviving families.
Michael Mann,
The Sources of Social Power (2 vols, 1986-93). Worldwide comparisons.
Barrington Moore, Jr,
Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern World (1966). More worldwide comparisons.
Jonathan Powis,
Aristocracy (1984). Brief, elegant, and thoughtful pioneering synthesis. (2) قديم
M. T. W. Arnheim,
Aristocracy in Greek Society (1977).
The Fall of the Roman Republic (1988). Modern treatment of episodes that have haunted all aristocratic history.
M. Gelzer,
The Roman Nobility (English tr., 1969). Classic analysis.
R. E. Mitchell,
(1991).
C. G. Starr,
The Aristocratic Temper of Greek Civilisation (1992).
Ronald Syme,
The Roman Revolution (1939). A classic, now somewhat superseded by Brunt (above). (3) القرون الوسطى
Antiquity to Feudalism (1974). Bravura Marxism.
Marc Bloch,
Feudal Society,
2 vols (English tr., 1961). Classic survey, now superseded in many respects.
Georges Duby,
The Three Orders: Feudal Society Imagined (English tr., 1980).
Maurice Keen,
Chivalry (1984).
Timothy Reuter (ed.),
The Medieval Nobility (1978). Wide-ranging translated essays.
M. G. A. Vale,
War and Chivalry: Warfare and Aristocratic Culture in England, France and Burgundy at the End of the Middle Ages (1981).
Chris Wickham,
The Inheritance of Rome: A History of Europe 400-1000 (2009). Up-to-date survey, strong on the murky origins of noble power. (4) ذروة
Lineages of the Absolutist State (1974). Another dazzling Marxist synthesis.
Ronald G. Asch,
Nobilities in Transition, 1550-1700: Courtiers and Rebels in Britain and Europe (1993).
Samuel Clark,
State and Status: The Rise of the State and Aristocratic Power in Western Europe (1995).
Jonathan Dewald,
The European Nobility, 1400-1800 (1996).
A. Goodwin (ed.),
The European Nobility in the Eighteenth Century (1953). Pioneering collection in its day. Not all the contributions yet superseded.
Jerzy Lukowski,
The European Nobility in the Eighteenth Century (2003). Excellent and up-to-date survey.
H. M. Scott (ed.),
The European Nobilities in the Seventeenth and Eighteenth Centuries,
2nd edn. (2007). Unrivalled compendium of authoritative essays, well balanced between Eastern and Western Europe.
Hillay Zmora,
Monarchy, Aristocracy and the State in Europe, 1300-1800 (2001). (5) خسوف
Jerome Blum,
The End of the Old Order in Rural Europe (1978). Wide-ranging, if conceptually debatable.
William Doyle,
Aristocracy and its Enemies in the Age of Revolution (2009). Chronicles early attacks on nobilities.
Dominic Lieven,
The Aristocracy in Europe, 1815-1914 (1992). Invaluable comparative survey.
Arno J. Mayer,
The Persistence of the Old Regime: Europe to the Great War (1981). Challenging and controversial.
D. Spring (ed.),
European Landed Elites in the Nineteenth Century (1997).
Karina Urbach,
European Aristocracies and the Radical Right, 1918-1939 (2007).
Ellis Wasson,
Aristocracy and the Modern World (2006). Extremely useful overview. (6) الدول (6-1) بريطانيا العظمى
J. V. Beckett,
The Aristocracy in England, 1660-1914 (1986). Judicious and well informed.
M. L. Bush,
The English Aristocracy: A Comparative Synthesis (1984). Argues convincingly against English exceptionalism.
David Cannadine,
The Decline and Fall of the British Aristocracy (1990). Huge and magnificent chronicle of aristocratic downfall.
John Cannon,
Aristocratic Century: The Peerage of Eighteenth Century England (1984).
John Habbakuk,
Marriage, Debt and the Estates System: English Landownership 1650-1950 (1994). Definitive analysis of property management.
K. B. Macfarlane,
The Nobility of Later Medieval England (1973). Demythologizes the Wars of the Roses.
G. E. Mingay, The Gentry:
The Rise and Fall of a Ruling Class (1976).
Lawrence Stone,
The Crisis of the Aristocracy, 1558-1641 (1965; abridged edn., 1967). Monumental if controversial backdrop to the Civil War.
Lawrence Stone and Jeanne C. Fawtier Stone,
An Open Elite? England 1540-1880 (1984). (6-2) أيرلندا
Toby Barnard,
A New Anatomy of Ireland: The Irish Protestants, 1649-1770 (2003).
J. C. Beckett, The
Anglo-Irish Tradition (1976).
A. P. W. Malcomson,
The
1740-1840,
2nd edn. (2006). (6-3) فرنسا
William H. Beik,
Absolutism and Society in Seventeenth Century France: State Power and
(1985). Challenges traditional interpretations of Louis XIV’s relations with nobles.
