وآخر مرحلة نشير إليها هي تلك التي كان يعيش فيها نيتشه ذاته، أعني أواسط القرن التاسع عشر، إن هذه المرحلة - بدورها - هي في رأيه مرحلة أخلاق للعبيد تسودها قيم الشفقة والعطف على الغير وحب الجار، ولا يجد الفرد المنعزل ذو الروح المستقلة فيها مكانا لنفسه. ولكن أكان القرن التاسع عشر كذلك بالفعل؟ ألم تكن العلاقات الاجتماعية في هذه الفترة المبكرة من فترات العهد الصناعي أشبه بشريعة الغاب في ابتعادها التام عن كل إنسانية وتعاطف بين البشر؟ صحيح أن هناك أخلاقا رسمية - أو ظاهرية - مشابهة لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، ولكن ألم تكن الممارسة الفعلية أقرب كثيرا إلى أخلاق السادة كما حددها هو ذاته؟
هناك إذن تفاوت أساسي بين الأخلاق كما ينادي بها، أو كما تظهر على السطح، وبين الأخلاق كما تمارس بالفعل. ومن الواضح أن نيتشه حينما تحدث عن الأخلاق على أساس أنها «من صنع الضعفاء» كان المقصود في هذه الحالة هو الأخلاق كما تظهر على السطح، أما حين وصف ماركس الأخلاق بأنها من صنع الأقوياء، فإن حديثه كان منصبا على الأخلاق كما تمارس فعلا ، أعني الأخلاق التي يوجهها الأقوياء إلى الفقراء لتخديرهم، ولكي يظلوا هم أنفسهم أحرارا في ممارسة سيطرتهم كما يشاءون، وعلى أساس هذا التقابل نستطيع أن نفهم بسهولة لماذا كانت القيم الأخلاقية الواحدة - في العصر الواحد - تعد تارة قيما يفرضها الأقوياء على الضعفاء (وجهة النظر الفعلية)، وتارة أخرى قيما يفرضها الضعفاء على الأقوياء (وجهة النظر الرسمية).
هذا التضاد بين الأخلاق «الرسمية» والأخلاق «الفعلية» - في داخل المجتمع الواحد - يعبر عنه عادة بأنه تضاد بين «الواقع» و«المثل الأعلى»، وما دام هذا التضاد قائما فلا يمكن القول إن الإنسان أصبح أخلاقيا بحق. إن هذا التضاد تعبير عن نفاق أساسي ما زال يشوب نظم الإنسان الأخلاقية، وقد اعتدنا أن نعده ضرورة محتومة، ولكنه ليس في حقيقة الأمر ضروريا على الإطلاق، فلماذا لم يكن الواقع مثلا أعلى؟ ولماذا لم يكن المثل الأعلى واقعا؟ أليس معنى بقاء هذا التضاد أن هناك تداخلا بين الأخلاقية واللاأخلاقية، بحيث تكون دراسة تاريخ الأخلاق هي في الوقت ذاته دراسة لتاريخ اللاأخلاقية في نفس الإنسان؟
إن الإنسان لا يصبح أخلاقيا بحق إلا بقدر ما تخف حدة التعارض بين الواقع والمثل الأعلى. ولن تبلغ الأخلاق أعلى مراحلها إلا باندماجها في السلوك العملي، وتلاشيها في مجال العلاقات الإنسانية الفعلية. وبعبارة أخرى فإن الأخلاق تبلغ أعلى درجات اكتمالها باندماجها في كل أوسع منها، هو مجال السلوك العملي في كل صورة، إنها تكتسب - بهذا الفناء في مجال العمل - أقصى ما تطمح إليه من حياة.
ولكن هذه مرحلة لا تقبل التفسير من خلال المقدمات النظرية للمفكرين اللذين اتخذنا من آرائهما محورا لهذا المقال؛ فلو تحققت الأخلاقية المثلى كما كان يدعو إليها نيتشه، ووصل الإنسان إلى مرحلة «ما فوق الإنسان»، أو إذا بلغ المجتمع تلك المرحلة التي تطلع إليها ماركس، وأصبح مجتمعا لا طبقيا بحق؛ فعندئذ لن يكون في وسعنا أن نفسر هذه الحالة المثلى من خلال مفاهيم كل من هذين المفكرين، ولنختم مقالنا هذا بسؤال كما بدأناه بسؤال:
إذا كان ما يميز «الإنسان الأرقى» عند نيتشه هو السمو والعلو والامتياز، فكيف سيشعر بترفعه هذا حين يأتي عهده، ويختفي من يمارس عليهم هذا الترفع؟
وإذا كانت الطبقية الاجتماعية - عند ماركس - هي مصدر كل قيمة أخلاقية، فعلى أي شيء سترتكز الأخلاق حين يصبح المجتمع لا طبقيا؟
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
كنت على الدوام أجد في تفكير كارل ياسبرز شيئا يستفزني ويثير في «غريزة القتال»، وربما لم يكن في وسعي أن أصف هذا الشيء على وجه التحديد، ولكني أستطيع أن أعبر عنه - على نحو لا يخلو من الغموض - بأنه ذلك التناقض بين نزعة إنسانية يدعيها في كتاباته ويحرص على أن يؤكد إيمانه بها، ونزعة غير إنسانية تؤدي إليها هذه الكتابات إذا ما نظر إليها المرء بعين النقد والتحليل، ولم يكتف بأخذ أقواله على علاتها، أو قل إنه التناقض بين كلمات ظاهرة تفيض اعتزازا بالعقل، ومعان باطنة تهدم ما يستند إليه العقل من ركائز عميقة.
ولقد كان من الطبيعي أن يظل حكمي هذا على ياسبرز غامضا؛ لأن الأساس الوحيد الذي كان يرتكز عليه هو تلك الكتابات التي تنتمي إلى مرحلته الفلسفية الرئيسية، وهي المرحلة التي توقفت عند أوائل الثلاثينيات، وتتميز هذه المرحلة بأن كتاباته فيها كانت نظرية في الغالب، تنتمي إلى مجال علم النفس أو الفلسفة. ولكن ظهور وانتشار مؤلفات المرحلة الثانية من حياته الفكرية - وهي المرحلة التي بدأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي يعالج جزء غير قليل منها موضوعات سياسية أو حضارية - ساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الاتجاهات الحقيقية لتفكير ياسبرز ولطريقته في النظر إلى المشكلات التي تهدد عالمنا المعاصر. وعلى الرغم من أن مؤلفات هذه المرحلة الثانية ليست أهم ما كتب، فإنها قد كشفت عما كان مستورا، وأظهرت بصورة صريحة ما لم يكن يتوصل إليه المرء من قبل إلا بصورة ضمنية. •••
अज्ञात पृष्ठ