لا يجادل أحد - ممن توافر له أبسط قدر من العلم بطبيعة الدراسة الفلسفية - في أن لهذه الدراسة موقعا فريدا بين بقية الدراسات، سواء منها الإنسانية والعلمية الخالصة؛ فعلى حين أن الفلسفة - كما هو معروف - أقدم من العلوم جميعا، فإنها هي المبحث الوحيد الذي ما زال حتى اليوم يتساءل عن ماهيته، وما زال موضوع تعريفها وتحديد مجالها يشغل قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين فيها حتى اليوم، بعد ألفي وخمسمائة عام على الأقل من التاريخ المتصل.
هذا الموقف الغريب الذي تنفرد به الفلسفة، والذي يجمع بين القدم السحيق من ناحية، والافتقار إلى التحدد في طبيعتها الكامنة ذاتها من ناحية أخرى، يوحي إلينا بضرورة النظر إلى الفلسفة بمعايير ومقاييس تختلف عن تلك التي ننظر بها إلى سائر العلوم وبقية موضوعات النشاط الذهني البشري، ويقنعنا بأن من السذاجة أن نطبق عليها آليا تلك المبادئ التي سبق أن طبقت بنجاح في ميادين العلوم المختلفة، وفي الفروع الأخرى للدراسات الإنسانية.
ومن أهم هذه المبادئ، مبدأ أدى تطبيقه في كل فروع البحث العلمي إلى إحرازها تقدما كبيرا، هو مبدأ التخصص الذي أخذت أهميته تتزايد كلما اتسع نطاق المعرفة التي تحصلها البشرية وتتراكم لديها جيلا بعد جيل، ولقد كان من الطبيعي أن يطبق هذا المبدأ على ميدان الفلسفة، منذ أصبحنا نجد في جامعات العالم طلابا يتخصصون في الكيمياء، وآخرين في التاريخ، وغيرهم في «الفلسفة»، فهل يحق لنا أن ننظر إلى التخصص في هذه الفروع جميعا نظرة واحدة؟ وهل يكون مما يفيد تقدم المعرفة البشرية أن يتخصص الطالب في الفلسفة مثلما يتخصص في الكيمياء أو التاريخ؟ بل هل يكون لكلمة «التخصص» ذاتها معنى واحد في هذه الحالات جميعا؟
من الحقائق المعروفة أن الاشتغال بالفلسفة ظل وقتا طويلا لا يمثل «تخصصا» بالمعنى المعروف؛ ففي الوقت الذي كانت الفلسفة فيه تضم في ذاتها كل العلوم الأخرى أو عددا كبيرا منها، لم يكن المشتغل بالفلسفة متخصصا بأي معنى من المعاني، وإنما كان ساعيا وراء المعرفة على النحو الذي كانت فيه المعرفة ميسرة للناس في ذلك الحين؛ فهو - قبل كل شيء - شخص يريد أن يعلم وأن يعرف، ومن هنا كان اهتمامه بذلك المبحث الذي كانت تندرج فيه أهم حقائق العلم والمعرفة حينئذ، غير أن الموقف الراهن مختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهناك عشرات بل مئات من العلوم وفروعها وأجزائها، ولم تعد الفلسفة تمثل إلا واحدا من ميادين أخرى متعددة، تتزايد تشعبا وتفرعا على الدوام، فماذا يكون مركز الباحث في الفلسفة والمتخصص فيها في مثل هذا الموقف؟
فلنتأمل المسألة في صورتها العينية، ولنتتبع دراسة هذا المتخصص في الفلسفة حتى نستطيع إصدار حكم صحيح على قيمة تخصصه، إنه في كل الأحوال تقريبا شاب نال في التعليم الثانوي - وما قبله من مراحل التعليم - نصيبا ضئيلا لا يعدو أن يكون مدخلا تمهيديا إلى بعض فروع العلم؛ فحصيلته العلمية الحقيقية ضئيلة إلى أبعد حد، وهو ينتظر إكمال هذه الحصيلة بدراسة فرع من فروع المعرفة البشرية بحيث يمارس من دراسته هذه تجربة العلم والمعرفة كما تتبدى في هذا الفرع، وأستطيع أن أقول إن كل متخصص - أيا كان ميدانه - يحقق هذا الهدف، أما في حالة المتخصص في الفلسفة فالمسألة موضوع شك.