Guy Chaussinand-Nogaret,
The French Nobility in the Eighteenth Century: From Feudalism to Enlightenment (English tr., 1985). Another challenge to traditional interpretations. Remains controversial.
Jonathan Dewald,
Aristocratic Experience and the Origins of Modern Culture: France, 1570-1715 (1993).
William Doyle,
Venality: The Sale of Offices in Eighteenth Century France (1996). Much material on ennoblement by office.
Robert Forster,
The House of Saulx-Tavanes: Versailles and Burgundy,
1700-1830 (1971).
Robert R. Harding,
Anatomy of a Power Elite: The Provincial Governors of Early Modern France (1979).
David Higgs,
Nobles in Nineteenth Century France: The Practice of Inegalitarianism (1987).
Mark Motley,
Becoming a French Aristocrat: The Education of the Court Nobility, 1580-1715 (1990).
Ellery Schalk,
From Valor to
Century France (1986).
Jay M. Smith,
The Culture of Merit: Nobility, Royal Service, and the Culture of Absolute Monarchy, 1600-1789 (1996).
Jay M. Smith (ed.),
The French Nobility in the Eighteenth Century: Reassessments and New Approaches (2006). (6-4) ألمانيا
B. Arnold,
German Knighthood,
1050-1300 (1985).
Thomas M. Barker,
Army, Aristocracy and Monarchy: Essays on War, Society and Government in Austria, 1618-1780 (1982).
Robert M. Berdahl,
The
(1988).
Otto Brunner,
Land and Lordship: Structures of Governance in Medieval Austria (English tr., 1992).
F. L. Carsten,
A History of the Prussian Junkers (1989).
R. J. W. Evans,
The Making of the Habsburg Monarchy, 1550-1700 (1979).
William D. Godsey, Jr,
Nobles and Nation in Central Europe: Free Imperial Knights in the Age of Revolution, 1750-1850 (2004).
Gregory Pedlow,
The Survival of the Hessian Nobility, 1770-1870 (1989). Offers a wider view than the title promises.
Hans Rosenberg,
Bureaucracy, Aristocracy and Autocracy: The Prussian Experience 1660-1815 (1958).
R. Gates-Coon,
The Landed Estates of the Esterházy Princes (1994). (6-5) إيطاليا
Tommaso Astarita,
The Continuity of Feudal Power: The Carraciolo di Brienza in Spanish Naples (1992).
R. Burr Litchfield,
Emergence of a Bureaucracy: The Florentine Patricians, 1530-1790 (1986).
J. C. Davis,
The Decline of the Venetian Nobility as a Ruling Class (1962).
Gregory Hanlon,
The Twilight of a Military Tradition: Italian Aristocrats and European Conflicts, 1560-1800 (1997). (6-6) هولندا
H. K. F. Van Nierop,
The Nobility of Holland: From Knights to Regents, 1500-1650 (1993). (6-7) السويد
Michael Roberts,
Essays in Swedish History (1967). Contains an important essay on Aristocratic Constitutionalism.
Michael Roberts,
The Age of Liberty: Sweden 1719-1772 (1986). (6-8) بولندا وأوروبا الشرقية
J. K. Fedorowicz (ed.),
A Republic of Nobles: Studies in Polish History to 1864 (1982).
Jerzy Lukowski,
Liberty’s Folly: The Polish-Lithuanian Commonwealth in the Eighteenth Century (1991).
Orest Subtelny,
Domination of Eastern Europe: Native Nobilities and Foreign Absolutism, 1500-1715 (1986). Has aroused much disagreement. (6-9) روسيا
Ivo Banac and Paul Bushkovitch (eds.),
The Nobility in Russia and Eastern Europe (1983).
Jerome Blum,
Lord and Peasant in Russia from the Ninth to the Nineteenth Centuries (1961).
Robert O. Crummey,
Aristocrats and Servitors: The Boyar Elite in Russia, 1618-1689 (1983).
Catherine the Great and the Russian Nobility (1967).
T. Emmons,
The Russian Landed Gentry and the Peasant Emancipation of 1861 (1968).
Robert E. Jones,
The Emancipation of the Russian Nobility, 1762-1785 (1973).
Marc Raeff,
Origins of the Russian Intelligentsia: The Eighteenth Century Nobility (1966). (7) الموضوعات
Jeroen Duindam,
Vienna and Versailles: The Courts of Europe’s Dynastic Rivals, 1550-1780 (2003).
Mark Girouard,
The Victorian Country House (1971).
Mark Girouard,
Life in the English Country House (1978). A best-seller, but not always convincing.
Mark Girouard,
Life in the French Country House (2000).
Mark Girouard,
The Return to Camelot: Chivalry and the English Gentleman (1981).
