إن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر يعني - في رأيي - شيئا أساسيا واحدا، هو أن يقوم العالم ببحثه العلمي بذهن متفتح لا تتحكم فيه أية فكرة سابقة، ولا يستهدف إثبات أي مبدأ بعينه مقدما، بل يدع الواقع نفسه - كما يتكشف له تدريجيا خلال عمله العلمي - يحدد الصيغة الفكرية التي تنطبق عليه، وقد تكون هذه الصيغة ديالكتيكية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تعمم، أو ينظر إليها على أنها هي الصيغة التي سيؤدي إليها كل كشف علمي مقبل، أو هي التي تصلح منهجا يساعد العلم على كشف أسرار الكون بنجاح، إلا إذا كنا على استعداد للتنازل عن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر.
فمن الواجب - في رأينا - أن يترك العالم احتمالات المستقبل مفتوحة على الدوام، حتى لو كان البحث العلمي قد أيد صيغة معينة طوال المراحل السابقة لتطوره، وعلى العالم دائما أن يسأل نفسه: لنفرض أن موقفا معينا قد ظهر في المستقبل يتعارض مع الصيغة السائدة حتى اليوم، فهل أعيد تفسير الوقائع من أجل دعم هذه الصيغة، أم أتنازل عن الصيغة احتراما للواقع؟ فإن كان هذا العالم ممن يؤمنون بأن الواقع هو الأصل والأساس، فلا جدال في أنه سيكون على استعداد لطرح أية صيغة جانبا إذا اقتضى الواقع ذلك، ولنتأمل مثالا أقل تجريدا كحالة عالم اتضح له أثناء بحثه لتطور الصخور مثلا أن الظاهرة التي يبحثها لم تخضع لقانون أساسي في الديالكتيك هو قانون التناقض، أي إن تكوين الصخر مثلا لم يعقبه تحلل وتفكك له، فهل يعيد تفسير الظاهرة لكي تتمشى مع القانون الديكالكتيكي أم يمضي في أبحاثه غير ملق بالا إلى مبادئ الديالكتيك؟ من الجلي أن الروح العلمية الصحيحة تقضي عليه بأن يترك مجال البحث مفتوحا لتلقائية الطبيعة، ولما يمكن أن تأتي به من عناصر جديدة غير متوقعة، بدلا من أن يحدد طريقه مقدما بصيغة معينة، ومن المؤكد أن كل عالم أصيل يؤمن بفكرة التفتح الذهني هذه ويطبقها عمليا في أبحاثه، والدليل على ذلك عدم وجود اختلافات أساسية بين المبادئ التي يسير عليها العلماء، على الرغم من اختلاف المعسكرات السياسية التي ينتمون إليها.
على أن مثل هذه الخلافات كانت تحدث في وقت من الأوقات، وكان حدوثها عندئذ مظهرا من مظاهر عدوان العقل الجامد على الواقع الحي؛ فقد كان عالم الأحياء السوفييتي «ليسنكو» في أيام ستالين يشترط في أبحاث العلماء مقدما أن تكون مؤيدة للمادية الديالكتيكية، ويندد بكل بحث يبدو مخالفا لها، وفي مقابل ذلك كان «مورجان» في العالم الغربي يسعى مقدما إلى إثبات وجود مقاصد لاهوتية تتحكم في تطور الحياة، ويهدف إلى إثبات إمكان تدخل قوى فوق الطبيعة في مجرى الحوادث الطبيعية، والموقفان معا على خطأ؛ لأن الروح العلمية تحتم استقلال العلم عن كل فلسفة تفرض عليه مقدما.
وإذن فالديالكتيك - بوصفه منهجا يستعين به الباحث العلمي - هو في واقع الأمر عائق فكري يقف في وجه تلقائية الواقع، وحتى لو كانت قوانينه صحيحة، فإنها تبلغ من العمومية حدا لا تعود معه مفيدة في شيء، إن قوانين الديالكتيك تمثل منطقا جديدا أوسع وأرحب وأكثر مرونة من منطق أرسطو، ولكن هل تمت كشوف العلم الكلاسيكي بفضل منطق أرسطو، أو هل كان لهذا المنطق أي فضل في أي كشف تم في العهد الذي كان سائدا فيه؟ إذا أجبنا على هذا السؤال بالنفي، فمن الواجب أيضا أن ننفي قيمة أية صيغة ديالكتيكية في توجيه دفة العلم الطبيعي في أي مجال؛ فالمنطق بكل صوره عاجز عن أن يدفع العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وليست الصيغة المرنة الموسعة للمنطق بأسعد حظا - في هذا المجال - من أية صيغة جامدة سابقة، وسواء أكان المنطق قائما على مبدأي الهوية وعدم التناقض، أم على مبدأي الكلية والجمع بين الأضداد فإن قوانينه تظل على الدوام إطارات أو قوالب تبلغ من الاتساع والعمومية حدا يحول دون الإفادة منها في أي موقف عيني محدود، وكل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها تتيح وضع الكشف العلمي في إطار معين أو في صيغة منظمة «بعد» أن يكون هذا الكشف قد تم فعلا، والدليل الواضح على ما نقول هو نظرية داروين؛ فقد اتخذ ماركس من هذه النظرية مثالا لكشف ديالكتيكي من الطراز الأول، ولكن أهم ما في الأمر هو أنها تمت دون الاستعانة بأي نوع من الديالكتيك أو من المنطق، وحتى لو كان ذهن دارون ينطوي على فكرة فلسفية عن قوانين الديالكتيك، فمن المشكوك فيه إلى أبعد حد أن تكون هذه الفكرة قادرة على أن تجعله يخطو في بحثه خطوة واحدة تزيد عما كان يستطيع الوصول إليه بذهنه التلقائي المتفتح لملاحظة الواقع ، ومثل هذا يقال عن كل كشف علمي هام، وإن كان بعض العلماء ميالين إلى ربط كشوفهم بصيغ فلسفية أوسع، «بعد» أن يكونوا قد أتموا هذه الكشوف بنفس الطريقة المستقلة عن كل مبدأ منطقي أو ديالكتيكي مجرد.