فمن هذه الحصيلة الضئيلة التي تجمعت لدى الطالب قبل سنوات تعليمه الجامعي، ينتقل فجأة إلى البحث في أخطر مشاكل العالم وأعم مسائل الكون، ويجد نفسه - دون أية مقدمات - يناقش مشكلات السلوك الإنساني في أعم صورها، ومشكلات غاية العالم وهدف الإنسان من الحياة، ومعايير الأخلاق، كل ذلك - وغيره كثير - مما يدخل ضمن نطاق «التخصص» في الفلسفة.
وهنا يظهر لنا بوضوح الفارق بين معنى التخصص في الفلسفة وبين معناه في سائر الميادين؛ ففي الفلسفة يناقش المتخصص موضوعات تفترض علما سابقا غزيرا، ولا أقول إنها تفترض علما في فرع معين أو في ميدان خاص، وإنما هي تفترض نضوجا عقليا عاما وتمرسا عميقا بتجربة العلم والحياة، وبدون هذا النضوج والتمرس، يغدو كل حكم من الأحكام العامة التي يصدرها هؤلاء «المتخصصون» سطحيا فجا، ولا يكتسب له موقعا صحيحا في ذهن صاحبه، وإنما يردده هذا دون فهم أو تعمق أو إدراك لمغزاه الحقيقي.
ذلك لأن الفلسفة ما زالت - كما قال الأقدمون - حبا للحكمة، والحكمة لا تأتي في فراغ، ولا تبنى في الهواء، وإنما ينبغي أن ترتكز على دعائم متينة، ولا يتعين أن تكون هذه الدعائم «علما» بالمعنى الخاص لهذه الكلمة - أعني علما وضعيا دقيقا - وإنما يكفي أن تكون تجربة عميقة في ميدان من ميادين النشاط الذهني للإنسان؛ ففي وسع المرء أن يناقش أعم مشكلات الكون، وتكون مناقشته هذه مجدية لنفسه وللآخرين، إذا كان - على سبيل المثال - عالما متخصصا أو مشتغلا بشأن من شئون الفن أو الأدب أو باحثا في التاريخ، ولكن كيف ننتظر منه أن يتناول - على نحو له جدواه - هذه المسائل الفلسفية الخطيرة وهو لم يزل مفتقرا إلى الخبرة في كل ميادين العلم والأدب والحياة؟
إن الفلسفة أو الحكمة ليست في رأيي جزءا من «تعليم» المرء، وإنما هي جزء من «ثقافته »، والفرق هائل بين التعليم والثقافة؛ فالتعليم عتاد أساسي لا غنى عنه للمرء كيما يواجه مسئولياته بوصفه فردا يريد أن يكون نافعا في المجتمع، أما الثقافة فهي تكامل أطراف المعلومات التي جمعها المرء في تعليمه، وتكوينها كلا متناسقا يرتبط من جهة بشخصية صاحبه ومن جهة أخرى بالمجتمع والعصر الذي يعيش فيه، أي إن الثقافة - مع كونها تتويجا للتعليم - ليست جزءا أساسيا منه، والخطأ الذي نرتكبه حين ننظر إلى الفلسفة على أنها تخصص يتفرغ له المرء في وقت مبكر، هو أننا نعدها مرحلة من مراحل تعليم الفرد، مع أنها في الواقع ليست على الإطلاق جزءا من هذا التعليم بالمعنى الذي تكون به الكيمياء أو اللغات كذلك، وإنما هي تتويج للتعليم أو ثمرة له، وهكذا أستطيع أن أقول - دون أدنى حرج - إن المرء لا يكمل تعليمه بدراسة الفلسفة؛ لأن هذه الدراسة ليست امتدادا لأية مرحلة سابقة من المراحل التي مر بها تعليمه، وإنما هي تثقيف - أي تنظيم لمعرفة أو خبرة - ينبغي أن يكون المرء قد اكتسبها من قبل.
فأين إذن ينبغي أن يكون موقع الدراسة الفلسفية من بقية الدراسات؟ في رأيي أن الموقع الصحيح لهذه الدراسة إنما يكون بعد اكتمال المراحل المختلفة للتعليم؛ فأكمل صورة للدراسة الفلسفية هي تلك التي تأتي بعد اكتساب تجربة المعرفة في أي ميدان من ميادين العلوم الإنسانية أو الطبيعية، أي إن الدراسة الصحيحة للفلسفة ينبغي ألا تبدأ إلا بوصفها «دراسة عليا» بالمعنى الذي نستخدمه اليوم للدلالة على كل دراسة تعقب المرحلة الجامعية المألوفة.
अज्ञात पृष्ठ