V. G. Kiernan,
The Duel in European History: Honour and the Reign of Aristocracy (1988).
The Fall and Rise of the Stately Home (1997). Brilliant survey, full of sharp insights.
Hugh Trevor-Roper,
The Plunder of the Arts in the Seventeenth Century (1970).
Amanda Vickery,
The Gentleman’s Daughter: Womens’ Lives in Georgian England (1999). Challenges the view that elite women were marginalized.
Martin Wiener,
English Culture and the Decline of the Industrial Spirit, 1850-1980 (1981). A tract for Thatcher’s times that has perhaps not outlasted her. (8) الأصوات الأرستقراطية
Most of the Roman historians wrote with aristocratic prejudices, but Cicero’s
Letters to Atticus
give a clear sense of what was at stake for the ruling orders in the republic’s last century. All well-educated nobles in later centuries knew them. A vivid picture of chivalric values in action is the epic of
Tiran lo Blanc , devoured as late as the 18th century by Catherine the Great. Castiglione’s
The Courtier
is the most important, and still very readable, handbook of aristocratic conduct. An English equivalent is Sir Thomas Elyot’s
The Boke called the Governor . Noble life under Louis XIV is elegantly chronicled in Mme de Sévigné’s
Letters , while the world of his court is reported and commented upon in incomparable detail through the voluminous
Memoirs
of the Duke de Saint-Simon. Chesterfield’s
Letters to His Son
prescribe how to be a gentleman in the 18th century, while Montesquieu’s contemporaneous
Spirit of the Laws
reflects on the whole of aristocratic history in elaborating new rationales for noble behaviour. The memoirs of Princess Dashkov record the life of the Russian elite, at home and abroad, under Catherine, and the first volume of Alexander Herzen’s describes a noble upbringing in early 19th-century Russia. The literary skill of Chateaubriand makes the memoirs he sold for posthumous publication a memorable romantic description of changing noble fortunes over the revolutionary and Napoleonic upheavals. The sad dissolution of the Irish Ascendancy is movingly portrayed in David Thompson,
Woodbrook.
A trivial romp through what was left of noble ideals by the mid-20th century is Nancy Mitford (ed.),
Noblesse Oblige: An Enquiry into the Identifiable Characteristics of the English Aristocracy (1956). (9) الأرستقراطية في الأدب
Cervantes’s
Don Quixote
is perhaps the best-known petty nobleman in literature, ridiculed and admired in equal measure. On the eve of the French Revolution, the heartlessness of nobles was unblinkingly depicted by Goethe in
The Sorrows of Young Werther , Choderlos de Laclos in
Dangerous Liaisons , or Beaumarchais’s play
The Marriage of Figaro . Classic and timeless portrayals of the everyday values of gentlefolk are the novels of Jane Austen, particularly
and
Mansfield Park . The obsessional hunting of Anthony Trollope gave him much first-hand material for the pictures of the Victorian landed classes found throughout his vast output, but particularly in the Palliser novels. See also R. Gilmour,
The Idea of the Gentleman in the Victorian
Novel (1981). The boredom of Russian noble life in the same century is amply chronicled, whether in Turgenev’s
A Nest of Gentlefolk , Gogol’s
Dead Souls , or Goncharov’s
Oblomov . The equivalent for France are the elegiac novels of Marcel Proust. A somewhat fawning celebration of the exclusivism of English Catholic aristocrats in the 20th century was Evelyn Waugh’s
Brideshead Revisited , subsequently made into a sumptuous television series based on one of the greatest of country houses, Castle Howard. And one of the best-selling novels of that century was turned into a superb film by the aristocratic Marxist Luchino Visconti: Prince Giuseppe di Lampedusa’s
The Leopard
is a marvellous portrait of a traditional Sicilian grandee confronted by the social and political challenges of the 19th century.
مصادر الصور
(1-1) © Luisa Ricciarini/TopFoto. (1-2) © Collection of the Earl of Pembroke, Wilton House, Wiltshire/The Bridgeman Art Library. (1-3) Dover Publications. (1-4) © The British Library/HIP/TopFoto. (2-1) © John Hammond/National Trust Photo Library. (3-1) © National Portrait Gallery, London/akg-images. (3-2) © Leonsbox/iStockphoto. (3-3) © The Art Gallery Collection/Alamy. (5-1a) © Roger-Viollet/TopFoto. (5-1b) Courtesy of the Library of Congress. (5-2a) © The Art Gallery Collection/Alamy. (5-2b) © Bibliothèque Nationale,
(5-3) © The Granger Collection/TopFoto. (5-4) Reproduced by kind permission of His Grace the Duke of Marlborough, Blenheim Palace Image Library. Photo: Peter Smith. (5-5) © Süddeutsche Zeitung Photo/S.M. (5-6) © Hulton Archive/Getty Images.
अज्ञात पृष्ठ