إن كل محاولة للمبالغة في أهمية الصيغ المنطقية المجردة إنما تنطوي على إقلال من أهمية الواقع الحي في نفس الوقت وبنفس المقدار، ولو تصورنا الديالكتيك على أنه يسري على الطبيعة في جميع أوجهها، ويصلح منهجا يعيننا على كشف جوانبها المجهولة؛ لكان معنى ذلك أننا نجعل من الديالكتيك كيانا يسير بقوة تلقائية، ويتبع قانونه الخاص، ويتحكم في مجرى الأشياء دون أن يتحكم فيه هو ذاته شيء، وبين هذا التصور وبين اللاهوت خيط رفيع، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يجد سارتر في أقوال بعض المؤمنين بديالكتيك الطبيعة ما يذكره بنفس المبادئ اللاهوتية التي حاولوا القضاء عليها عن طريق الديالكتيك، كذلك فإن في هذه القوة التلقائية للديالكتيك ما يذكرنا بهيجل، أعني بذلك الفكر الذي وصف بأنه يفرض مقولاته على الواقع بصورة قاهرة، ويجعل من تصورات العقل قوالب يرغم الطبيعة على التشكل بصورها.
على أن الواقع المتطور المتجدد أرحب وأغنى من أية صيغة نحاول أن نضفي عليها طابع الشمول، وإذا كان هذا الحكم يصدق على مجال العلم فإنه يصدق أيضا على مجال المجتمع، أعني أن واقع المجتمع يتجاوز كل المحاولات التي تهدف إلى فرض نظرية موحدة عليه، ولنتأمل في هذا الصدد تلك الملاحظة العميقة التي وصف بها «إيبوليت» زيارة قام بها للاتحاد السوفييتي في الآونة الأخيرة: «لقد أعجبت بعمق وحيوية شعب يستحق أن يدرس في تراثه وإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أملي خاب إلى حد ما في الفلسفة التي تزعم أنها تعبر عن هذه التجربة، صحيح أن هذه الفلسفة آخذة في التفتح، وأنني أفدت من الاتصال بالفلاسفة هناك، ومع ذلك فقد راعني التعارض بين الإطار الديالكتيكي الجامد وبين التجربة الحية ذاتها؛ فقد كانت هناك هوة سحيقة بين التاريخ الفعلي وبين النظرة الديالكتيكية الموحدة.»
وكل الدلائل تشير إلى وجود اتجاه متزايد القوة - في ذلك البلد الذي اتخذ من الديالكتيك من قبل فلسفة رسمية - إلى عبور هذه الهوة بين واقعه الحي الزاخر وبين القالب الفكري الذي يعبر به عن ذلك الواقع، وإذا كانت هذه النظرة التوحيدية الجامدة - التي لا تقبل عن الصيغة الديالكتيكية الشاملة بديلا في جميع المجالات - قد ظهرت في مرحلة كان للاعتبارات العملية فيها دور أساسي في تأكيد ضرورة التشبث بمبدأ موحد، فإن تغير الظروف العملية في المرحلة الراهنة، وما ينتظر حدوثه في المستقبل من تطورات أعظم أهمية، كفيل بأن يزيل المخاوف التي تشجع على الجمود؛ فقد يقبل الإنسان مؤقتا أن يحصر ذهنه في إطار ضيق من أجل هدف عملي يعتقد أن له الأهمية الأولى، ولكن تحقق هذا الهدف لا بد أن يؤدي آخر الأمر إلى تحرير الذهن من هذا الإطار، وخصوبة التجربة ذاتها كفيلة بأن تطغى على النظرية وتفيض على جوانب الصيغة الجامعة.
من الذي صنع الأخلاق؟1
المشكلة
صنعها الضعفاء ليحدوا بها من سيطرة الأقوياء. (نيتشه)
अज्ञात पृष्ठ