ولكن هذه الفلسفة اليسارية - من جهة أخرى - تبدو منتهية إلى طريق مسدود، فلنفرض أننا وصلنا بالفعل إلى منهج مستقر تستعين به الفلسفة على فهم مشكلات الإنسان فهما حقيقيا، وتقضي به على تعدد وجهات النظر الذي ظل ملازما لها منذ البداية، فما الذي يمكن أن يحدث في مجال الفلسفة بعد ذلك؟ سيتوقف سير الفلسفة، ولن يكون أمامها بعد ذلك شيء تفعله سوى أن نطبق منهجها على مجالات أخرى غير مجالها الأصلي، فيؤدي بها ذلك إلى أن تذوب وتنصهر في هذه المجالات، وأقصى ما يمكنها أن تفعله - لكي تحتفظ بشيء من دماء الحياة - هو أن تدرس تاريخها السابق، وتتحول إلى «تاريخ لتطور الفكر البشري»، ولكن مثل هذه الدراسة التاريخية لن تكون بطبيعة الحال «فلسفة» قائمة بذاتها.
هذا إذن هو المصير الذي يبدو أنه ينتظر الفلسفة في عصرنا هذا؛ فهي إذا شاءت أن تظل مزدهرة منتعشة بين المذاهب اليمينية، كان عليها أن تدفع لذلك ثمنا غاليا، هو أن تظل على هامش الحياة الفعلية للناس، أي تظل نشاطا تجريديا صرفا، يعجز عن الفعل ولا يقبل التحقيق أو التطبيق، وهي إذا اختارت أن تعمل شيئا، أي أن تحقق ذاتها وتخوض مشكلات الإنسان الفعلية، وتسهم بدور حقيقي في حياة الناس - كما يريد أصحاب الاتجاه اليساري - فإنها ستقضي على كيانها المستقل، وستندمج وتذوب في عشرات من الدراسات الأخرى، ولا تعود مبحثا قائما بذاته، وبعبارة أخرى فإن على الفلسفة أن تختار بين أحد أمرين: إما أن تحتفظ بكيانها الخاص، وتظل عاجزة عن التأثير في الواقع أو القيام بدور في تغييره، وإما أن تحقق ذاتها في الواقع، وتقضي على ذاتها بالاندماج في الكل الأشمل الذي يمثل هذا الواقع.
فهل كتب على الفلسفة إذن ألا تظل حية إلا بوصفها مشروعا فكريا لا يتحقق، على حين أنها لو انتقلت إلى مجال الفعل لما ظلت قائمة بوصفها «فلسفة»؟ وهل يتعين عليها أن تعيش بوصفها «حالة اغتراب»، بينما لو تكاملت مع بقية عناصر الإنسان والمجتمع، وقضت على هذا الاغتراب لقضت في الوقت نفسه على ذاتها؟ أليس لها مفر من الاختيار بين حياة عقيمة وبين موت مثمر؟
هكذا - بالفعل - يبدو وضع الفلسفة الآن بين اليمين واليسار، والصورة كما نرى قاتمة، ولكنها في اعتقادي هي الأقرب إلى الحقيقة، ولكم وددت لو استطعت أن أختم هذا المقال بكلمة تفاؤل، فأقول إن الفلسفة سوف تتمكن يوما ما من الجمع بين فاعلية اليسار وإيجابياته وبين عمق اليمين وتنوعه، ولكني لا أملك إلا أن أقول إن هذا الجمع لو كان سيتحقق في وقت ما، فإن بوادره لم تظهر بعد حتى اللحظة الراهنة من تاريخ العالم على الأقل.
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
إذا كانت «الشخصية» هي مجموع الصفات التي يعرف بها الفرد ويتميز بها عن غيره من الأفراد، فإن «الفلسفة» هي مجموع الخصائص التي تتميز بها الأمة وتحدد معالمها الخاصة وسط الأمم الأخرى، وبهذا المعنى يمكننا أن نصف الفلسفة بأنها «شخصية الأمة» وركن أساسي من أركان قوميتها.
ففي كل فلسفة إذن عنصر قومي لا يمكن إنكاره، ولكن فيها أيضا عنصرا عالميا، يخاطب الإنسان بما هو إنسان، لا من حيث هو فرد في هذه الأمة أو تلك، ومن هنا كان من الطبيعي أن يثور الجدال حول العلاقة بين هذين العنصرين، وأن تشتد الخلافات بين أنصار القومية وأنصار العالمية في مجال الفلسفة، مثلما اشتدت في مجالات أخرى متعددة، ولسنا نود في هذا المقال أن نضيف وقودا جديدا إلى هذه الخلافات المستعرة، وإنما نود أن نسهم في إلقاء بعض الضوء على هذه المشكلة، عن طريق تحديد بعض المفاهيم الرئيسية المستخدمة فيها، وتحليل المعاني الحقيقية لمختلف الآراء التي تساق في هذا الشأن، وإيضاح معالم بعض التجارب التي سبقتنا في هذا الاتجاه من أجل الاسترشاد بها في توجيه تجربتنا الخاصة.
وفي رأيي أن أفضل بداية لبحث موضوع كهذا هي البداية التاريخية.
فمن الممكن أن تتحدد معالم المشكلة بمزيد من الوضوح إذا استعرضنا الطريقة التي نشأت بها بعض الفلسفات القومية، والعلاقات التي كانت تجمع بينها وبين الفلسفات القومية الأخرى التي اتصلت بها على نحو ما، وسوف نتناول من النماذج الرئيسية ما يعيننا على استخلاص أهم النتائج التي نود الوصول إليها في هذا المقال، دون أن نحاول - بطبيعة الحال - تقديم عرض شامل لمختلف الفلسفات القومية. (1)
لا شك أن أول نموذج يفرض نفسه على ذهن الباحث في موضوع كهذا هو الفلسفة اليونانية؛ فعلى أرض اليونان ظهرت - منذ خمسة وعشرين قرنا - فلسفة ناضجة غنية لها معالمها القومية الواضحة، وهذا الطابع القومي للفلسفة اليونانية هو ما أجمع عليه مؤرخو هذه الفلسفة، سواء منهم من يؤمن بالحتمية ومن لا يؤمن بها، ومن يجعل هذه الحتمية تاريخية أو جغرافية أو اقتصادية؛ فالكل - على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية - يتفقون على شيء واحد، هو أن الفلسفة اليونانية نتاج يوناني صميم، وأنها تعبير عن «عبقرية» الأمة اليونانية القديمة، وما كان لها أن تظهر إلا في هذه الأمة على وجه التحديد.
अज्ञात पृष्ठ